بقلم / حسني عبد الحافظ
تُمثل الرادارات إحدى أهم الوسائل، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، في رصد الأهداف المُتحرّكة في مسرح العمليات القتالية، وليست كلها سواء في مدي الرصد ودقته.. وقد شهد العقد الأخير مزيداً من التطوير والتحديث لأنواع عديدة، بحيث صارت أكثر كفاءة في إنجاز المهام المنوطة بها، ويتفق جل خبراء الاستراتيجية العسكرية على أن الهوائيات الرادارية المصفوفة، هي الأهم بين النُظم الرادارية المعروفة، وأنه صار يُعوّل عليها في عمليات الاستكشاف، والرصد بعيد المدى في الحروب الحديثة.
قال عنها الأدميرال الألماني كارل دوينتر «إنها السلاح الأعظم، والأكثر حسمًا للحروب، بعد القنبلة الذرية». يعتبرها الأمريكان العنصر الرئيسي في منظومة «درع الصواريخ». يمكن الاستفادة من هذه الهوائيات المصفوفة في التقاط صور لما يدور وراء الأفق.
ماذا عن ماهية هذه الهوائيات الرادارية المصفوفة؟ وما دورها في مسرح العمليات القتالية؟
بنظرة تأريخية سريعة، فإن البدايات الأولى لظهور الرادارات، تعود إلى عام 1886م، عندما نجح الألماني هينريخ هيرتز في إثبات وجود الموجات اللاسلكية، واكتشاف أن ثمة تشابهاً بينها وبين موجات الضوء، وأنها تنعكس على الأجسام الصلبة.. وقد تواصلت الدراسات والأبحاث في هذا الشأن، على يد كُل من البريطاني مايكل فاراداي والاسكتلندي جيمس ماكسويل.. وفي عام 1904م، اخترع الألماني كرستيان هولتمير، أوّل جهاز لكشف الموجات اللاسلكية، التي تبثّها السُفن.. وتحققت قفزة نوعية في مجال تطوير أجهزة كشف الموجات اللاسلكية، بفضل الأبحاث والتجارب التي أجراها الإيطالي جوجليمو ماركوني، بدءًا من عام 1922م، حيث أمكن استخدام الموجات اللاسلكية ذات الذبذبات العالية في رصد أجسام تبعد بمئات الكيلومترات. وفي مُختبرات أبحاث البحرية الأمريكية، عكف كُل من العالمين تايلور ويومنغ على تطوير رادار يعمل بطريقة بث موجات لاسلكية مُتواصلة، يبلغ طولها خمسة أمتار.. وفي عام 1925م، ظهر الرادار النبضي. ويمُكن اعتبار عام 1930م بداية السباق الدولي نحو تطوير الرادارات، وكان على رأس المتسابقين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي (السابق)، وألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا.. ونتيجة هذا السباق نجحت الولايات المتحدة عام 1935م في ابتكار رادار نبضي بذبذبة قدرها 38,3 ميجا هيرتز، ونجحت ألمانيا عام 1939م، في ابتكار رادار الإنذار المُبكّر.. وقد توسّعت دائرة السباق، الذي ما زال مُحتدِمـًا إلى الآن، ودخلته كثير من دول العالم. وفي نقاط بعينها، يمُكن تحديد أهم أنواع الرادارات، التي تُستخدم في الأغراض العسكرية، على النحو التالي:
الرادار ثُنائي الموقع Bistatie Radar، وهو يتألّف من وحدتين رئيسيتين، الأولى وحدة الإرسال، والثانية وحدة الاستقبال، وغالبـًا ما تكون الأولى في موقع بعيد عن الثانية، وهي تُستخدم في توجيه الصواريخ نصف الإيجابية Semi – Active Guidance. الرادار الملليمتري، وحيّزه الترددي يقع بين 30 إلى 300 جيجا هرتز (يُناظر حيّز الطول الموجي من 1 إلى 10 مم)، وهذا الحيّز أدنى من حيّز الموجات الكهروبصرية، و أعلى من الموجات المُتناهية الصِغر. رادار دوبلر النبضي Pulsed Doppler Radar، وأبرز سماته تغيّر تردد الموجه الرادارية “نتيجة الحركة النسبية بين الهدف والرادار”.. واستخدامه الرئيسي هو التمييز بيـن الأهداف المُتحرّكة، والأهداف الثابتة. رادار كشف ما وراء الأُفق (OTH)، وتُستخدم فيه الموجات السماوية Sky Wave، أما المدى المُتاح للرصد، فيتراوح بين 3000 إلى 4000 كم. الرادارات المجُسمة (ثلاثية الأبعاد)، وهو قادر على تحديد وقياس ارتفاع الهدف، وكذا زاويته الأفقية، وبُعده المباشر عن موقع الرادار.
الهوائيات الرادارية المصفوفة :
وتُعد الهوائيات المكّون الأساسي والحاكم في إرسال واستقبال الموجات في المنظومات الرادارية، وهي تُصنّف إلى نوعين رئيسيين:
- الهوائيات ذات القطع المكافئ، وهي عبارة عن عواكس مصنوعة من مواد موصّلة، تأخذ شكل قطع مكافئ، وفي بؤرتها ثمة مصدر إشعاعي. الهوائيات المصفوفة، محور حديثنا هنا، وهي “عبارة عن مجموعة من العناصر المُشعة، يتم توزيعها في صف واحد، أو في صفوف مُتساوية ومتوازية، وهي تتواءم بشكل كامل مع الرادارات ذات الموجات الطويلة.. ومن حيث إمكانات المسح بمجسّم الإشعاع، فإن هذه الهوائيات المصفوفة، تنقسم إلى:
المسح الإلكتروني:
ويُستخدم فيه أجهزة ورادارات ميكروية، “قادرة على تغيير زاوية الطور، بين إشارات العناصر الإشعاعية المُتباينة، التي يتم استقبالها بداخل المنظومة الرادارية، ما يُتيح إجراء المسح في كل من زاوية الارتفاع، وزاوية الاتجاه الهوائي الراداري”، وهذا النوع من الهوائيات المصفوفة، يُعوّل عليه في إدارة منظومة صواريـخ الباتريوت، وطائرات ميج 31، والطائرات الفرنسية من طراز رفائيل، وطائرات PNP.. وبفضل التطور التقني الكبير، والتحوّل من السيليكون، إلى مادة الجاليوم/ أرسينانيد في صناعة الرادارات، ومولّدات التردد العالي، فقد شهدت مصفوفات المسح الإلكتروني مزيداً من التقدّم خلال السنوات القليلة الماضية، وصارت أكثر كفاءة في الأداء والمهـام المنوطة بها.
المسح الميكانيكي: وفيه تتجمع الإشارات، التي يتم استقبالها في الاتجاه المطلوب، الذي يكون عادة عموديـًا على مُستوى الهوائي، ومن ثم إمكانية الحصول على مجُسم إشعاعي، بزاوية ميل تصل إلى 60 درجة، على المستوى العمودي للهوائي، ما يُتيح إرسال واستقبال الموجات الكهرومغناطيسية.. ومن أهم الخصائص التي تتسم بها مصفوفات المسح الميكانيكي، إمكانية التحكّم في شكل مجُسم الإشعاع، وفي حجم الفصوص الجانبية للهوائي، بما يحُقق نتائج عالية الدقة، وكذا إمكانية تحديد سعة وطور الإشارة في كل عنصر إشعاعي، من عناصر المصفوفة، ما يُيسر الحصول على معلومات بعينها، عن الهدف المرصود.. وهذا النوع من المصفوفات الرادارية، يُستخدم على نطاق واسع، في رصد وتتبع الأهداف السطحية، والجويـة.
وفي الوقت الحاضر، ثمة برامج ومشاريع مهمة، تستهدف مزيداً من تطوير, ورفع كفاءة المصفوفات الرادارية، منها المشروع المُشترك بين كل من فرنسا, وألمانيا, وبريطانيا، والذي يسعي إلى تحقيق المُتطلبات المتنامية، لصد وسائل الهجوم الجوّي الحديثة، فيما بعد عام 2010 م.. والبرنامج الأمريكي، الذي يستهدف إيجاد جيل جديد، من المصفوفات الرادارية النشطة، المحمولة جوًا، التي تعمل على الترددات الموجية، في الحيز الميكروي، ومن المُزمع تركيبها على متن طائرات F22 وFSX.
الأهمية العسكرية للهوائيات المصفوفة
لقد صارت الجيوش الحديثة، تُعوّل كثيرًا على الهوائيات الرادارية المصفوفة، التي قال عنها الأدميرال الألماني كارل دوينتر «إنها السلاح الأعظم، والأكثر حسمًا للحروب بعد القنبلة الذرية».. لقد اتسع نطاق مهامها، وتعددت وظائفها، ويعتبرها الأمريكان العنصر الرئيسي في منظومة «درع الصواريخ»، حيث يمُكنها «تتبع نطاق الترددات السينية، المُتمركزة برًا، والإنذار المبكر ضد الصواريخ البالستية، العابرة للقارات، وتتبع مسارها».. إلى جانب ذلك تستطيع «تحديد مواقع الأهداف الإستراتيجية والعسكرية للعدو، كمرابض الطائرات الحربية بجميع أنواعها، والغواصات، والسُفن، والزوارق الحربية، وحاملات الطائرات، والدبابـات، والمدافع، والمركبات، وحتى مواقع تمركز الأفراد، وتحركاتهم»، ويمكنها توجيه القذائف المختلفة نحو الأهداف المُعادية بشكل آلي، وتحقيق إصابات عالية الدقة، وذلك من خلال «إضاءة الهدف بالموجات الكهرومغناطيسية، بحيث تستطيع القذائف، المُزوّدة بالرادار التقاط الموجات المنعكسة عن الهدف، ومن ثم سرعة التوجّه نحو هدفها». وإذا كانت الهوائيات المصفوفة ذات الحجم المحدد قادرة على إنجاز مهام عالية الدقة، خاصة فيما يتعلق بتحديد الارتفاع، ضمن منظومة الرادار ثلاثي الأبعاد، فإن الهوائيات المصفوفة ذات الحجم التكتيكي، أو الحجم المتوسط، هي الأكثر أهمية في عمليات المُراقبة والتتبع، وإضاءة الأهداف المُعادية، ومن ثم سرعة التعامل معها آليـًا.. بينما تستطيع الهوائيات المصفوفة العملاقة كشف ما وراء الأُفق، وتتبع سُفن الفضاء، ومراقبة نشاط الأقمار الصناعية. ولمواكبة ما طرأ على الطائرات الحربية، من تطوّر في نُظم التمويه والتخفّي، والسرعات العالية، التي وصلت إلى ضعف سرعة الصوت، فقد استُحدِثت هوائيات رادارية مصفوفة، تعمل بأشعة الليزر، قادرة على كشف وتتبع أهداف ذات سرعات فائقة، وإمكانية التدخل للتعامل معها آليـًا، ويمكن أن تحُمل على متن الأقمار الصناعية، وفي هذه الحالة تستطيع «تغطية مساحة شاسعة، تزيد على الـ12 مليون كيلو متر مربع دفعة واحدة، مع مُراقبة أدق التفاصيل العسكرية والمناخية». وبحسب الخُبراء المعنيين بالاتصالات الإلكترونية، فإن الجيل الجديد من الهوائيات الرادارية المصفوفة، التي تعمل بأشعة الليزر، يمكن أن يُعوّل عليه في التقاط موجات الرادارات المُعادية، وتحديد مواقع دفاعها، وتجمّعات أسلحتها المُتطورة، ودراسة الطاقة التكنولوجية للخصم، وقُدرته على المُتابعة ومنع التشويش، إضافة إلى مُراقبة حركة الطيران بشكل كامل، ليس في المجال العسكري فحسب، بل والمدني أيضًا، وكذا إمكانية التصنت على شبكة الاتصالات والمواصلات العادية بهدف تحليل رموزها، ومن ثم كشف بعض أسرارها المُهمة.. وبواسطة مناظير لها القُدرة على التقريب لنحو 1500 مرة، فإنه يمكن الاستفادة من هذه الهوائيات المصفوفة في التقاط صور لما يدور وراء الأفق.