معركة وادي المخازن أو الملوك الثلاثة
بسم الله الرحمن الرحيم
معركة وادي المخازن
أو الملوك الثلاثة
مقدمة
يزخر التاريخ الإسلامي بالعديد من المعارك الفاصلة التي شكلت نتائجها منعطفات هامة أثرت و لا تزال في بناء الحاضر الذي نعيشه، هذا الحاضر الذي و إن كنا نتفق على أنه ليس الأفضل، إلا أنه كان ليكون أسوأ لولا تضحيات السابقين من زعماء عظماء مجاهدين تصدوا للحملات المغرضة ضد بلاد الإسلام.
و تعتبر معركة وادي المخازن التي وقعت عام 985 للهجرة الموافق 1578 للميلاد إحدى هذه المعارك الفاصلة حيث كان يحكم المغرب الأشراف السعديون، بقيادة الملك عبد الملك السعدي (و في روايات قيل عبد المالك السعدي). تواجهت قوات عبد الملك السعدي مع الغزاة البرتغاليين الذين كانت أطماعهم المعروفة في المنطقة قد أدت لصراعات و تحالفات عديدة بالتعاون مع جيرانهم الأسبان حيث عرف الطرفان باسم(الأيبيريين). و تكمن أهمية المعركة في كونها أوقفت الحملة الصليبية الشرسة على المنطقة العربية و بالخصوص شواطئ الخليج العربي، وفقدت البرتغال استقلالها و تهاوت مملكتها الواسعة في أنحاء العالم.
و لا بد في مقدمة البحث أن نعرج بشكل سريع على تعريف السعديين، فهم أشراف حسنيون من أولاد علي بن أبي طالب، يرجح كونهم علويون أشراف أصلهم من ينبع النخل بالحجاز، نزلوا أول هجرتهم إلى المغرب بوادي درعة منذ القرن التاسع الهجري و انتقل بعضهم إلى تيدسي في القرن التالي حيث بويع الشريف محمد القائم عام 915هـ زعيماً للجهاد ضد البرتغاليين. التف الناس حول الشريف السعدي و أيدته الطرق الصوفية و بالخصوص الحركة الزجولية و التي كان أغلب أهل المغرب ينتمون لها.
و كان على السعديين قبل أن يخلص لهم الحكم أن يقودوا حركات النضال في ثلاثة جبهات: الأولى هي جبهة النضال ضد الاحتلال البرتغالي حيث أدى استرداد أغادير سنة 947 على يد محمد ابن الشرف القائم إلى التفاف المغاربة حول السعديين و جلاء البرتغاليين عن عدد من الثغور المغربية. الجبهة الثانية كانت ضد دولة الوطاسيين حيث نجح السعديون في القضاء عليهم و الاستيلاء على عاصمتهم عام 955، أما الجبهة الثالثة فهي ضد الأتراك العثمانيين حيث انتهى الصراع بهدنة و رضخ العثمانيون لاستقلال المغرب عن حكمهم.
و لكن حسم الصراع في الجبهات التي سبق ذكرها لم يكن كافياً لاستقرار السعديين، فمن جانب كانت بعض الثغور لا تزال بعيدة عن متناول أيديهم، و من جانب آخر تعرضت الدولة السعدية لخيانة بعض حكامها الذين تنازلوا عن بعض المناطق الهامة، و ذلك ما سبب صراعاً مع أفراد آخرين من الأسرة السعدية مما أدى لتحالفات شاذة ما بين قلة من المغاربة و بين أشد أعداء المغرب. و لتلك الحوادث تفاصيل سنعرج على ما نستطيع منها وصولاً إلى ذكر تفاصيل المعركة و أبطالها و نتائجها.
1
حملات الأيبيريين ضد المغرب
شكل سقوط غرناطة بيد الأسبان عام 897 هـ - 1482م بداية لانطلاق أسبانيا لبسط سيطرتها على الضفة الأخرى من البحر باحتلالها الثغور الإسلامية القائمة عليها، لكن مملكة البرتغال سبقت جارتها في هذا المجال لأنها حررت أراضيها من الحكم الإسلامي قبلها بأكثر من قرنين فوطدت قواها و استولت على ثغر سبتة عام 818 للهجرة فكانت تلك أولى الحملات الاستعمارية التي قامت بها المسيحية في هجومها على غرب العالم الإسلامي.و لم يمض أكثر من قرن واحد حتى استولى البرتغاليون على أكثر الثغور المغربية و ذلك خلال فترة الضعف ما بين انقراض الدولة الوطاسية و ظهور الدولة السعدية.
و في هذه الفترة كانت أسبانيا قد أتمت تحرير أراضيها من الحكم الإسلامي و أعدت حملات عدوانية و استولت على مليلة و المرسى الكبير و وهران في بادئ الأمر، غير أن المحتلين الأيبيريين لم يتجاوزا الشواطئ المغربية بنفوذهم و لا أن يبسطوا سلطانهم لداخل المغرب و ظلوا محتمين وراء أسوارها مستفيدين من المراسي و المنافذ البحرية، و يرجع الفضل في ذلك إلى الروح الدينية الوطنية التي استطاع المؤمنون المخلصون إبقائها في أنفس المسلمين فقامت في البلاد حركة صوفية واسعة النطاق توجهت لمقاومة العدو، و هكذا تمكن محمد الشيخ السعدي من تحرير أغادير عام 947 للهجرة من يد البرتغاليين مما دعاهم لإخلاء أسفي و أزمور و أصيلة خوفاً من السعديين، ثم حررت أصيلة و القصر الصغير و لم يبق للبرتغاليين إلا طنجة و سبتة في الشمال و الجديدة في الجنوب.
وحاول عبدلله الغالب السعدي تحرير الجديدة فحاصرها عام 969 للهجرة و لكنه اضطر لرفع الحصار في انتظار ظروف مواتية أخرى. و تبعت تلك المحاولة الفاشلة تنازل الغالب السعدي عن ثغر بادس في الشمال إلى الأسبان ليجعل منهم حاجزاً فاصلاً بينه و بين العثمانيين مما اعتبره التاريخ خطئاً لا يغتفر، و قد أدى تنازل الغالب السعدي عن ثغر بادس إلى غضب عبد الملك السعدي و أخيه أحمد السعدي فثارا عليه و التجئا للقسطنطينية يلتمسان عون السلطان العثماني.
2
كفاح عبد الملك السعدي لتسلم مقاليد السلطة
تثني المصادر التاريخية المغربية على شخصية الأمير السعدي عبد الملك لما كانت له من سجايا حميدة من صفات شخصية و ثقافة علمية عالية المستوى و اطلاعه الواسع على الأحوال السياسية العالمية. بحنكته و ذكاءه توجه عبد الملك برفقة أخيه إلى القسطنطينية حيث كان السلطان سليم يجهز قوات ضخمة لتحرير تونس من الأسبان، فلما وصل الأمير السعدي إلى رحابه استقبله و رأى أن يستفيد من خبرته فجعله أحد قواد الحملة تحت إمرة القائد سنان باشا. خرج الأسطول العثماني سنة 981 للهجرة قاصداً مرسى تونس الذي اتخذه الأسبان معقلاً لها، و تمت محاصرة الأسطول بمساندة واليا القيروان و طرابلس حتى هزم الأسبان هزيمة ساحقة.
كانت والدة عبد الملك السعدي المتواجدة في القسطنطينية هي أول من علم بالنبأ فأعلمت الخليفة به قبل أن يصل للباب العالي، و قيل إن الأمير عبد الملك و أخيه الأمير أحمد وصلا قبل الجميع فأتيح لها حمل بشارة النصر، فاغتنما الفرصة عارضين عليه أن يقدم لهما عونه للقضاء على الانحراف الذي بدأ من أخيهما الغالب بتنازله عن بادس، فاستجاب السلطان العثماني للطلب و زود الأميرين بالأموال و السلاح و الأقوات و كتب لوالية في الجزائر أن يضع خمسة آلاف من عسكر الترك تحت قيادتهما لاجتياح أرض المغرب الأقصى.
رجع الأميران السعديان إلى الجزائر لإعداد الحملة و أثناء ذلك توفى الغالب بالله و تولى ابنه محمد المتوكل مكانه، و كان ظالماً مستبداً قام بقتل اثنين من إخوته و سجن ثالثاً فكرهته الرعية و نفرت منه حاشيته و رؤوس أجناده فانتهز عبد الملك الفرصة ليكتب لهم واعداً و مرغباً لينفضوا من حول ابن أخيه و يلتحقوا بمجموعته الزاحفة. و دخل المغرب على رأس جيش من الأتراك زاحفاً نحو فاس دون مقاومة.
عندما اقتربت قوات عبد الملك من فاس خرج المتوكل لملاقاته، و لكن قادة جيش المتوكل أخذوا ينضمون لعمه فاشتد جزعه و هرب تاركاً الطريق أمام عبد الملك للدخول لفاس التي استقبله أهلها و علماؤها بالفرحة مبايعين إياه، و عين أخاه أحمد نائباً عنه في فاس. فيما التجأ المتوكل إلى والي بادس الأسباني بعد أن طارده جنود عبد الملك.
استلم عبد الملك السعدي خزينة الدولة فارغة و الجيش في حالة يرثى لها، فانتهج إصلاحات اقتصادية و عسكرية معتمداً على التجارة البحرية و ما رافقها من الاستيلاء على مراكب الأعداء، و وجهت الأموال لتقوية أجهزة الدولة و بناء قوات عسكرية منظمة و مدربة قوية التسليح كان عبد الملك يسهر عليها بنفسه. و تحقق للمغرب ازدهار اقتصادي و قويت أجهزته الدفاعية و شاع الأمن و انتشرت أسباب الرفاهية و ودت الدولة و ألفت بين القلوب، و ذلك كان الأساس المتين الذي قام عليه النصر الكبير في معركة وادي المخازن.