فسخ العزائم ونقض الهمم
د. عبد العزيز بن محمد آل عبداللطيف(*)
سـاق ابـن الجـوزي بسـنـده أن أبـا معمر القطـيـعي (ت 236هـ) من شدة إدلاله(1) بالسُنَّة يقول: لو تكلمتْ بغلتي لقالت إنها سنّية، فأُخذ في محنة القول بخلق القرآن فأجاب، فلما خرج قال: كفرنا وخرجنا(2).
تكشـف هـذه الواقعـة عـن المفارقة بين الدعاوى والأقاويل في حال السلامة، وبين النوازل والشدائد إثر وقوعها، وقد جاء في حديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأسألك الرضا بعد القضاء»، أخرجه أحمد والنسائي. قال الحافظ ابن رجب في شرح حديث عمار: «وإنما قال: الرضا بعد القضاء؛ لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، فإذا وقع القضاء فقد تنفسخ العزائم..
فلا ينبغي للعبد أن يتعرض للبلاء، ولكن يسأل الله العافية، وأن يرزقه الرضا بالبلاء إن قُدر له البلاء»(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الشأن: «وما أكثر انفساخ عزائم الناس، خصوصاً الصوفية، ولهذا قيل لبعضهم: بم عرفت الله؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم، وقد قال ـ تعالى ـ لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ [الصوفية]: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْـمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} [آل عمران: 143]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 2 - 5](4).
وكلما أغرق الشخص في الأماني والدعاوى العريضة كان أكثر تعرضاً لنقضها والنكوص عنها، كما يُذكر عن سمنون المحبّ أنه كان يقول:
وليس لي في سواك حظ
فكيف ما شئت فامتحنّي!
فحُصر بوله، فكان يدور على المكاتب ويفرّق الجوز على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذّاب.
وفي رواية أنه قال: يارب قد رضيتُ بكل ما تقضيه عليّ، فاحتُبس بوله أربعة عشر يوماً، فكان يتلوى كما تتلوى الحية على الرمل؛ يتلوى يميناً وشمالاً، فلما أطلق بوله قال: يا رب تبتُ إليك»(5).
وقال ابن تيمية عن هذا الصنف: «فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح، يدّعي أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الربّ عن ربوبيته والنبي عن رسالته، ثم آخرته شحّاذ يطلب ما يقيته، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته، فيفتقر إلى لقمة، ويخاف من كلمة؛ فأين هذا الفقر والذلّ من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز؟!»(6).
وقال في موطن آخر: «إن الواحد من هؤلاء لو جاع في الدنيـا أياماً، أو أُلقـي في بعـض عـذابهـا، طـار عقله..؛ فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته»(7).
لقد عني المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه «الواقعية» ومراعاة أحوال المكلفـين، وملائمة جِبِلّة الإنسان بقوته وضعفه، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي وهو مريض كالفرخ، فقال: هل كنت دعوت الله بشيء؟ فقال: كنت أقول: اللهم ما كنت معذِّبي به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا، فقال: سبحان الله! لا تستطيعه ـ أو: لا تطيقه! ـ؛ هلاّ قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار!»(8).
كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى السداد والاقتصاد في العبادة؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله # قال: «سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا!»(9).
يقول الحافظ ابن حجر: «قوله: سددوا، معناه اقصدوا السداد، أي: الصواب. وقوله: قاربوا أي: لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة؛ لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرِّطوا»(10).
إن الغلو والإفراط يورث تفلتاً وانحلالاً، ومن ذلك أن أقواماً حرّموا ما أحل الله تعالى؛ فزعموا أن أكل الحلال متعذر في هذه العصور، فأعقبهم ذلك إباحيةً؛ فصار الحلال ما حلّ بأيديهم، والحرام ما حرموه؛ «لأنهم ظنوا مثل هذا الظن الفاسد؛ وهو أن الحرام قد طبق الأرض، ورأوا أنه لا بد للإنسان من الطعام والكسوة، فصاروا يتناولون ذلك من حيث أمكن، فلينظر العاقل عاقبة ذلك الورع الفاسد كيف أورث الانحلال عن دين الإسلام»(11).
فالغلو لـمّا كان مخالفاً للشرع ومصادماً لجِبِلّة الإنسان ونوازعه، أعقبه التفلت والانحلال.. كما أن الغلو والتشدد ذريعة للحيل المحرمة والتوثب على شعائر الله بأدنى الحيل، كما كشف عن ذلك ابن تيمية بقوله:
«ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل؛ فوجدته أحد شيئين: إما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع؛ فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل، وهذا من خطأ الاجتهاد؛ وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له وأدى ما وجب عليه؛ فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبداً؛ فإنه ـ سبحانه ـ لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بُعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة»(12).
لقد جاء الإسلام وسطاً تجاه حظوظ النفوس وشهواتها؛ بين من دنّسها ومن قدّسها؛ فإذا كان أرباب الشهوات قد أسرفوا على أنفسهم فأضاعوا الصلوات واتبعوا الملذات؛ فإن الذين دنّسوا الشهوات قد خالفوا السنة وصادموا الفطرة، فعمدوا إلى استئصال هذه الشهوات الجبلِّيّة فتعذّر عليهم قمع تلك الغرائز؛ فانتكسوا في الإباحية واتباع الشهوات.
فينبغي التوسط بين المثالية الجامحة والواقعية المفْرِطة؛ فإن المثالية الجامحة قد يستحوذ عليها الاندفاع والحماس، فلا تراعي الواقع وشأن المصالح والمفاسد، كما أن الواقعية المفْرِطة منهمكة في مجاراة الواقع بعُجَرِه وبُجَره، وقد يؤول إلى هزيمة واستسلام، بل ربما أفضى إلى أن يصير هذا الواقعُ الموجع حاكماً على النصوص الدينية والثوابت الشرعية؛ فـ «المثاليون» قد تنفسخ عزائمهم وتنتقض هممهم، و «الواقعيون» قد غيّبوا عزائمهم واختفت هممهم وسبيل الحق بينهما.
--------------------------------------------------------------------------------
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) الإدلال بمعنى الإفراط في الثقة.
(2) المنتظم 11/239.
(3) مجموع رسائل ابن رجب 1/176.
(4) الاستقامة 2/87؛ وانظر: التحفة العراقية ص 44.
(5) انظر: حلية الأولياء 10/309، 310؛ ومجموع الفتاوى لابن تيمية 10/241، 690.
(6) منهاج السنة النبوية 7/29.
(7) النبوات 1/344.
(8) أخرجه مسلم: كتاب الذكر: حديث (2688).
(9) أخرجه البخاري حديث (6463).
(10) فتح الباري 11/297، 298 باختصار.
(11) مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/312.
(12) مجموع الفتاوى 29/345 بتصرف يسير.
http://www.albayan-magazine.com/bayan-240/bayan-22.htm