بموازاة المعرض الاستعادي الذي ينظمه
حاليا متحف الفن الحديث في الجزائر العاصمة للفنان محجوب بن بلّة، تنظم
غاليري كلود لومان الباريسية معرضا فرديا يتألف من لوحات تغطي فترة الأعوام
العشرين الأخيرة من نشاط هذا الفنان، الذي تمكن من ابتكار أسلوب تشكيلي
فريد سمح له بفرض نفسه منذ ثمانينيات القرن الماضي عربيا وأوروبيا وعالميا.
وأوّل ما يلفت الانتباه في أعمال بن بلة
المعروضة حاليا في باريس هو غزارة العلامات المجردة التي تكتسح فضاءها،
وتواتُرها على شكل أصداء تتكرّر إلى ما لا نهاية، كما لو أن كل لوحة هي
توليفة موسيقية لنشيد مكتوب بأبجديةٍ خاصة. وهذا ما يفسّر ربط كثير من
النقاد هذه العلامات بفن الخط العربي، علما بأن هدف الفنان ليس تزيينيا، بل
ترجمة موسيقى داخلية تجسّد الخطوط والألوان إيقاعاتها.
|
لوحة "طوطم" للفنان محجوب بن بلة (الجزيرة) |
حركة الحياةولا نسعى بقولنا هذا إلى التقليل من تأثير
فن الخط العربي على عمل بن بلة، بل الإشارة إلى تصفيته السريعة والتدريجية
لهذا التأثير، وإلى عدم إبقائه من هذا الفن سوى جوهره الشكلي، وبالتالي
التأكيد على تغذّي الفنان -الذي يعيش في فرنسا منذ أكثر من أربعين عاما- من
تقليدَين فنّيين هما الشرقي والغربي معا.
وهذا الإرث المزدوج هو الذي سمح له بتحويل
فن الرسم -الجامد بطبيعته- إلى نموذج مفارق للحركة التي تميّز فن الكتابة.
لكن بدلا من معان ثابتة، يسيّر بن بلة في لوحاته علامات حية، لغة مصفّاة،
أو كتابة تم تقليصها إلى حركتها، إلى رغبتها وخطّها وآثار جريها، باعتبار
أن "الخط جملة لكن بدون كلمات"، كما يقول الشاعر هنري ميشو.
وهكذا نرى خطوط بن بلة جملا خاضعة لما
يتعذّر تحديده، وناشطة خارج أي مدلول، ومع ذلك -أو ربما بفضل ذلك- تمنحنا
إمكانية الرؤية أفضل من أي لغة فعلية، لتجسيدها حركة الحياة نفسها بحيويتها
ورشاقتها والتواءاتها.
وتجدر الإشارة إلى أن زعزعة بن بلة في
عمله لفن الخط العربي، لم ترتكز فقط على الانحراف بأشكال حروفه، بل أيضا
على تحويله من وظيفته الأولى وإعادة تملّكه كمادة تشكيلية صرفة، ارتقى بها
إلى حدود التجلي. وفي سعيه هذا، تمكن من خلق حوار ثابت ودقيق بين العلامة
واللون، نتج عنه أسلوبٌ مبتكَر وغنائي، يحثنا على التأمل والخشوع، نظرا إلى
غزارة علاماته الغامضة والمثيرة التي تقارع بدقّتها سحر الطلاسم، وتحتل
بكثافة إيقاعاتها الفضاء الموضوع في تصرّفها مهما بلغ حجمه.
|
إحدى لوحات بن بلة (الجزيرة) |
كتابة رمزيةويتجلّى
ذلك خاصة في عمل "عكس الشمال" (١٩٨٦) الذي غطى بن بلة فيه مسافة 12 كلم من
طريق باريس-روباي، أو عمله الآخر الذي عُرِض على مساحة أربعة آلاف متر
مربع في ملعب "باسيمبو" في مدينة ساوباولو البرازيلية عام 1999، دون أن
ننسى ديكور محطة مترو "كولبير" في مدينة غرونوبل الفرنسية، الذي أنجزه عام
2000.
وسواء في هذه الأعمال الضخمة أو في لوحاته
المرسومة على قماش وورق أو على ألواح خشب، يلجأ بن بلة إلى رسم شبه آلي
تتحكم خطوطه الحيوية والمكررة في عملية توزيع الألوان، فيظهر لنا على شكل
رقصة تجلب الدوار بحركاتها غير المتطابقة، أو على شكل نشيد بأصوات متعددة
يقودنا تنافرها إلى حدود الهلوسة.
رسم يقتلعه الفنان من نظام التقليد
(mimesis) المُكرِه، ويبدو في حالة صراع مع الفضاء الذي يحل فيه، رسم
يستمدّ من عالم ما قبل اللغة -أو ما بعدها- الطاقة الضرورية لبلوغ هدفه:
تفجير التكييف الذي نخضع له في مجتمعاتنا ويقلّص إمكانياتنا التعبيرية اللا
متناهية.
وليست عبثية مواظبة بن بلة -المولود عام
1946 في الجزائر- على ابتكار حروف جديدة ومحرّرة من أي وظيفة دلالية، بل
الغاية منها بلوغ كتابة رمزية خاصة تسمح للفنان بإسقاط جوانب من ذاته
وبالتعبير عما يختلج داخله، وفي الوقت ذاته تعكس -بارتجاج خطوطها وألوانها
وفيض علاماتها- صخب الحياة نفسها. كتابة تنبثق من حركة رسم سريعة تنقل
صاحبها إلى حدود الانخطاف، وتسمح له بالتقاط الجانب العابر والدائم للمظاهر
فتجعلنا نرى ما وراء الأشكال.
أما الضوء الباهر في لوحات بن بلة -الذي
أدرج اسمه في دليل متحف الميتروبوليتان الأميركي الشهير- فيرى النقاد فيه
جوهر عمله، ويربطه بعضهم بحنين الفنان إلى ضوء الجزائر الذي لطالما تأمّل
تحولاته الساحرة في صغره وأعجب بسلطته على تغيير هيئة الأشياء بمساراته
المتعددة.
الجزيرة