معهد العربية للدراسات
هذه الدراسة هي مراجعة نقدية لدراسات البروفيسور آفرايم آنبار وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار ايلان ومدير مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية (BESA) بنفس الجامعة وقد تولى من قبل مهمة مدير لجنة الأمن القومي في مجلس التخطيط الوطني في إسرائيل. وهو من أهم الكتاب الاستراتيجيين الإسرائيليين، ويعتبر آنبار من الشخصيات الأكاديمية المقربة للدوائر العسكرية والسياسية العليا في إسرائيل.
قد يعكس الكلام الأخير الذي صرح به وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كسينجر لجريدة نيويورك بوست منذ أيام عن أنه من المتوقع أن لا تكون هناك دولة تسمى إسرائيل بعد عشرة سنوات، حقيقة التصورات الإسرائيلية عن فداحة المخاطر والتحديات التي تواجه الدولة العبرية في ظل سيادة حالة من الغليان والتحول السياسي والاجتماعي التي يمر بها العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط.
إن هناك حالة متفشية من الخوف والفزع في المجتمع الإسرائيلي من تداعيات الاحتجاجات الشعبية الكبيرة التي عصفت بالكثير من الأنظمة السياسية الصديقة والموالية للغرب ولإسرائيل مثل مصر وتونس وليبيا وغيرها. حيث تخشى إسرائيل بعد سقوط النظام الحليف لها في الجنوب (مصر) والسقوط الوشيك للنظام الاستبدادي في الشمال (سوريا)، واحتمال انتقال حمى هذه الاحتجاجات والاضطرابات لحليفها الباقي في المنطقة (المملكة الأردنية) بصورة تجعل منها محاطة بنظم ثورية وشعبية معادية وكارهة لوجودها، إحاطة السوار بالمعصم. وهو الأمر الذي سيجعلها مجرد جزيرة في بحر من الكراهية لوجودها غير الشرعي ولسياساتها العنصرية المعادية للفلسطينيين ولكل ما هو عربي.
مثل هذه التحديات والمخاطر الجوهرية التي تواجه الدولة العبرية، تفرض في رأي الكثيرين من المحللين والخبراء العسكريين الإسرائيليين على إسرائيل (وتحديداً جيش الاحتلال الإسرائيلي) الاستعداد لخوض معارك طويلة المدى وعلى عدة جبهات في ذات الوقت مع عدة أعداء ومنافسين، دولاً وأفراداً وجماعات، لأن هي أرادت الحفاظ على أمنها واستقرارها ووجودها، وهو ما يعني أن كافة الطرق والوسائل (الشرعية وغير الشرعية) ستكون متاحة ومسموح بانتهاجها في معركة البقاء. إن التداعيات والعواقب التي أظهرها الربيع العربي- وإن أنزوى وضوحها تحت تأثير بعض الارتدادات الوقتية في مسار التحول الديمقراطي– تعتبر أخطر الأزمات والتحديات التي واجهت إسرائيل منذ وجودها كدولة محتلة في مايو 1948. وقد لا تنجو منها إن أحسن العرب توظيف هذه الهبات الشعبية الغير مسبوقة في تاريخهم الحديث.
من وجهة نظرنا، فإن منبع الخطر الحقيقي الذي يمثله الربيع العربي على إسرائيل هو خشية إسرائيل وعدم تقبلها الحياة وسط عالم عربي تسوده الديمقراطية، وتحكمه نظماً مستقلة عن القوى الكبرى تملي عليها سياساتها الداخلية والخارجية. وهو ما يفسر كل هذا العداء للربيع العربي، والمحاولات التي لا تهدأ لشيطنته وإظهار إن لعنة وكابوس يهدد السلام والاستقرار الاقليمي والعالمي. فإسرائيل تستكثر على
الشعوب والمواطنين العرب حقهم في العيش في أوطان حرة وديمقراطية، بكرامة واحترام لحقوقهم ولآدميتهم. إن وجود عالم عربي حر وديمقراطي هو أسوأ السيناريوهات المحتملة لدولة إسرائيل، التي لا تمل من ترديد أكذوبة إنها الدولة الديمقراطية الوحيدة وسط جزيرة عربية من الديكتاتورية والتخلف والتعصب.
بين أيدينا الآن دراسات رصينة وخطيرة لواحد من كبار المحللين والأكاديميين الإسرائيليين في مجال العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، الذي لا نبالغ إذا ذكرنا أن دراساته ومقالاته تعكس الرؤية الرسمية الإسرائيلية، أو تقاربها إلى حد كبير. فمؤلفها هو البروفيسور إفرايم آنبار، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بار آيلان الإسرائيلية، وقد نشرت هذ الدراسات في مجلة واشنطن كوارتللي الأمريكية، ومن قبل نشرت نسخة مطولة منها على هيئة تقرير صادر عن مركز بيغن–السادات للدراسات الاستراتيجية، الذي يتولى آنبار إدارته، في شهر فبراير 2012. وقد أثرنا الاعتماد على الاستعانة بالنصوص الأصلية حرفياً (على الرغم من رفضها وعدم قبول منطقها) من أجل توضيح وجهة النظر الإسرائيلية للقارئ العربي كما وردت في النص الأصلي. ويجب ملاحظة أن الكاتب قد دأب على استخدام مدينة القدس الشريف والإشارة إليها باعتبارها عاصمة دولة إسرائيل، وذلك قبل حوالي عشرة سطور من إعلان الحكومة الإسرائيلية عزمها عن تحويل عاصمتها من تل أبيب إلى القدس، وهي الخطوة التي رفضها أغلب أعضاء المجتمع الدولي، وهو ما يعني أن مثل هذه الخطوة كانت موضع دراسة وتوافق إسرائيلي كبير قبل الإقدام على التصريح بها.
وهو ما نرفضه تماماً، ونرى فيه محاولة لفرضها كأمر واقع، بما فيه من تجاهل وقح للأعراف والاتفاقيات الدولية التي دأبت على إعلان أن القدس مدينة ذات سيادة دولية، ورفض أغلب دول العالم الاعتراف بها كعاصمة للدولة اليهودية.
لماذا تخشى إسرائيل الربيع العربي
بالرغم من اعتراف انبار بالأوضاع المتردية التي تحيا فيها كافة الدول العربية، التي ما زالت تعاني من ركود اجتماعي وأزمات سياسية عميقة، ولا توجد لديها إلا فرصة صغيرة لإحداث تغيير إيجابي في أي وقت قريب. حيث فشلت دول العالم العربي في رأيه في تحقيق التحديث في كثير من النواحي. حيث لا توجد حتى الأن دولة عربية ديمقراطية مستقرة. ويستشهد آنبار بتقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة ليظهر مدى تخلف الدول العربية كثيرا عن بقية العالم في مجالات الحريات المدنية والحقوق السياسية، والتعليم والمساواة بين الجنسين، والانتاجية الاقتصادية، ويرى (وهو في ذلك محقاً) أن هذه الحالة التي يرثى لها من الأوضاع كانت السبب الرئيسي للاستياء والإحباط وتأجيج الاحتجاجات الشعبية. ويجادل كذلك بأن غياب وجود ثقافة سياسية ديمقراطية ليبرالية، تجعل من المحتمل أن هذه الاحتجاجات الجماهيرية الساعية لتحقيق التغيير السياسي أو الديمقراطية أن تفشل وتذهب أدراج الرياح. ويتوقع بدلاً من ذلك إما أن تظل الأنظمة الحالية باقية في السلطة أو يتم استبدالها بدكتاتوريات جديدة، معتدلة أو متطرفة. إلا أن مصدر الخوف الإسرائيلي الحقيقي من الربيع العربي إسرائيل هو خشيتها من حالات التفاؤل التي سرت في عروق الدول والشعوب العربية التغيير الذي أحدثته الثورات الشعبية، ومرجع الفزع من الربيع العربي يتمحور في ثلاث مخاوف رئيسية، الخوف من استمرار سقوط النظم العربية الصديقة لإسرائيل، فإن كانت حدة الربيع العربية قد بدأت في الانحسار، إلا إنها قد تركت أثرا واسع النطاق على المنطقة. حيث انهارت ثلاثة أنظمة استبدادية، وجعلت بقية الديكتاتوريات تعاني بدرجات متفاوتة من التضييق. تخشى إسرائيل من التغير الجاري في توازن القوى في المنطقة الذي بدأ يميل لصالح تركيا وإيران، اللتان تشجعا وتؤيدا العناصر الراديكالية في المنطقة، وليس إسرائيل. التراجع البادي في نفوذ الولايات المتحدة الذي سيؤثر سلبيا على حد سواء عملية السلام العربي الإسرائيلي وعلى قوة الردع الإسرائيلية.
إلا أن المؤلف يحاول طمأنة نفسه بالقول من إنه وعلى الرغم من أن البيئة الأمنية الإقليمية قد تدهورت، إلا أن إسرائيل مازالت دولة قوية. فعلى الصعيد الداخلي، فإن المجتمع الإسرائيلي من وجهة نظره قد أظهر مرونة كبيرة في مواجهة تحديات الأمن القومي التي واجهت إسرائيل في الماضي، حيث يتفهم معظم الإسرائيليين أنهم يحيون في جيرة خشنة ومعادية لهم إلى حد كبير. وعلى الصعيد التسليحي والعسكري، فإن الفارق أو الفجوة في القوة بين إسرائيل وجيرانها أكبر من أي وقت مضى، وهو ما سيسمح لها بمواجهة معظم التحديات بمفردها.
إن التغيرات التي أوجدها (وسيوجدها) الربيع العربي خلقت عدة تحديات ومخاطر استراتيجية لإسرائيل. حيث يرى المؤلف أن إسرائيل في المستقبل قد تواجه خمس تحديات استراتيجية هائلة في المستقبل القريب، وهي العزلة الإقليمية، المزيد من التهديدات الارهابية، تهديد الممرات البحرية، تهديد موارد الطاقة في منطقة شرق البحر المتوسط، واحتمالات امتلاك إيران للسلاح النووي.
جـيـرة مـتـدهـورة
يرى آنبار أن عدم استقرار الدول العربية المجاورة لإسرائيل، الذي سيجبرها على التركيز على التعامل مع المشاكل الداخلية واتجاهات سياساتها الخارجية، سيجعل توازن القوى في المنطقة يميل في المستقبل القريب لصالح القوى الغير عربية. وفي موازاة ذلك، يرى آنبار أن قدرات الولايات المتحدة الامريكية على وقف هذه التغير قد أنخفضت وتراجعت بصورة واضحة.
يرى المؤلف أن التفاؤل بمستقبل الثورات العربية (التي لم يطلق عليها أبداً هذا المسمى في الدراستين) يعتبر مجرد سراب ووهم. حيث يرى أن الدعاوي القائلة بقدرة ثورة ’’الياسمين‘‘ في تونس أو ثورة ’’اللوتس‘‘ في مصر على تحقيق الديمقراطية تعكس سوء فهم للعمليات السياسية المعقدة في المنطقة. ويجادل بأن المساعي والأمال الشعبية ببناء نظام سياسي أكثر عدالة وانفتاحا قد تم أختطافها في الانتخابات الحرة التي جرت في كلا من تونس ومصر، وكما حدث في لبنان من قبل، من قبل الإسلاميين، الذين لا يمكن من وجهة نظره الوثوق في التزامهم بالقيم الديمقراطية. فبأعتبارها أكبر وأقوى القوى السياسية تنظيماً وتنسيقاً، فإن جماعات الإسلام السياسي كانت البديل الأكثر جهازية للإحلال مكان الطغاة العرب، والأقرب في الحصول على أفضل فرصة لكسب السلطة، سواء عن طريق الانتخابات أو الوسائل الثورية.
يلجأ البروفيسور آنبار، الذي هو في الأساس أستاذ للعلاقات دولية، للأستعانة بالأدبيات الواقعية لإظهار إنه لا يمكن الوثوق بالإسلاميين في المستقبل، ويجادل بأن زيادة تأثير الاسلاميين في الدول العربية قد يدعو هذه الأنظمة لأنتهاج سلوكيات وسياسات حماسية وثورية. ويري إنه من سوء طالع الدول المجاورة لهذه الدول الثورية، أن هذه الأنظمة عموما كانت تميل الى أنتهاج سلوك عسكري عدواني خلال السنوات الأولى لتوليه السلطة. بل ويزيد في خوفه وفزعه من أي تحول ديمقراطي حقيقي في العالم العربي لحد الجدل بإنه حتى لو فازت العناصر الديمقراطية الضعيفة في العالم العربي، على الرغم من كل الصعاب التي تواجهها ونجاحها في إتمام عملية التحول الديمقراطي، فإن هذه الدول لا تزال تمثل خطرا على جيرانها. فعلى الرغم من أن عملية التحول الديمقراطي جديرة بالثناء، إلا أن السجل التاريخي يشير إلى أن الدول التي تمر بمرحلة انتقالية إلى ديمقراطية مستقرة كانت أكثر عرضة للتورط والإنغماس في الحرب أكثر من الأنظمة الاستبدادية. وسواء تولى السلطة في المنطقة أنظمة ثورية إسلامية أو ديمقراطيات ناشئة، فكلا الخياران بالنسبة لانبار لا ينذران بالخير لاستقرار المنطقة من وجهة نظره.
ويتوقع انبار احتمال أستمرار حالة التدهور الإقليمي وبزوغ العديد من المخاطر التي قد تمزق العديد من الدول وتجرها للاضطرابات والحروب الأهلية، أو الانزلاق لتكون ’’دولاً منهارة‘‘ كما هو الحال في ليبيا واليمن. ويرى كذلك أن أحتمالات تفكك العراق وسوريا تظل ليست بعيدة المنال. بأختصار، الخلاصة، فإن العالم العربي من وجهة نظره تسوده الاضطرابات، نزاعات الأسلمة، وأحتمالات التجزئة والتفكك.
تغير توازن القوى الإقليمي
من النتائج الجلية للربيع العربي (وربما من قبله) صعود القوى الغير عربية في الشرق الأوسط مثل إيران، إسرائيل، وتركيا. ومن جانب أخر تراجع القوى العربية التقليدية، مثل مصر العراق، وسوريا، التي تواجه هي الاخرى تغييرات داخلية خطيرة قد تؤثر على توازن القوى في المنطقة. حيث ستفرض الحاجة للتركيز على المشاكل الداخلية الحد من قدرتها على بناء قوتها الوطنية، ونشر قواتها وراء حدودها، ومنازلة وتحدي النفوذ الإيراني و/أو التركي في المنطقة.
بشكل مبالغ فيه، يثير الأهتمام، يربط آنبار بنيوياً بين صعود التيارات الإسلامية بعد الربيع العربي وتزايد النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة. حيث يقول أن كلا من الدولتين، اللتين تؤيدان القوى الإسلامية المتطرفة من وجهة نظره، رحبتا بالربيع العربي (وهو الامر الغير صحيح كلياً) خاصة في مصر. وبأن كلا الدولتان تسعيان لإضعاف العرب، منافسيهم الإقليميين التقليديين، وتتنافسان كذلك على الهيمنة الإقليمية.
ويرى آنبار أن كافة التحولات الاقليمية تصب في صالح كلا من طهران وأنقرة. فمن جانب، فإن استمرار محاصرة مصر بالكثير من المشاكل الداخلية، التي تعوق قدراتها وسعيها لمكافحة ومحاربة التطلعات الايرانية والتركية. ومن جانب أخر، فإن تزايد نفوذ الإخوان المسلمون في مصر يتناسب مع التوجهات الأيديولوجية لكلا من ايران تركيا. ومن جانب ثالث فإن انسحاب الولايات المتحدة من شرق العالم العربي (العراق) فتح الباب لإيران، وكذلك بالنسبة لتركيا، للتدخل في شؤون الدول العربية المهمة كدول الخليج العربي، والضعيفة منها كذلك كدول الهلال الخصيب. ومن جانبها تشجع تركيا المعارضة الإسلامية السنية ضد النظام العلوي في سوريا، الذي سيكون سقوطه ضربة قوية لإيران. ومن وجهة نظر آنبار، فلقد أعاد عدم الاستقرار في سوريا التنافس التاريخي بين العثمانيين والفرس في المنطقة، وهو ما يشير إلى الأستخفاف بقوة وبوجود العرب وعلامة على تراجع قوة النفوذ الغربي في المنطقة.
أما الأوضاع في العالم العربي، فإن آنبار يرجح أن تراجع القوة النسبية لمصر من شأنه أن يعزز الدور القيادي للمملكة العربية السعودية، بأعتبارها الدولة العربية الوحيدة القادرة جزئياً على احتواء النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة.
يرى آنبار محقاً أن لعبة التوازن في الشرق الأوسط تتسم بالتعقيد الشديد، خاصة في ظل وجود حالة من التعاون السعودي التركي الساعي لانهاء حكم بشار الأسد في سوريا، حليف إيران. حيث يقوم السعوديين بتمويل المعارضة ضد النظام العلوي، وتعتبر تركيا بمثابة قاعدة للمعارضة على الحدود السورية. ويمثل التدخل السعودي الناجح لحماية النظام السني في البحرين مثال أخر على مساعيها للحد من النفوذ الإيراني. وطبقاً لهذا التصور والسياق السياسي والاستراتيجي، فإن المملكة العربية السعودية ممن وجهة نظر الكاتب تعتبر حليفاً ضمنياً لإسرائيل.
أما بالنسبة لإسرائيل، آنبار يرى أن التحالف الموالي للغرب في الشرق الأوسط، والتي تعتبر إسرائيل جزء رئيسياً منه، قد ضعف بشكل عام، ومن المؤشرات الخطرة على مستقبل وأمن إسرائيل هو تراجع تأييد كلا من القاهرة وأنقرة للولايات المتحدة من جانب، وبرود علاقاتهما مع إسرائيل. يتوصل آنبار لإستنتاج جاد خطير وهو أن توازن القوى الذي كان يميل لصالح إسرائيل قد بدأ في التدهور والتغير.
تراجع النفوذ الأمريكي
إن التطورات التي شهدها الشرق الأوسط في العام 2011 أكدت بشكل قاطع تآكل مكانة الولايات المتحدة في المنطقة. حيث أدى تمكن الجماهير (الغوغاء في لغة المؤلف Mobs) في الشرق الأوسط من الحكم لتقوية العناصر المعادية للولايات المتحدة. وتقليدياً كانت الولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل هي كبش الفداء المفضل في المنطقة، وهو ما يعكس تجذر المواقف المعادية للغرب، على الرغم من قدم وجود الثقافة الغربية في المنطقة، من قبل الجموع المحبطة التي تشتاق لعودة العصور الذهبية للإسلام.
يرجع المؤلف هذا التآكل في مكانة الولايات المتحدة لسببين رئيسيين. الأول هو ما بات يعرف بــ ’’مــذهـــب أوبـامـا Obama Doctrine‘‘ الذي يدعو لــ ’’التعامل المتعدد الأطراف مع المشاكل الدولية ... المصمم للحد من التزامات الولايات المتحدة في الخارج، واستعادة مكانتها في العالم، وتحويل الأعباء على الشركاء العالميين‘‘. أما السبب الأخر فهو تخبط الإدارة الأمريكية ومعاداتها للدكتاتوريات ونمط استجابتها غير المتناسق وغير المترابط على الأحداث الجارية في الشرق الأوسط. حيث سارعت إدارة أوباما بالدعوة لاستقالة الرئيس المصري حسني مبارك – الحليف القوي للولايات المتحدة لمدة ثلاثة عقود. اعتبر الكثير من الاطراف في المنطقة أن ما فعلته واشنطن ضد مبارك (سواء الموافقين أو المعارضين لهذا القرار) بمثابة خيانة لواحد من أوفى أصدقائها.
حتى رد فعل واشنطن تجاه واحد من أبغض الدكتاتوريات في التاريخ، معمر القذافي، والاوضاع في ليبيا أثار حيرة الكثيرين في الشرق الأوسط، حينما أعطت الولايات المتحدة الفرصة لحلفائها الأوروبيين للإطاحة بالقذافي، وهو الذي تعاون مع الغرب بتخليه عن ترسانته من أسلحة الدمار الشامل في عام 2003. إن الولايات المتحدة بسلوكها هذا، من وجهة نظر آنبار، فشلت في جعل زعماء الشرق الأوسط يدركون أنه من الأفضل لهم الإقلاع عن تملك برامج أسلحة الدمار الشامل للحيلولة دون التدخل العسكري الغربي. في المقابل، وبصورة مضادة، فإن ردة فعل الولايات المتحدة على القمع ووحشية التعامل مع المعارضة المحلية من قبل أنظمة معادية لها في طهران ودمشق، والتي لم تنل سوى بعض التعبيرات الانتقادية الخفيفة والتي جاءت متأخرة جدا من إدارة أوباما، كان لها تأثير سلبي كبير على دور ومكانة الولايات المتحدة في المنطقة.
يستنتج الكاتب بأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وانغماسها (أو مهادنتها كما ينظر لها في نظر الشرق الأوسط) مع أعدائها كإيران وسوريا، والتنكر للأصدقاء مثل مبارك والقذافي، قوى الاعتقاد السائد لدى قادة الشرق الأوسط بأن سياسة الولايات المتحدة الخارجية باتت ضعيفة ومشوشة.
التداعيات الاستراتيجية للربيع العربي على إسرائيل
المؤكد أن إسرائيل لا تنظر للتطورات والاتجاهات الحالية في الشرق الأوسط بصورة إيجابية. وفي رأي آنبار فإن إسرائيل، التي ما تزال دولة صغيرة ذات موارد ونفوذ دبلوماسي محدود في تشكيل البيئة المحيطة بها لا تستطيع تحقيق ما أطلق عليه البروفيسور أرنولد وولفرز بـ ’’الأهداف الخارجة عن الطبيعة Milieu Goals‘‘ والتي يقصد بها تشكيل البيئة التي توجد فيها، لعدم ثقل وزنها في عملية السياسة الدولية للشرق الأوسط، عليها أن تتكيف مع التطورات الإقليمية والعالمية الجارية، بدلا من محاولة تشكيلها. وهو ما يعني التركيز على التهديدات الناشئة وإعداد وتجهيز الردود الكفيلة بمواجهتها.
وإحقاقاً للحق، يذكرنا البروفيسور آنبار إنه وعلى الرغم من قيامها ببناء وتدشين قدرات استخباراتية متطورة، إلا أن إسرائيل- كما الأخرين– قد فوجئت بأحداث 2011 في منطقة الشرق الأوسط. حيث كان كافة محللو الاستخبارات والخبراء الأكاديميين يتوقعون حدوث انتقال سلس للسلطة في مصر من مبارك لولده. وكذلك الأمر بالنسبة لقياس حجم وقوة المعارضة السورية. وهو ما يعتبره آنبار مثالاً جلي على إمكانية وقوع التغير السريع وسيادة حالة الغموض وعدم اليقين في الشرق الأوسط. فالمفاجآت الاستراتيجية يمكن أن تحدث حتى الآن. وهو ما يتطلب من وجهة نظر المؤلف الأستعداد لها بمجموعة متنوعة من السيناريوهات، ولا سيما تلك المتعلقة بأسوأ الاحتمالات.
الـعــزلـة الإقـلـيـمـيـة
يرى المؤلف، كما الكثير من المعلقين، أن صعود قوة الاسلاميين والتراجع الذي أصاب مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد أثر سلبا على مسيرة عملية السلام بين إسرائيل وجيرانها. هذه العملية، التي أتسمت دوماً بالقبول على مضض بحقيقة وجود إسرائيل كأمر واقع في المنطقة، بزغت بصورة رئيسية بسبب الإدراك المتدرج بأن القوة الإسرائيلية (وراعيها الأمريكي) لا يمكن أن يتم استئصالها بالقوة. وفي ظل صعود الإسلاميين، لم يعد ذلك هو المشكلة. وإنما أصبحت المشكلة وكما يجادل آنبار هي العامل الآخر الذي ساعد على جر الاطراف العربية لطاولة المفاوضات، آلا وهو الدور الحيوي الذي تضطلع به الدبلوماسية الأمريكية في تضييق الخلافات بين الطرفين، واتخاذ التدابير اللازمة للحد من المخاوف الإسرائيلية بمخاطر السلام مع العرب.
حيث يرى المؤلف أن إدارة الرئيس أوباما، وعلى العكس من سابقاتها، أقل قدرة على حث الدول العربية على توقيع معاهدات سلام مع إسرائيل، بل وأيضا أقل مصداقية في تعويض إسرائيل عن التنازلات التي تنطوي مخاطر أمنية. وهو ما أرجعه آنبار بصورة غير مباشرة لتأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية، التي ساهمت في تقييد إدارة أوباما وجعلها غير مستعدة للتدخل في الخارج.
ويتوقع الكاتب أن لا يستطيع النظام الحالي في مصر، الذي هو أضعف من سلفه الذي سقط، وربما لا يريد أن يتحمل عبء العلاقات مع إسرائيل. وهو ما يعني في رأيه أن حالة ’’السلام البارد‘‘ مع مصر قد تزداد برودة عما قبل. خاصة مع صعود وتزايد قوة ونفوذ القوى المحلية المعادية لها في كلا من مصر والأردن. وهو ما قد يولد ضغوطاً كبيرة قد تحول دون أستمرار معاهدات السلام مع هذه الدول، حتى وإن لم تتغير أتجاهات السياسة المصرية بشكل كبير في المستقبل القريب. وكذلك الأمر بالنسبة للأردن، التي يرى الكاتب إنها فقد تفضل الابتعاد قليلاً عن إسرائيل حتى لا تعرض نفسها للنقد من المعارضين. وإفراطاً في التشاؤم يرى آنبار أن حتى أحتمالية حدوث انفراج في عملية السلام والمفاوضات مع الفلسطينيين لا يمكن توقعه، نظرا لدور حركة حماس في السياسات الفلسطينية، بما يجعل الفرص الضئيلة الباقية لرأب الخلافات بين الاسرائيليين والفلسطينيين أكثر صعوبة.
أما بالنسبة لبقية الدول العربية الغير ثورية (محور المهادنة) فإن المؤلف يتوقع أن تخفي هذه الدول تعاونها العملى مع إسرائيل وتبقيه في الظل. فهذه الدول العربية (الضعيفة) أصبحت بدلا من التقارب مع الدولة اليهودية أكثر عرضة للاختراق من قبل إيران، والتي يدعمها بقوة الكثير من القوى الإسلامية المحلية. ومع تأكد الحكام العرب الموالين للغرب من أنه لا يمكن المراهنة على المساندة الامريكية لهم، يعتقد آنبار إنه فمن المحتمل أنهم سوف ينأون بانفسهم عن الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. وعلاوة على ذلك، فإن القوى الصاعدة في الشرق الأوسط، وهي قوى غير عربية، والمقصود إيران وتركيا، ليست صديقة أو حليفة لإسرائيل.
تـآكـل قـوة الـردع الإسـرائـيلي
يرى آنبار إنه وعلى الرغم من أن البعض يرى تراجع دور وتأثير الولايات المتحدة في الشؤون العالمية عامة، وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، قد يكون مؤقتا، إلا أن هذا التراجع في رأيه بات مؤكداً في المستقبل القريب. وهو ما سيؤثر بالسلب على قدرات إسرائيل الردعية، والتي لا تقتصر ببساطة على قوتها العسكرية وقدرتها على الفوز الحروب، وإنما على مصدقية إسرائيل وسمعتها كدولة قيادية وقوية.
في رأي آنبار، فإن الاعتقاد السائد لدى الإسرائيليين بأن الولايات المتحدة سوف تهب لمساعدتها اذا لزم الامر في حاجة للمراجعة والتفحيص. خاصة وأن الكثير من إسرائيل ومناصريها يرون أن إدارة الرئيس أوباما قد خيبت أمال بعض حلفائها في الشرق الأوسط، ولم تعد المشاعر الأمريكية الودية تجاه إسرائيل مضمونة ومؤكدة. ونتيجة لذلك، فإن إسرائيل لم يعد بمقدورها الأعتماد على الدعم الدبلوماسي والاقتصادي، أو العسكري الأمريكي في حال تعرضها للهجوم. بل والاكثر من ذلك، يجادل البعض بأن استخدام إسرائيل للقوة لمواجهة التهديدات التي تواجهها قد تزيد من تفاقم العلاقة بين تل أبيب وواشنطن.
مثل هذه الاعتبارات ليست جديدة تماما، لكنها الآن ذات صلة أكثر من ذي قبل، كون إسرائيل تنظر بجدية لأحتمال توجيه اسرائيل عمل عسكري ضد كلا من حماس، حزب الله وإيران. ويجادل آنبار محقاً بأن تراجع قوة الردع الإسرائيلي قد يدعو الأخرون للأعتداء عليها.
أما وقد ذكرنا ذلك، فإن الكثير من العالم العربي في رأي آنبار ليس لديهم القدرة على تحدي إسرائيل في حرباً تقليدية، حتى في حال قيام مصر و/أو الأردن بإلغاء معاهدات السلام مع إسرائيل. فإن العالم العربي الذي يتألف من العديد من الدول الضعيفة، المشغولة للغاية بمعالجة شئونها ومشاكلها الداخلية، التي ستعيقها عن العمل على تشكيل ائتلاف أو تحالف عسكري ضد إسرائيل، أو بناء قوة (تقليدية) عسكرية حديثة قادرة على التصدي لها. حيث لوحظ أن الفجوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية بين إسرائيل وجيرانها العرب اتسعت على مر السنين، مما يجعل أحتمال قيام العرب بشن هجوم تقليدي واسع النطاق غير مرجح.
من وجهة نظر آنبار، فإن مثل هذا الحديث، مع ذلك، لا يستبعد التهديدات العسكرية الصغيرة والمؤقتة الأخرى ولاسيما في ضوء تراجع قوة الردع الاسرائيلي. فالدول الغير مستقرة أو الفاشلة ثبت نظرياً إنه لا يمكن ردعها عن طريق تهديد بفداحة تكاليف الانتقام من قبل الدول التي لديها سيطرة سياسية مركزية قوية. لذلك، فإن الأزمة الحالية ستزيد من حدة التحديات العسكرية لإسرائيل، وخاصة وأن القادة الجدد في المنطقة تحركهم بقوة مشاعر من الكراهية لإسرائيل، إلى جانب كونهم عديمو الخبرة، وبالتالي فإن مسألة وقوع أو إجراء الحسابات الخاطئة سيكون له أثار حاسمة.
الأكثر من ذلك، يجادل آنبار بأن قادة الدول العربية المجاورة لإسرائيل قد يقررون فجاة تحويل انتباه الجماهير من المشاكل الداخلية إلى بدء حرب استنزاف مع إسرائيل أو من خلال البدء بالهجمات الارهابية عليها، وهو ما يعرف بإستراتيجية التوازن المستمر Omni-Balance.
أيضا، فإن المشاكل الداخلية التي تواجه الدول العربية الضعيفة سيجعلها أكثر عرضة لممارسة لإرهاب. حيث يرى آنبار أن ضعف سيطرة قبضة الدول على أراضيها وحدودها سوف يساهم في أن تصبح هذه الحدود أكثر مسامية وتوفر مأوى للجماعات المسلحة والارهابيين يتيح لهم حرية أكبر للعمل. على سبيل المثال، في شبه جزيرة سيناء الحدودية بين مصر وإسرائيل، فقد تعرض خط أنابيب تزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي المصري مرارا وتكرارا للتخريب. وتحولت سيناء أيضا لمعبر لتهريب الاسلحة القادمة من إيران وغيرها لحماس، وكذلك أصبحت قاعدة لشن هجمات إرهابية ضد إسرائيل.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن آنبار يعتقد أن ترسانات الأسلحة الوطنية التقليدية (وغير التقليدية) أصبحت عرضة للخطر على نحو متزايد مع تراجع قدرات الدول الضعيفة في السيطرة على أمنها وأستقرارها. وهو ما جعله يستنتج بأن سياسات إضعاف الدول العربية قد يؤدي إلى ظهور جماعات سياسية غير راضية ومسلحة بصورة جيدة تسعي لإيقاع الضرر بإسرائيل. على سبيل المثال، فبعد سقوط القذافي، وصلت صوايخ سام – 7 المضادة للطائرات وأسلحة ار بي جي المضادة للدبابات لجماعة حماس في غزة. وهو ما سيحدث بالمثل في حالة انهيار النظام السوري، التي يعتقد أن تنتهي ترسانته المتطورة، بما في ذلك الصواريخ المضادة للسفن (أرض– بحر) وأنظمة الدفاع الجوي والصواريخ بعيدة المدى، في نهاية المطاف إلى أيدي جماعة حزب الله أو العناصر المتشددة الأخرى في المنطقة، أو هكذا تروج إسرائيل.
يتوقع آنبار أن يكون للتحولات الداخلية في بعض البلدان العربية تبعات جسيمة، وفقاً لأهمية أثرها أو أصدائها الاستراتيجية أو السياسية والثقافية في المنطقة. ويولي آنبار أهتماماً كبيراً بالتحولات الداخلية الجارية في مصر، حيث يرى أن هذه الدولة، وهي الأقوى والأكثر اكتظاظا بالسكان بين العرب وتمارس دورا محوريا في سياسات الشرق الأوسط، سيتوقف دورها المستقبلي على مدى قدرة الجيش المصري على ترويض وركوب نمر الإخوان المسلمون (كتب آنبار هذه الدراسة في فبراير 2012). فقد يساهم استيلاء الاسلاميين على السلطة في مصر (!) في احياء التحالف العسكري العربي ضد إسرائيل. وهو ما جعل آنبار يؤيد التحذيرات التي أطلقها اللواء إيال أيزنبرغ، رئيس قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والقائلة بأن التطورات التي يشهدها العالم العربي قد تزيد من احتمالات وقوع حرب إقليمية شاملة.
يرى آنبار أن مخاوف إسرائيل من مصر تتركز على إلغاء معاهدة السلام التي وقعها الطرفان في 1979 (أتفاقية كامب ديفيد) والتي يرى إنها أزالت التهديد العسكري الأقوى الموجهة لإسرائيل ومنعت العرب من شن حرب على جبهتين ضدها. وهو ما ساهم في تخفيض النفقات الدفاعية لإسرائيل بصورة كبيرة. لقد ساهمت عملية نزع السلاح من سيناء في استقرار العلاقات الاستراتيجية بين مصر وإسرائيل، وذلك عن طريق حرمان الجانبين من الإقدام على خيار الهجوم المفاجئ. ولكن، في مصر فقد تم النظر إلى ترتيبات نزع السلاح هذه في كثير من الأحيان بأعتبارها تعديا على سيادتها الوطنية، التي يتم انتهاكها الآن من قبل الجماعات الارهابية في تلميح خبيث.
يرى آنبار أن مثل هذه الانتهاكات سوف تزيد من تصورات إسرائيل عن التهديد التي تمثله عليها مصر، وربما سيتم أعتبارها سببا للحرب. وعلاوة على ذلك، فإن تآكل السيادة المصرية على سيناء يمكن أن يحول هذه المنطقة لملاذ آمن للإرهابيين، كما هو الحال في أجزاء من لبنان (لبننة مصر Lebanonization) أو كقاعدة للقراصنة، كما هو الحال في الصومال (صوملة مصر Somalization). إلا أن آنبار يتفائل بقدرة إسرائيل على مواجهة والتعامل مع هذه التحديات، ومرجع ذلك بالأساس من وجهة نظره هو أن إسرائيل ما تزال دولة قوية.
أما بخصوص العلاقات مع المملكة الأردنية، التي وقعت هي الاخرى معاهدة سلام مع إسرائيل في عام 1994، فإن آنبار يقرر بأن إسرائيل تراقب عن كثب كافة التطورات الجارية هناك. ويرى كذلك أن الملك عبد الله الثاني، وحتى الآن، قد نجح في الخروج سالماً من العاصفة الحالية التي تضرب الشرق الأوسط، بالرغم من أن المعارضة المحلية آخذة في التزايد. ويجادل آنبار بإنه في حال ما سقط النظام في العراق أو سوريا في براثن وأيدي الإسلاميين، فإن ذلك من شأنه تزايد الضغوط على السلالة الهاشمية مرة أخرى. أما إذا ما سقط النظام في الأردن، فإن ذلك سيزيد من وضع القوى المعادية الممتدة على طول الحدود مع إسرائيل، وخاصة في قلبها الجغرافي الممتد على مثلث تل أبيب – القدس – حيفا، الذي يحتوي معظم سكان اسرائيل والبنية التحتية الاقتصادية.
وعن الأوضاع في سوريا، فيرى آنبار إنها مازالت تعاني كذلك من حالة اضطراب، وليس واضحاً لديه ما إذا كان النظام العلوي سيظل ممسكاً بالسلطة أم سيتم استبداله من قبل مجموعات سنية. وفي محاولة منه لصرف الأنتباه عن القضية الداخلية في نظامه، قام السوريين في صيف عام 2011، حاول الأسد شن حربا تضليلية ضد إسرائيل، من خلال إرسال المدنيين وحثهم على عبور السياج على طول حدود إسرائيل في هضبة الجولان. وهي التكتيكات التي يعتقد آنبار إنه قد يتم أستخدامها وتوظيفها من قبل النظام الذي سيعقب الأسد. على أية حال، يحث آنبار دولته على الاستعداد والتحوط من أحتمال تطور وتصاعد الأوضاع على مرتفعات الجولان في المستقبل القريب.
أخيراً، وفيما يتعلق بالفلسطنيين، يرى آنبار أن الأحداث الراهنة في المنطقة جذبت الانتباه بعيداً عن القضية الفلسطينية، وحجمت قدرات السلطة الفلسطينية على إيذاء إسرائيل، عن طريق جذب الاهتمام الدولي للقضية الفلسطينية وأوضاع الفلسطينيين، وهو ما سجعل من إمكانية لجوئهم (أي الفلسطنييين) لأستخدام الإرهاب ضد الدولة اليهودية مكلفا جدا. إلا أن ذلك لم يمنع آنبار من القول بأن سوء التقدير الاستراتيجي الفلسطيني، الذي سيظل دائما احتمال لا يمكن لإسرائيل تجاهلها، قد يؤدى لاندلاع جولة جديدة من الإرهاب الموجهة ضد إسرائيل.
الخلاصة، يرى آنبار أن الأحداث الأخيرة جعلت من مسألة التفوق التقليدي لإسرائيل أقل صلة وأرتباطاً بأمن إسرائيل، بل وتركها عرضة لمجموعة من جديدة من التحديات الأمنية.
تهديد الممرات البحرية شرق المتوسط
أشد التحولات والتغيرات التي أحدثتها الاضطرابات الجارية في العالم العربي على الدولة الإسرائيلية من وجهة نظر إفرايم آنبار تتمركز حول تغير أوضاع القوة في منطقة شرق حوض البحر الأبيض المتوسط. حيث يرى آنبار إنه يمكن لعناصر الإسلام الراديكالي (التي وصلت للحكم في عدة دولة عربية مشاطئة للبحر المتوسط) السيطرة على هذه المؤاني واستخدامها لتوجيه التهديدات لإسرائيل وتقييد وصول وعبور الغرب إلى هذه المنطقة.
كون أن حوالي90 في المئة من حجم التجارة الخارجية الاسرائيلية تمر عبر طريق البحر الأبيض المتوسط، يجعل من حرية الملاحة هناك مسألة حرجة وحساسة للغاية للاقتصاد الإسرائيلي. وعلاوة على ذلك، فإن فرصة إسرائيل في تحقيق الأكتفاء الذاتي من الطاقة وأن تصبح مصدرا هاما لتصدير الغاز الطبيعي ترتبط بقدرتها على تأمين حرية المرور لتجارتها البحرية والدفاع عن الخمسين حقلاً من النفظ والغاز التي تم أكتشافها حديثا (ديسمبر 2010). وهو ما يهدده وصول الإسلاميين للحكم في الدول العربية.
يتوقع آنبار أن تأتي المخاطر والتهديات لدولة إسرائيل (وللغرب عموماً) من ناحية الشاطئ الأفريقي للبحر الأبيض المتوسط. بدءاً من تونس، التي فاز فيها الإسلاميون بالانتخابات التي جرت في نوفمبر 2011. ومن ليبيا، التي تؤكد وتشير تطورات الأحداث السياسية بعد سقوط القذافي إلى أن العناصر المتطرفة الاسلامية سوف تلعب دورا أكبر في مستقبل البلاد. أما إذا ما أنحدر مسار الانتقال إلى النظام الجديد إلى مستوى حرب أهلية، فإن الفوضى التي ستظهر سوف توفر حرية حركة أكبر لعمل المتطرفين المسلمين.
وبالنسبة لمصر، يعتقد آنبار إنه وعلى الرغم من أن العسكر مازالوا يحكمون مصر (قبل إطاحة الرئيس مرسي بهم في إنقلاب وصف بالناعم) إلا إنه من المتوقع أن تاتي انتخابات نوفمبر 2011 بأغلبية من الأحزاب الإسلامية، التي ستمارس دورا مهيمنا في تشكيل النظام السياسي الناشئ. حيث يبدي آنبار تخوفه من سيطرة الإسلاميين على الممر البحري الخطير قناة السويس، بصورة تضر إسرائيل في المستقبل.
يتخذ آنبار، مثل غيره من الإسرائيليين، من حادثة سماح مصر لسفينة عسكرية إيرانية بعبور قناة السويس، بأعتبارها قرينة من شأنها تعزيز قدرة إيران على تزويد حلفائها في البحر المتوسط مثل سوريا الأسد وحزب الله في لبنان، وحماس في غزة بالأسلحة التي يقاتلون بها إسرائيل. ومن جانب أخر، مساعدة إيران على الوصول للدول المسلمة في البلقان، ألبانيا والبوسنة وكوسوفو، وبالتالي زيادة نفوذ طهران في ذلك الجزء من البحر الأبيض المتوسط. إن هشاشة ووهن السيطرة المصرية على حدودها يمكن أن تؤدي من وجهة نظر آنبار إلى ’’صـومـلـة Somalization‘‘ شبه جزيرة سيناء، وهو ما سيؤثر سلبا على سلامة التجارة البحرية على طول البحر الأبيض المتوسط وفي البحر الاحمر عن طريق قناة السويس.
أما شمال إسرائيل، وعلى طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث تقبع لبنان، الدولة التي يهيمن عليها حزب الله الذي لا تتلائم موانئه مع الغرب. يبدي آنبار تخوفاته من بدء حزب الله في المطالبة ببعض حقول الغاز الضخمة التي أكتشفتها اسرائيل في البحر المتوسط، والتي قد تكون قادرة على تقليل أعتماد أوروبا على مصادر الطاقة القادمة من روسيا وتركيا. ومن جانب أخر يخشى آنبار من التأثير السلبي الذي تمارسه سوريا على لبنان وشواطئها الممتدة على البحر المتوسط، والتي يعتقد إنه من الممكن استخدامها هي الأخرى بطريقة معادية أيضا للغرب، حيث يعتقد آنبار أن سوريا قد تقوم بتوظيف هذه المواني لغرض توفير الخدمات للقوات البحرية الروسية.
الخطر الأخر من ناحية الدول المطلة على البحر المتوسط من وجهة نظر إسرائيل هي تركيا، التي تحولت تحت قيادة حزب العدالة والتنمية من أنتهاج سياسات خارجية موالية للغرب إلى تبني سياسات خارجية متطرفة. فالحكومة التركية تدعم حماس وحزب الله، وتعارض العقوبات الاقتصادية الغربية على إيران، وتتخذ مواقف حادة معادية لإسرائيل، تعكس رؤية حزب العدالة والتنمية الإسلامية، التي هي وفقاً لآنبار مزيجاً من القومية التركية، العثمانية الجديدة المدفوعة بالحنين إلى الماضي، والإسلامية الجهادية، التي تدفع تركيا دفعاً إلى تبني مواقف عدوانية حول العديد من القضايا الاقليمية.
يدعي آنبار بأن تركيا تقوم باستعراض عضلاتها البحرية من خلال تهديدها لإسرائيل بأنها سوف ترافق أساطيل الحرية الداعية لمحاولة كسر الحصار على غزة (قتلت القوات الاسرائيلية تسعة مواطنين تركييين كانوا على متن السفينة التركية مرمرة التي حاولت كسر الحصار في مايو 2010) وتقوم كذلك بتهديد جارتها قبرص بإعلان رغبتها في الحصول على حصة من ثروات الطاقة الكامنة جنوب الجزيرة القريبة من حدودها. حيث تحاول تركيا السيطرة أو إدعاء الملكية الجزئية على حقول الغاز البحرية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي المساعي التي قد تساعدها على تحقيق طموحاتها بأن تكون بمثابة جسر الطاقة إلى الغرب. وهو الأمر الذي يضعها في خلاف مع قبرص وإسرائيل، الذين لديهم هم الأخرون مصلحة مشتركة في تصدير الغاز إلى أوروبا المتعطشة للطاقة.
التحدي النووي الإيراني
يرى آنبار أن الأضطرابات السائدة في العالم العربي قد نجحت في جذب الانتباه بعيداً عن أكثر مخاوف إسرائيل، آلا وهو أمتلاك إيران للسلاح النووي. حيث يجادل آنبار بأن هذه الاضطرابات خدمت الاستراتيجية الإيرانية الساعية لكسب مزيد من الوقت لأستكمال تحولها النووي وقبولها كأمر واقع. فقد أستغلت إيران إنشغال إسرائيل بتأمين أمنها القومي في خضم الاضطرابات التي يعج بها العالم العربي للعمل على أستكمال مشروعها النووي، الذي نادراً ما أثرت علي فاعليته العقوبات الاقتصادية والأستياء الدبلوماسي العالمي.
يذكر المؤلف أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ بشأن الاستجابة الدولية غير الفعالة لوقف مساعي إيران لحيازة الأسلحة النووية، والتي تبدو من وجهة نظره تفتقد لوجود الإرادة السياسية اللأزمة لمعالجة مشكلة استراتيجية صعبة مثل البرنامج النووي الإيراني، أو لعدم الفهم الكافي والوعي بتداعياتها على المدى البعيد. ويدعي آنبار أن وجود إيران نووية من شأنه تحفيز أتجاهات الانتشار النووي في المنطقة.
حيث يجادل آنبار بأن نجاح إيران في حيازة السلاح النووي سيغري دولاً مثل تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية بتبني مواقف نووية مماثلة، وبذلك يتحول الشرق الأوسط لنظام نووي متعدد الأقطاب الشرق الأوسط (بدلاً من الأنفرادية القطبية النووية الموجودة الان في المنطقة) وهو ما يعتبره الكثير من الإسرائليين أسوء كابوس استراتيجي من الممكن أن تواجهه إسرائيل في المستقبل.
من جانب أخر، يعتقد آنبار أن أمتلاك إيران للسلاح النووي سيعزز من مساعيها الداعية لتعزيز هيمنتها على قطاع الطاقة الاستراتيجي من خلال مجرد موقعها الممتد على طول الخليج العربي وحوض بحر قزوين الغني بالنفط والغاز الطبيعي. من جانب ثالث، فإن أمتلاك إيران للسلاح النووي سوف يشجع طهران على توسيع نشاطها في دعم العناصر الشيعية المتطرفة في العراق وتهييج الجماعات الشيعية المنتشرة في دول الخليج الفارسي. وعلاوة على ذلك، فإن المساندة الإيرانية ودعمها وتقاربها الشديد مع بعض المنظمات الإرهابية مثل حزب الله، حماس، والجهاد الإسلامي، قد يجعلها تتهور بما فيه الكفاية لحد القيام بنقل عدة رؤوس نووية لهذه المنظمات الإرهابية.
كيف يمكن لإسرائيل مواجهة الربيع العربي
مراراً وتكراراً، يصر آنبار على الإدعاء بأن الأحتجاجات الجماهيرية العربية من غير المحتمل أن تشكل عوامل فعالة نحو تحقيق الديمقراطية في العالم العربي، وبأن المشاعر الشعبية في العالم العربي مازالت معادية للغرب إلى حد كبير، وبطبيعة الحال، ومعادية لإسرائيل. وعلاوة على ذلك، فإن الصراع وسفك الدماء تعتبر سمة وحقيقة تاريخية ثابتة لوصف المنطقة المحيطة بإسرائيل، دون أن يوضح بالضبط من هي الاطراف المسئولة على إحداث الصراعات إراقة هذه الدماء. وعلى ذلك، يرى أن على إسرائيل أن تدرك بأن بقاءها يعتمد إلى حد كبير على قوتها الوطنية، وهو ما يبرر إمتلاكها لألية عسكرية متقدمة، جعلتها لا تتورط في حروب واسعة النطاق منذ حرب يوم الغفران في أكتوبر 1973، وإن ظلت قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF) منشغلة بحروب صغيرة ومواجهة أطراف غير دولية منذ ذلك الحين. ومع ذلك، يشدد آنبار أن على إسرائيل الإحاطة بأن التغيير الذي شهدته البيئة الاستراتيجية يملي عليها إتخاذ المزيد من الحذر والأستعداد لمواجهة مجموعة متنوعة من التهديدات التي اوجدتها الأضطرابات في البلدان العربية.
السبيل الوحيد المتاح لدى إسرائيل لفعل ذلك من وجهة نظر إفرايم آنبار هو زيادة نفقاتها الدفاعية، وضخ المزيد من الأستثمارات من أجل بناء قوات (برية وبحرية) التي هي عملية طويلة نسبية، أكبر وأقوى وقادرة على التعامل ومواجهة مجموعة متنوعة من الطوارئ والتهديدات في أسرع وقت ممكن، بما في ذلك خوض حرب واسعة النطاق. إلى جانب ذلك فيتوجب أيضا على إسرائيل الأهتمام بعدة مجالات أضافية، مثل تطوير أنظمة الدفاع الصاروخي ومجال البحث والتطوير.
ففي ظل إستمرار حالة الغموض وعدم التيقن المحيط بمستقبل كلا من مصر، سوريا، والأردن، فإن أحتمالات وقوع وأحياء السيناريو الخطير القائل بإحاطة إسرائيل بسوار من التحديات العسكرية في وقت واحد وعلى جميع الجبهات، وهو الأمر الذي يتطلب إعادة تمركز قوات أكبر على هذه الحدود. ويتطلب أيضا، وفقاً لآنبار، وجود قوات بحرية أكبر حجماً، استضافة العديد من النظم الاستراتيجية المهمة على نحو متزايد من أجل توفير الدفاع عن القواعد الجوية الإسرائيلية وصد الهجمات الصاروخية.
حيث يعيب آنبار على وزارة الدفاع الإسرائيلية، وعلى الدولة اليهودية بشكل عام، أهمالها لبعض الوقت لعملية تحديث وتوسيع سلاح الأسطول (وليس سلاح الغواصات). ويرى أن المخاطر التي أوجدها الربيع العربي تجعل الحاجة ماسة للبدء في تحديث وتوسيع حجم البحرية الإسرائيلية، خاصة بعد تصاعد حجم المخاطر التي باتت تهدد حرية الملاحة في الممرات البحرية بمنطقة شرق البحر المتوسط، وضرورة حماية اكتشافات الغاز الإسرائيلية البحرية الجديدة.
وعلى صعيد أخر، يولي آنبار أهتماماً جماً بالقدرات الدفاعية الصاروخية الإسرائيلية. ويرى أن التعامل مع الهجمات الصاوخية المتعددة النطاقات والمدى كان دوماً يأتي على قائمة أجندة الأمن القومي الإسرائيلي خلال العقدين المنصرمين على الأقل. ويحذر من إنه في حالة قيام صراع مسلح بين إسرائيل وإيران، فمن المتوقع أن تكون جميع الأراضي الإسرائيلية تحت رحمة شبكة الصواريخ وعرضة للاعتداء الصاروخي لإيران ووكلائها مثل حماس وحزب الله.
ويظهر آنبار صقوريته الليكودية عندما يهاجم مرة أخرى التباطئ البيرةقراطي إعاقة قيود الميزانية والأحكام المسبقة من جانب بعض الدوائر الإسرائيلية، المعارضة للدفاع نشر وتطوير الحد الأدنى من أنظمة الدفاع الصاروخي متعدد الطبقات اللأزمة للدفاع عن إسرائيل، الذي يعتبره نظاماً لم يعد بالإمكان انتظار تطبيقه.
من وجهة نظر آنبار، فإن مواجهة التحدي الصاروخي تتم على مستويين، الأول هو تحسين سبل الحماية السلبية Passive protection، والمقصود بها بناء الملاجئ والغرف المحصنة في المنازل وكذلك في كافة المؤسسات التعليمية ومراكز التجارة. والثاني هو والدفاع النشط Active Defense، الذي يشير إلى النشر الكافي لبطاريات ’’القبة الحديدية Iron Dom ‘‘ اللأزمة لاعتراض الهجمات الصاروخية، والتي يصل مدأها إلى 70 كيلومترا، وكذلك أستكمال بناء نظام مواجهة التهديدات ’’المصيدة/المقلاع‘‘ أو ما يعرف بـ David’s Sling الذي يصل مداه إلى 300 كلم (لم يتم تشغيله حتى الآن). حيث يرى آنبار أن توسيع نظام الدفاع الصاروخي من شأنه توسيع حجم ومستوى حرية العمل السياسي، حيث يمكنه توفير المظلة الدفاعية لأي عمليات برية قد تجري في غزة وجنوب لبنان، أو للحد من تكلفتها. فقد تكون صواريخ آرو 2 وآرو 3 (الذي مازال في طور التطوير) المضاد للصواريخ الباليستية قادر على مواجهة التحدي المتمثل في الصواريخ الطويلة المدى.
أما فيما يتعلق بمجال البحث والتطوير (في مجال التطبيقات العسكرية) فإن آنبار مرة أخرى يهاجم أتجاهات التوسع في خصخصة الصناعات العسكرية الإسرائيلية إلى حد كبير، بصورة جعلتها تصبح تدريجيا أكثر توجها نحو السوق، وهو ما أدى في رأيه لحدوث تحول في أولويات البحث والتطوير نحو التكنولوجية، التي تعطي لإسرائيل ميزة في سوق مبيعات الأسلحة العالمية، وليس في المنتجات التي تتناسب مع الاحتياجا