كتب محمد بيوض : كانت هذه إحدى الأزمات بين أمريكا وإسرائيل والتي تم إحتواؤها على الفور بل وتم التواطؤ فيها بين الرئيس الأمريكي ليونيد جونسون وإسرائيل لإغلاق الملف وعدم فتحه بأي طرق من الطرق المختلفة ، لقد كانت ليبرتي وهي السفينة الأمريكية تجوب المياه الدولية بين بورسعيد والعريش ترصد وترصد كل الإتصالات الإسرائيلية وممارساتها أثناء حرب يونية 1967 ، فقد كانت أمريكا لاتثق بإسرائيل وكانت تريد أن تتابع بنفسها مايحدث على أرض المعركة بدون وسيط ، إلى أن فعلتها إسرائيل وقد رصدت السفينة وفهمت المغزى من وجودها ، وقامت بضرب السفينة بهدف تدميرها وهي حليفتها الأولى ولكن هذه هي إسرائيل ، وقد وقع من القتلى الأمريكيين ما وقع وأصيب من أصيب ، لقد رصدت هذه السفينة التجاوزات الإسرائيلية في الحرب ورصدت قتل الأسرى المصريين في العريش بدم بارد وسجلت كل كبيرة وصغيرة على الجبهة القتالية ، فكان جزاءها ما كان ، لقد تناولت مواقع امريكية هذه القصة كثيرا خصوصا في السنوات الأخيرة وكذلك تناولها الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه الإنفجار 1967 من سلسلة كتب حرب الثلاثين سنة، وإليكم القصة الكاملة لهذه السفينة بعد الإطلاع على مصادر متعددة لتجميع القصة والصور النادرة:
يقول الأستاذ هيكل في كتابه : كانت مغامرة سفينة التجسس ليبرتي من أغرب مشاهد معارك سنة 1967 . ويمكن أن يقال بإطمئنان أن خط سير السفينة كان هو نفسه خط تصاعد الأزمة في تلك الأيام الحافلة من أواخر شهر مايو وأوائل شهر يونيو سنة 1967 .
كانت السفينة ليبرتي واحدة من سفينتين للتجسس تملكهما البحرية الأمريكية بالتعاون مع وكالة N.S.A وهي الوكالة المختصة بالتجسس على مواصلات وإتصالات العالم . كانت ليبرتي واحدة وكانت الثانية هي سفينة التجسس بويبلو .
وكان يطلق على هاتين السفينتين وصف الآذان الكبيرة ، وكانت ليبرتي بالذات أكثر إستعدادا من شقيقتها الأخرى بويبلو ، فقد كانت معبأة بصفوف من العقول الإلكترونية وأجهزة فك الشفرة وأجهزة التنصت وأجهزة التسجيل .
وكان يعمل عليها 279 رجلا ، نصفهم من البحارة الذين لا يتصل عملهم بالمهمة الحقيقية للسفينة ، ونصفهم الآخر من الخبراء في عمليات الإلتقاط والتسجيل وكسر الشفرات إلى جانب مجموعة للتحليل السريع للمعلومات .وكان هناك إنفصال كامل بين قسم البحارة وقسم المخابرات . وكان محظورا على البحارة أن يدخلوا إلى منطقة الإتصالات التي كانت تعرف بأنها " منطقة الأمن ".
وفي هذه الفترة من خدمتها كانت ليبرتي تحت قيادة الكوماندور وليام ماك جونجيل وهو ضابط بحرية في الواحد والأربعين من عمره ، وكان مشهودا له بالكفاءة . وكان عمله محددا بقيادة السفينة ، في حين أن مهمتها الحقيقية كانت موكولة إلى ضابط من وزارة الدفاع تساعده مجموعة عمليات من الضباط .
وفي منتصف شهر مايو 1967 كانت ليبرتي مكلفة بالعمل قرب شواطيء نيجيريا . وفي يوم 23 مايو – بعد إعلان إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية – تلقت ليبرتي الأوامر بالتوجه بأقصى سرعة ممكنة إلى ميناء روتا في إسبانيا . وهناك كان عليها أن تعيد تزويد خزاناتها بالوقود وأن ترتب نفسها لمهمة جديدة سوف تصل أوامرها إليها في روتا .
ويوم 29 مايو كانت ليبرتي بالفعل أمام ميناء روتا ، وكانت ترتب نفسها لمهمة جديدة . وكان أكثر مايلفت النظر في عملية إعدادها للمهمة الجديدة هو أن ضابطا جديدا من ضباط وكالة الأمن القومي (N.S.A) إنضم إلى خبرائها بإسم آلان بلو ، وكان طبقا لكل الشواهد خبيرا في الشفرات الإسرائيلية .
ويوم 2 يونيو 1967 تلقت ليبرتي أوامرها بالتحرك إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ، على أن تتخذ موقعا يمثل نقطة إلتقاء خط بين العريش والقدس . وتضمنت الأوامر لليبرتي أنها سوف تكون تابعة مباشرة لقائد الأسطول السادس الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط والموجود على سفينة قيادته الرسمية ، وهي في ذلك الوقت المدمرة ليتل روك .
وتوجهت ليبرتي إلى مهمتها المحددة في حراسة الغواصة النووية الأمريكية آندرو جاكسون وهي غواصة مزودة بصواريخ نووية وقد أمرت الغواصة أن تلتزم بصمت لاسلكي كامل ولا تفتح أجهزة للإرسال إلا إذا تلقت أوامر مباشرة من البيت الأبيض في واشنطن .
وقبل أن يطلع فجر يوم 5 يونيو بساعات ، كانت ليبرتي في منطقة العمل المحددة لها ، وكانت قد إكتشفت فور وصولها أن الإسرائيليين يتسمعون على الشبكات المصرية – الأردنية ، كما أنها تمكنت من إختراق بعض الشفرات الإسرائيلية . والظاهر أن تلك كانت مهمتها الأساسية ، فالشفرات المصرية كانت مخترقة بالقعل ، وأما الشفرات الإسرائيلية فقد كانت هي المهمة الجديدة العويصة . وكانت ليبرتي في تلك الساعات تحصل لنفسها على ميزة ضخمة ، فقد بدأت تطلع على أسرار الكل دون أن يكون لأحد منهم علم بأنها موجودة وبأن آذانها الكبيرة مفتوحة على آخرها لإلتقاط كل حركة وهمسة .
كانت ليبرتي أيضا قد إكتشفت حقيقة غريبة مؤداها أن إسرائيل تتدخل لطبخ الرسائل الشفرية المتبادلة بين القاهرة وعمان . تعترض البرقيات وتحول معانيها في لحظات وتعيد إرسالها على نفس الترددات المتفق عليها بين مصر والأردن بما يعطيها معنى مختلف إختلافا كليا عما قصد إليه مرسلوها ، وبما يضلل المرسل إليهم بحيث يتصرفون بالضبط كما تريد إسرائيل .
وعلى سبيل المثال فقد كانت هناك رسالة شفرية من القيادة في القاهرة إلى القيادة في عمان تقول " إن الجيش المصري في سيناء يواجه موقفا عسكريا صعبا لا يستطيع معه أن يقدم أي مساعدات لها قيمة للجبهة الأردنية ، وان الطيران المصري بدوره تعرض لضربة إسرائيلية تعوق قدرته على الوصول بأي تأثير إلى الجبهة الأردنية ".
وإذا المحطات الإسرائيلية التي إعترضت هذه الرسالة تعيد صياغتها بحيث يصبح مؤدى الرسالة " إن الموقف العسكري في سيناء جيد للغاية ، وأن ضربة الطيران الإسرائيلي ضد مصر فشلت وخسرت فيها إسرائيل ثلاثة أرباع قوتها ، وأن هناك الآن ثلثمائة طائرة مصرية جاهزة للعمل وتقديم المساعدة اللازمة للجبهة الأردنية ".
وفي البداية بدت هذه الطبخة غريبة على الجالسين في غرفة عمليات ليبرتي ثم إنتبهوا بسرعة إلى أن هذا الطبخ قصد مقصود ، مطلوب منه إغراء الأردن على التورط في توسيع القتال على جبهته بما يعطي لإسرائيل عذرا في التقدم أسرع وأجرأ في الضفة الغربية .
لقد قامت الإدارة الأمريكية بإعطاء الضوء الأحمر بتحذير إسرائيل من أي عمل تجاه الأردن وكان ذلك هو وحده السبب الذي دعا إلى إرسال سفينة التجسس الأمريكية ليبرتي لكي يكون في الإمكان معرفة دقائق ما يجري على الجبهة الأردنية من مصدر مباشر لايعتمد على رواية إسرائيلية . إن ليبرتي كانت لديها مهمة لا تتصل بمصر ، ولا تتصل بالإتحاد السوفيتي ، وإنما تتصل بطرف آخر لم تكن الولايات المتحدة جاهزة من قبل لمتابعة شفراته ولا كانت راغبة في ذلك ، وهذا الطرف لا يمكن يكون غير إسرائيل .
يقول الكوماندور ماك جونجيل قائد ليبرتي إن المسؤول عن فرقة العمليات السرية في باخرته جاءه مساء 5 يونيو وقال له بطريقة مبهمة إن لديه أسبابا للقلق على سلامة الباخرة ، وهو لا يعرف مدى قدرة الباخرة على الدفاع عن نفسها . وأضاف ماك أن هذه الملاحظة أقلقته ، وقرر بعدها أن يبعث برسالة مباشرة إلى الأميرال ويليام مارتن قائد الأسطول المريكي السادس في البحر المتوسط طالبا منه حماية خاصة لباخرته بإعتبار أنها تقوم بمهمة حساسة في منطقة حرب.
وفي الصباح رد عليه الأميرال مارتن قائلا له إن قراره في شأن طلبه هو أنه ليس في حاجة إلى حماية ، فالعلامات الأمريكية على باخرته واضحة ومنطقة عملها خارج المياة الإقليمية لأي بلد في المنطقة ، كما أن الولايات المتحدة ليست مشتركة في العمليات .
ولم تلبث تطورات الساعات اللاحقة أن أظهرت أن إسرائيل بدأت تنتبه إلى وجود ليبرتي وإلى حقيقة مهمتها . والمذهل أن هيئة اركان الحرب المشتركة رأت أنه من الضروري تنبيه ليبرتي إلى إحتمالات الخطر الذي تواجهه ، وبالفعل فإن عددا من التوجيهات صدرت بتحذيرها ، ولكن ايا من هذه التحذيرات لم يصل إليها .
وخلال ساعات كان ديان مكلفا بإعداد طريقة لمواجهة خطر ليبرتي كما أن الحكومة الإسرائيلية قررت إيفاد أبا إيبان إلى أمريكا على وجه السرعة .
وكتب أبا إيبان إلى تل أبيب . وكان قرار وزير الدفاع ديان ومجموعة المؤسسات العسكرية ومؤسسة المخابرات التي أمسكت في يدها بالقرار الإسرائيلي في تلك الظروف هو : إغراق ليبرتي بكل ماعليها ومن عليها !.
والغريب أن وكالة الأمن القومي N.S.A عرفت مساء يوم 7 يونيو أن إسرائيل تحضر لهجوم على ليبرتي ، وكان ما إتخذته من إجراءات هو الإتصال ب ليبرتي لكي تغير مجراها الملاحي وتبتعد عن الشواطيء الإسرائيلية ، وأن تقترب الغواصة النووية الأمريكية آندرو جاكسون إلى موقعها لكي تتولى حراستها .
وتلاحقت الحوادث وكان سياقها طبقا لسجلات ليبرتي على النحو التالي :
يوم 8 يونيو
8:50 ص
وصلت السفينة إلى نقطة 28 ميلا شمال غرب تل أبيب . ظهرت طائرة حربية نفاثة لم يتحدد طرازها وإن تم رصد خط سيرها .
10:56 ص
إثنتان من الطائرات الحربية النفاثة تحلقان حول ليبرتي من على بعد ميلين وعلى إرتفاع مابين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف قدم .
11:26 ص
عادت الطائرتان الحربيتان النفاثتان ومعهما ثالثة بمحرك ، ولم يتيسر تحديد علامتها . دارت حول ليبرتي لمدة خمس دقائق ثم إبتعدت في إتجاه شرق جنوب .
رفع درجة الإستعداد إلى اللون الأحمر ( الخطر ) .
طلب الماجور بلو ( ممثل وكالة الأمن القومي ) من الكوماندور ماك وقف كل الإتصالات بين ليبرتي وآندرو جاكسون حتى يتم التأكد من انه ليس هناك تدخل في الإتصالات من الخارج .
1:52 م
الطائرات النفاثة تدور محلقة مرة أخرى حول ليبرتي . رسالة مشتركة من الكوماندور ماك والماجور بلو غلى وكالة الأمن القومي بطلب تعليمات جديدة . إستكمال مهمة المتابعة أو العدول عنها للإلتحاق بالإسطول السادس لأن مهمة ليبرتي قد إنكشفت ( لارد على الرسالة ).
1:54
صواريخ وقذائف تصيب ليبرتي . ثلاث طائرات في تشكيل مثلث تهاجم . أمكن تمييز الطائرات . الطائرات ميراج . ثلاث هجمات بالميراج .
أمر من الكوماندور ماك برسالة عاجلة إلى قيادة الإسطول السادس بأن ليبرتي معرضة لهجوم بواسطة طائرات ميراج لم تحدد جنسيتها . الهجوم يتكرر ثلاث مرات .
أمر من الكوماندور ماك بإرسال إستغاثة مكشوفة " ماي داي " .
أصيبت أجهزة الإرسال .
2:24 م
ثلاثة قوارب طوربيد M.T.B تقترب من إتجاه جنوب شرق ثم تغيره إلى شمال بسرعة قدرت ب 30 عقدة . امر الكوماندور ماك بإستخدام المدافع الرشاشة لليبرتي ضدها . افاد مسؤول المدافع براون أن القوارب إسرائيلية .
قوارب الطوربيد الإسرائيلية تعرف أنها تهاجم باخرة أمريكية وتحاول قتل مواطنين أمريكيين . امر من الكوماندور ماك بإستخدام مصابيح الإشارة لتنبيه القوارب الإسرائيلية إلى جنسية ليبرتي . القوارب تواصل إنقضاضها .
2:35 م
قوارب الطوربيد تقترب جدا . العلم الإسرائيلي ظاهر فوقها . تطلق طوربيدات . مركز الإتصالات على ليبرتي يصاب من أول هجوم . معظم المعدات مدمرة . الكابتن بلو مندوب وكالة الأمن القومي يسقط قتيلا .
2:51 م
قوارب الطوربيد تبتعد . طائرتان إسرائيليتان من طراز ميراج تظهران ثم تعودان .
3:00 م
الموقف فظيع 31 قتيلا – 54 جريحا . ليست هناك معجزة تنقذ ليبرتي .
كان ذلك مستعصيا على التصديق ، وأكثر منه فقد حدث في الساعة 2:05 بعد بدء الهجوم الجوي على ليبرتي أن تلقت حاملة الطائرات ساراتوجا إشارتها بالإستغاثة .
وقرر قائد ساراتوجا نجدتها ، واصدر أمرا إلى مجموعة من طائرات حاملته بالإنطلاق نحو موقعها ، وعلى الفور صدر أمر مناقض من الأميرال جيز قائد المجموعة البحرية 60 والتي يتبعها ساراتوجا بإلغاء الأمر الأول وإستعادة طائرات ساراتوجا إلى مهبطها على الحاملة !
ومن المفارقات أيضا المذهلة أن مركز الإستطلاع اللاسلكي للبحرية المصرية كان يتابع الحادثة دقيقة بدقيقة ، وكان خبراؤه في حالة عجز كامل عن فهم ما يحدث .
وفي نفس الوقت وطبقا لسجلات ليبرتي حامت حولها طائرة هليكوبتر إسرائيلية وحاولت تقترب من سطحها ، وبلغ الغضب بالأحياء من بحارة وضباط ليبرتي إلى حد أن وجهوا إليها نيران أسلحتهم الصغيرة . ومع ذلك حلقت الهليكوبتر الإسرائيلية على إرتفاع عال فوق ليبرتي وأسقطت ثقلا من الرصاص معه رسالة مكتوبة من الكوماندور أرنست كاستيل الملحق البحري في تل أبيب تقول بالنص : هل لديكم أية خسائر ؟!
وبلغ الغضب بالكوماندور ماك قائد ليبرتي غلى درجة انه لوح بإشارة بذيئة وصرخ بأعلى صوته بسباب أكثر بذائة ، ثم بصق على الأرض .
ولمدة ست عشرة ساعة لم تأت نجدة أمريكية من الجو أو البحر لمساعدة ليبرتي في محنتها . واسوأ من ذلك جاءت حاملة صواريخ سوفيتية في منتصف الليل ، ووقفت بالقرب من ليبرتي وأفصحت عن شخصيتها بأضواء المورس وسألت قائدها : هل تحتاجون إلى مساعدة ؟
وكان الجواب من ليبرتي : لا .. وشكرا .
وردت حاملة الصواريخ السوفيتية : سوف نقف بالقرب منكم في حالة ما إذا إحتجتم إلى شيء حتى تجيئكم النجدة !
وكانت ليبرتي واقفة في عرض البحر والظلام مروعة بالهجوم عليها وبقتلاها وجرحاها لا تملك وسيلة للإتصال ببقية أسطولها ، وقد ظهر فيما بعد أن محطات التشويش الإسرائيلية إستطاعت شل فاعلية سبع قنوات للإتصال ، ولم تنج إلا قناة واحدة ثامنة لم تستطع محطات التشويش الإسرائيلية أن تعثر عليها !
وتم إنقاذ ليبرتي وسحبها إلى جزيرة مالطا لإصلاحها ونقل المصابين والجرحى والقتلى ، وبعدها قدمت إسرائيل إعتذارا للولايات المتحدة عن هذا العمل ..!
تلك كانت إحدى القصص التي دارت في المياه الدولية أمام بورسعيد في أيام حرب
1967
المصدر
http://www.portsaidhistory.com/topic/بالصور-النادرة-إسرائيل-تدمر-سفينة-التجسس-ليبرتي-عندما-كانت-تحوم-في-المياة-الدولية-أمام-بورسعيد