هذا المشهد الدرامي وقع في الساعة الثانية بعد ظهر يوم السادس من أكتوبر1973, في أعلي برج خشبي مقام علي حافة قناة السويس في الضفة المحتلة من القناة, كان يجلس جندي إسرائيلي, يتناوب معه مهمته, جنود آخرون طوال الأربع والعشرين ساعة.
ومهمته هي أنه اذا شاهد أي تحرك مصري لعبور القناة, فانه يبلغ قيادته فورا من أجهزة الاتصال المزود بها, وفي تمام الساعة الثانية بعد الظهر أصيب هذا الجندي فجأة بصمم في أذنيه وفقد حاسة السمع, وذلك بسبب الطائرات المصرية التي عبرت القناة في تلك اللحظة, فأصبح الجندي في حالة لايميز فيها صورة المشهد الذي أمامه, فهو لايسمع صوتا لأي طائرة تمر من فوق رأسه, بينما عيناه تراها, وإلي ان استطاع الجندي ان يستجمع أفكاره, ويتبين حقيقة مايجري, كانت الطائرات المصرية قد أكملت غارتها الأولي علي المواقع الاسرائيلية. وهذه الصورة وردت في تقرير لجنة اجرانات التي حققت في إخفاق القيادة الإسرائيلية أمام مصر في يوم السادس من أكتوبر, وهو التقرير الذي حمل اسم التقصير.
واليوم وبعد34 عاما علي حرب اكتوبر, تصدر شهادات من صناع القرار في إسرائيل, تشير إلي تشابه هذا المشهد إلي حد كبير, مع حالة قادة إسرائيل في الأيام القليلة التي سبقت حرب73, فالمعلومات المتوافرة لهم من أجهزة مخابراتهم, تؤكد لهم نية الرئيس السادات القيام بالحرب, وعبور قواته القناة, وكسر خط بارليف, لكن عقولهم رفضت تصديق هذه المعلومات.
وهذه الشهادات تكشف أبعاد الصورة في إسرائيل في ذلك اليوم, والمناخ المسيطر الذي كان قادتها يتخذون فيه قراراتهم. وقد تتفق شهادات اليوم مع بعض مما سبق أن تسرب أو أعلن من داخل إسرائيل في السنوات الأخيرة, لكنها في النهاية تمثل اضافة تستحق النظر, وان كانت كلها تلتقي عند نقاط محددة هي: الغرور الذي ركب رءوس زعماء اسرائيل, والذي تسبب في خطأ تقديراتهم التي استندت اليها قراراتهم السياسية والعسكرية, وقصور حساباتهم لموازين القوي, أمام هجوم مصري, تم الاعداد له علميا بتخطيط وتنفيذ علي مستوي العصر, وفق مشروع عسكري يعرف هدفه, ويعرف طريق الوصول إليه, فأغمضوا عيونهم عن عناصر مهمة, تثقل كفة الجيش المصري في توازن القوي.
من بين هذه الشهادات ما سجله وزير الخارجية الإسرائيلي الاسبق شلومو بن آمي في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان: ندوب الحرب, وجراح السلام, التراجيديا الاسرائيلية العربية, بالاضافة إلي شهادات سبقتها لاسحق رابين وموشي ديان, وهي تصب في نفس الاتجاه.
يقول بن آمي في شهادته: من سخرية القدر, انه لم تشن أي حرب في التاريخ, بهذا القدر من العلانية, التي سبقت وقوعها, مثل هذا الهجوم المفاجئ في أكتوبر1973.
فالسادات حذر مرارا من انه اذا بقيت إسرائيل علي عنادها فلن يكون أمام مصر من سبيل سوي الحرب.
ويقول بن آمي: اذا كانت حرب73 جاءت كمفاجأة, فليس سبب ذلك ان السادات لم يظهر اي اشارة علي انه سيدخل الحرب, حين يجد ان مبادراته للسلام لايتم الاستجابة لها. لكن الغرور هو الذي جعل الإسرائيليين ببساطة لايأخذون السادات بجدية.
ففي ابريل1973 نشرت مجلة نيوزويك تصريحا للسادات اعلن فيه بأكثر العبارات الممكنة وضوحا, انه يستعد للحرب, وأن الوقت قد حان من أجل إحداث صدمة.
فكل شيء قد تم اعداده جديا لاستئناف المعركة, التي أصبحت الآن حتمية لكن ديان من ناحيته استبعد التهديدات المصرية, وكانت وجهة نظره تقوم علي ان العرب بطبيعتهم غير قادرين علي ان يكسبوا حربا حديثة.
وفي صيف1973 خاطب ديان هيئة اركان الجيش الإسرائيلي محللا ميزان القوي بين قوات الجانبين, وعلي أساس هذا التحليل, استبعد اي احتمال لهجوم مصري, مع الأخذ في الاعتبار ـ من وجهة نظره ـ تخلف الجندي العربي من حيث المعنويات والتعليم, والمهارة التقنية.
في نفس التوقيت كتب الجنرال اسحق رابين مقررا ان العرب لديهم ضعف بالطبيعة تجاه خوض حرب حديثة, بالاضافة إلي نقص قدرتهم علي التوافق بين اجراءاتهم السياسية والعسكرية.
بالاضافة إلي هذه الشهادات فقد سبق ان كتب هنري كيسنجر بعد سنوات علي حرب73, يقول ان كل الاسباب والاعتبارات العسكرية في عام73 كانت تجمع علي ان الرئيس المصري لايمكن ان يقدم علي اتخاذ قرار الحرب, لأن كل حسابات التسليح وتوازن القوي, تجزم بأنه سيخسرها, لكن يبدو ان هناك عنصرا تم اغفاله يوضع في حسابات موازين القوي, غير التسليح والقدرات العسكرية, وهو الإرادة الوطنية للطرف المحارب من أجل تحرير ارضه المحتلة, فهذا سلاح له اعتباره.
ان حرب73 نجحت, وهزمت فيها إسرائيل, وذلك بشهادة صريحة في المؤتمر الذي عقد في واشنطن عام1998, لتقييم الحرب بعد25 عاما علي وقوعها وشارك فيه عدد من صناع القرار والمسئولين في حكومة نيكسون في هذه الفترة, وكذلك مسئولون اسرائيليون سابقون سياسيون وعسكريون, واعترفوا لأول مرة بأن اسرائيل هزمت بالفعل لولا النجدة التي جاءتها من الولايات المتحدة, باقامة الجسر الجوي الذي انقذ إسرائيل وجيشها.
ويبقي ان قدرة مصر علي تحقيق النصر, كانت نتيجته مشروع قام علي أسس علمية, بوضع الخطة وتحديد الهدف, وبمستوي التدريب, واختيار اللحظة المناسبة للهجوم, وحسن اختيار القيادات حسب المقاييس والمواصفات الموضوعية المجردة, التي توفر الضمانات الأكيدة للنجاح.
http://www.moheet.com/2007/10/03/%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%A8%D8%B1%E2%80%8F%E2%80%8F/