اليوم الرابع و الخامس
أتى اليوم الرابع للقتال، وكان الفريقان يقاتلون منذ أكثر من أربع وعشرين ساعةً متصلةً، ولم ينقطع القتال إلا نحو ساعة واحدة بعد صلاة العشاء بعد تكبيرة طليحة بن خويلد الأسدي؛ ولكن القتال كله استمر من صباح اليوم الثالث حتى صباح اليوم الرابع، وأشرقت شمس اليوم الرابع، ورأى سعد بن أبي وقاص أن المسلمين يتواصون بالقتال؛ فعلم أن النصر في هذه الليلة "ليلة الهرير" مع المسلمين، وكان سعد بن أبي وقاص من فوق حصن "قديس" لا يرى وقائع القتال بصورة واضحة، وليس عنده من الجنود من يذهب ويعود إليه بالأخبار؛ لأن كل الجنود كانوا قد اشتركوا في القادسية لشدة المعركة، ونال التعب من الفريقين، وكان واضحًا أن الحرب تقترب من نهايتها، فكل فريق قد استُنفِدَتْ طاقاته سواء الطاقات البدنية أو الخططية، فالطرفان لم يناما منذ أربع وعشرين ساعة، وكل فريق يريد للموقعة أن تنتهي.
أدرك هذه الحقيقة القعقاع بن عمرو التميمي فقال للمسلمين: إن الدَّبَرَة بعد ساعة لمن بدأ القوم (أي أن ميعاد الهزيمة قد اقترب، فمن يبدأ في التخاذل سيكون من نصيبه الهزيمة؛ لأن الأمر شديد على الطرفين) {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]؛ فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فآثِرُوا الصبرَ على الجزع. وبدأ يحمِّس المسلمين، وقام خطباء المسلمين من جديد يحمسون المسلمين، وكأنهم في بداية القتال، وبدأ المسلمون في الهجوم الشديد على الجيوش الفارسية، وفي بداية ذلك اليوم مال النصر إلى حَدٍّ كبير إلى صفِّ المسلمين، وكان القتال كله في قطاع الجيش الفارسي، كما كان الجيش الإسلامي بكامله في قطاع الجيش الفارسي يضغط عليه عند نهر العتيق الذي يقع خلف الجيش الفارسي، وكان الجيش الفارسي يتكون من خمسة قطاعات، منها قطاع البيرزان وقطاع بهمن وكلاهما دون رئيس ودون قائد؛ لأن البيرزان وبهمن قُتِلا، وبقي رستم في منتصف الجيوش في قطاع بهمن حيث تقع الطائرة التي يقيم فيها.
خطة للوصول إلى قلب الجيش الفارسي :
قام القعقاع بن عمرو التميمي بتدبير خطة حتى يُنْهَى القتال الشديد على المسلمين وعلى الفرس؛ ففكَّر في أمر فكر فيه من قبلُ المثنى بن حارثة ، حيث فكر في أن يأخذ قبيلة تميم وهي قبيلته، ويأخذ معه نجباء المسلمين من المقاتلين، أي أن يأخذ أفضل الجنود من كتيبة الفرسان ويدك بهم قلب الجيش الفارسي، وكان يرأسه بهمن جاذويه، وكان هدف القعقاع بن عمرو أن يفصل الميمنة عن الميسرة؛ فتنقطع الاتصالات بين الفريقين، ومن الممكن بعد ذلك أن يفقدوا السيطرة، ويفقدوا صلتهم بقائدهم، وكان هدف القعقاع أن يصل إلى رأس الأفعى؛ يصل إلى رأس رستم قائد الفرس، ويقول: إذا قتلت رستم ضاعت معنويات الجيش الفارسي كله.
وبدأت بالفعل عملية من أصعب العمليات؛ لأن قطاع بهمن فيه نحو عشرين ألفًا، وقبيلة تميم كلها تقريبًا ثلاثة آلاف؛ ومن فضل الله على المسلمين أن المساحة العرضية لأرض القادسية كانت ضيقة، فكان الجيش الفارسي مرتبًا في صفوف بعضها وراء بعض، وهذا كان من فضل الله I، وقد أسهم ذلك في إلحاقِ الهزيمة بالفرس.
وبدأ القعقاع ومعه قبيلة تميم في الضغط على الفُرْسِ، ويبدأ قلب الفرس في الانهيار تدريجيًّا أمام الضغط الشديد للمسلمين، وفي الوقت نفسه تمارس قبائل بني قحطان اليمنية الضغط على ميمنة الفرس بقيادة الهرمزان، وتضغط قبيلة قيس على مهران في الميسرة؛ حتى لا تلتف ميسرة أو ميمنة الفرس حول الجيش الإسلامي من الخلف، ويستمر المسلمون في الضغط على الفرس إلى نهر العتيق، وكانت أعداد الجيش الفارسي ضخمة، فهناك مائة وعشرون ألفًا موجودون قبل نهر العتيق، وهناك مائة وعشرون ألفًا ينتظرونهم في الناحية الأخرى، وكان قد قتل من الفرس نحو خمسة وعشرين ألفًا حتى هذه اللحظة، وتبقَّى -من هذا الجيش- خمسة وتسعون ألفًا، وهذا ما زال عددًا كبيرًا.
المدد الإسلامي يصل أرض المعركة :
في هذا الوقت الصعب يصل المدد المتبقي من الشام، وكان القعقاع بن عمرو قد وصل على رأس ألف، وتبعه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على رأس سبعمائة، والآن وصل الآلاف الأربعة الجدد، أو وصل منهم ثلاثة آلاف، وهناك ألف وصلوا في اليوم الخامس من المعركة، فأصبح كل هذا المدد القادم يتمتع بروح عالية، وهو متعطش إلى الشهادة في سبيل الله.
ودخل المدد كله في القلب مع قبيلة تميم فزاد الضغط على رستم، وبدأ الفرس ينهارون انهيارًا سريعًا حتى استطاع المسلمون أن يصلوا إلى قلب الجيش الفارسي، ووصلت خيول المسلمين إلى نهر العتيق؛ ففصلت بذلك ميمنة الفرس عن ميسرتهم، وكان المسلمون يقاتلون بضراوة لم نسمع عنها كثيرًا في التاريخ، حتى إن أحد المسلمين قطعت يده، واستمر يقاتل بيده الأخرى، حتى إن أحد المسلمين قد مَرَّ عليه، فقال له: من أنت يا عبدَ الله؟ فقال: أنا رجل من الأنصار {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. ثم استشهد ، وكان المسلمون مصممين على إنهاء إمبراطورية الفرس في هذه المعركة.
وصل المسلمون إلى طائرة رستم حيث مقر القيادة، وفي هذه اللحظة يأذن الله للريح أن تهب شديدة من الغرب إلى الشرق، وكانت عادتها في مثل هذه الأيام أن تهب من الشرق إلى الغرب، ويسميها العرب ريح الدَّبُور، وهي التي تمرُّ في عكس الاتجاه الذي تهب فيه طول العام، هبت الريح؛ فاقتلعت طيارة رستم من شدتها، وقذفت الريح بالرمال في أعين الفرس، وكلهم مواجهون للرياح القادمة عليهم من الغرب؛ فكان هذا نصرًا من الله لا دخل للمسلمين فيه {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
ووصل المسلمون إلى الطائرة، ونظروا فيها فلم يجدوا رستم؛ فقد اختفى رستم، وينظر المسلمون يمينًا ويسارًا فلا يجدونه، فيستمرون في القتال وفي حصار اليمين واليسار، وكان في خلف طائرة رستم مجموعة من البغال وعليها مئُونة الجيش، وعليها الأسلحة، وعليها المدد القادم من المدائن للجيش الفارسي.
هلال بن علفة يقتل رستم :
وفي أثناء اشتداد القتال بالقرب من البغال إذا بهلال بن عُلَّفة وهو يضرب بسيفه يطيش السيف وهو يضرب به؛ فقطع حملاً من أحمال هذه البغال، فسقط هذا الحمل على الأرض، فسمع هلال بن علفة صراخًا من خلف البغل، إذن هناك من يختفي وراء هذا البغل؛ فصرخ هذا الرجل وأسرع بالفرار، فنظر إليه هلال بن علفة فوجد عليه الأبهة والعظمة، فقال لنفسه: أهو هو؟ أي: هل هو رستم؟ فلما رآه هلال بن علفة يجري بهذه السرعة وهذه الأبهة التي كانت عليه، قال: لا أفلحت إن نجا. وبالفعل أسرع وراءه حتى يلحق به، ويصرخ فيه رستم يقول: "بابيه". ومعناها بالفارسية: كما أنت، أي: قِفْ كما أنت؛ ظن رستم أنه أحد جنوده الذين يطيعونه.
ولكن هلال بن علفة كان مصممًا على إدراك رستم، فقذفه رستم برمح كان في يده؛ فأصاب قدم هلال بن علفة، ولكن ذلك لم يثنه، فتبعه، فقذف رستم نفسه في نهر العتيق، وبدأ يعوم، فدخل هلال بن علفة وراءه في النهر، وجذبه من قدمه إلى خارج النهر، ثم ضربه بسيفه على رأسه؛ ففلق هامته، فكانت هذه هي نهاية رستم. وعندما قتله أدرك أنه قتل رستم عظيم الفرس وقائدهم، لِمَا رأى على ثيابه وعلى تاجه من العظمة ومن الجواهر ومن الأشياء الثمينة، فوقف هلال بن علفة على كرسي رستم في مكان الطائرة، بعد أن قامت الرياح بقذف الطائرة بعيدًا، ونادى: قد قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ أيها المسلمون. وظل ينادي بصوتٍ عالٍ أنه قد قتل رستم، فعلم المسلمون ذلك وتجمعوا حوله، واتخذوا من طائرة رستم مكانًا يتجمعون حوله، وعلم الفرس أن قائدهم رستم قد قُتل، فانهارت معنوياتهم، وأسلموا رقابهم للمسلمين.
الجيش الفارسي ينهار :
أصبحت ميسرة الفرس محصورة تمامًا بين قبيلتي قيس وبكر من ناحية، وبين قبيلة تميم من ناحية أخرى، كما كان هناك بعض المستنقعات التي لا تمكّن الجيش الفارسي من الفرار، وتقدمت قبيلة قيس وحاصرت الميسرة تمامًا، وبدأ المسلمون في حصد ميسرة ومؤخرة الجيش الفارسي، وعلى الناحية الأخرى كان الجالينوس والهرمزان يقفان قريبًا من الردم، حيث كانت مقدمة الفرس وميمنتهم قريبة من الردم وهو على نهر العتيق، وبدأ المسلمون يبيدون ميسرة الفرس، في حين يدعو الجالينوس جيشه للهرب من المنطقة، وكان يريد الفرار بالجيش من أرض المعركة.
وبدأ الجالينوس والهرمزان يقودان عملية الانسحاب للجيش الفارسي، فعبر الجالينوس الرَّدْم، وبدأ الانسحاب في اتجاه الشمال وتبعه الهرمزان بعد ذلك، وبذلك تكون منطقة الميسرة والمؤخرة للجيش الفارسي قد حصدت تقريبًا، وقتل معظمهم، ومن فرَّ من الجيش الفارسي قذف بنفسه في نهر العتيق، وسبح إلى الناحية الأخرى حتى يهرب من سيوف المسلمين، وقتل في هذا اليوم من الفرس ثلاثون ألف قتيل، وكان هذا قبل أذان الظهر في يوم 16 من شعبان سنة 15هـ، وبدأ الفُرْسُ يُسْلِمون أَنفُسَهم للمسلمين، ووقعت الذلة والهوان في قلوب الفرس وقوعًا شديدًا؛ حتى إنه يقال: إن المسلم كان ينادي على الفارسي، فيأتيه فيعطيه سيفه، فيقتله به.
وحقًّا إن المسلمين إذا ابتغوا العزة في الإسلام أعزهم الله، وإذا ابتغوا العزة في غير الإسلام أذلهم الله، وهذا الموقف تكرر في التاريخ الإسلامي بعد ذلك، ولكن على عكس الأمر؛ فعندما حدث هجوم التتار على الدولة العباسية، كان الرجل من التتار ينادي على المسلم، ويأخذ سيفه ويقتله به، والمسلم لا يدافع عن نفسه؛ لأن هذه الفترة كانت فترة من فترات الضعف الإسلامي، وكان الناس منشغلين بالشعر والعطر والأغاني، وتركوا الجهاد وطاعة الله تعالى؛ فأذلهم الله حتى عاد النصر من جديد على صيحة "وا إسلاماه" على يد قطز -رحمه الله- في موقعة عين جالوت.
فالتاريخ فيه عِبَر وعظات، والمواقف تتكرر ونراها حتى يوم القيامة {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43]. يقول المؤرخون: حتى كان الطفل الغلام الذي لم يبلغ الحلم من المسلمين يَقتُل من الفرس من شدة هوان الفرس عليهم؛ حتى إنه رُئِي غلامٌ من قبيلة النخع اليمنية يقود ستين فارسًا من الفُرْسِ ويأخذهم أسرى، والفرس يرفعون أيديهم عالية.
وخَلَتْ ساحة القتال تقريبًا من الفرس، وأصبح الجيش الإسلامي هو الموجود فقط في المنطقة، وبدأ المسلمون في حصر الشهداء، فكان شهداء المسلمين ثمانية آلاف وخمسمائة شهيدٍ طوال أيام القتال، وصدق فيهم قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170]. أما في يوم القادسية فلم يستشهد من المسلمين عدد يذكر مع شدة هجوم المسلمين على الفرس، إلا أن الله I مَنَّ بالنصر على المسلمين دون شهداء في ذلك اليوم، وقُتِلَ من الفرس من بداية القتال وحتى نهايته نحو أربعين ألف قتيل.
بطولات الصحابة في القادسية:
في هذه الموقعة أسقط ضرار بن الخطاب راية "درفش كابيان"، وهي راية الفرس العظمى ذات الشمس البنفسجية والقمر الذهبي، وهي راية كبيرة وضخمة، وهي من أشهر وأكبر الرايات في التاريخ، وهذه الراية لم تسقط حتى هذه اللحظة، والذي أسقطها ضرار بن الخطاب ؛ فسقطت ولم ترتفع مرة أخرى في هذا اليوم.
ويأتي أحد المسلمين وهو زيد بن صُوحَان -وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله- ويده مقطوعة، ويجري فرحًا ويده قد قطعت من القتال؛ فأسرع إليه المسلمون حتى يعالجوه، فذكر لهم وتذكر معه الصحابة أنهم كانوا في غزوة مع رسول الله، فغفا رسول الله غفوة، ثم أفاق فقال: "زيد وما زيد! يده تسبقه إلى الجنة". ولم يعرف الصحابة ساعتها من هو زيد الذي عناه رسول الله، فرجع من يوم القادسية فرحًا؛ لأنه علم أنه المقصود بهذا الرجل الذي تسبقه يده إلى الجنة، ثم لحق به جسده الكريم في موقعة الجمل، فلقد استشهد في موقعة الجمل بيدٍ واحدة.
تتبع الفارِّين:
وبعد أن انتهت هذه الملحمة الشديدة على المسلمين، بدأ سعد بن أبي وقاص -كما كان يفعل خالد بن الوليد ، وكما كان يفعل المثنى بن حارثة من قبل- في تتبع فلول الهاربين من الجيش الفارسي، إنه إصرار شديد على محق الإمبراطورية الفارسية؛ حتى يُعْبَدَ الله وحده.
وفرَّ الهرمزان إلى الجنوب الشرقي حيث سيعبر بعد ذلك نهر الفرات متجهًا إلى الأهواز جنوبي إيران، وهذه المنطقة فيها عز الهرمزان وفيها ملكه، وكان الهرمزان قبل ذلك قد عاهد رسول الله أن لا يقاتل المسلمين، ولكنه خان عهده مع رسول الله وقاتل المسلمين في القادسية، وها هو يهرب الآن من موقعة القادسية بعد هزيمة جيشه، وينتقل بجيشه إلى منطقة الأهواز. وفرَّ الجالينوس إلى ناحية المدائن في اتجاه النجف، وهي المنطقة التي عسكر فيها جيش الجالينوس قبل أن يدخل القادسية مباشرة.
وفَرَّت فرقة أخرى من الفُرس في اتجاه الشمال بجوار نهر العتيق، فأرسل سعد بن أبي وقاص القعقاع بن عمرو التميمي وأخاه عاصم بن عمرو التميمي حتى يتتبعا الهرمزان جنوبًا، وأرسل شُرَحبيل بن السِّمْط ليتتبع الفريق المتجه شمالاً في مطاردة سريعة قصيرة، حتى يلحقوا بالفُلُول التي هربت من الجيش الفارسي، وبالفعل في أقلِّ من ساعة كانت الجيوش الإسلامية قد لحقت بعدد كبير من الناحيتين، ثم عاد القعقاع وعاصم رضي الله عنهما إلى القادسية وعاد شرحبيل بن السِّمْط، فأبدلهما سعد بن أبي وقاص المهمة، أي أبدل كل واحد منهم مهمة الآخر، وقال سعد للقعقاع وعاصم: اصعدا إلى الشمال. وقال لشرحبيل: انزل جنوبًا. وسعد بذلك يحفز القواد على اللحاق بالفرس؛ حتى يتداركوا فلولهم، ويَجِدوا في البحث عن الفرس، y أجمعين.
ثم أرسل سعد بن أبي وقاص مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحُوِيَّة لمتابعة الجالينوس؛ فتقدم زهرة بن الحوية ليلاحق الجالينوس، وكان الجالينوس قد عبر نهر الحضوض المتفرع من نهر العتيق، وعبره الجالينوس على الردم، وكان هناك قنطرة في هذا المكان على نهر الحضوض بعيدة، ولكن الجالينوس عبر بجيشه كله من فوق الردم، وبعد أن عبر فتح فجوة في الردم؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يلحقوا به.
فجاء زهرة بن الحوية فوجد الفجوة واسعة فاستعد بخيله، واستعد وقفز من فوق هذه الفجوة الواسعة، وتبع زهرة بن الحوية في مثل هذه اللياقة البدينة العالية ثلاثمائة فارس من المسلمين استطاعوا أن يعبروا هذه الفجوة، وبقيت مقدمة المسلمين لم تستطع العبور فعبرت من فوق القنطرة، وتقدمت الجيوش الإسلامية بقيادة زهرة حتى لحقت بالجالينوس على حدود النجف (نحو أربعة كيلو مترات من القادسية)؛ فوجدوا أن الفرقة كبيرة، وجلست في هذا المكان تستريح من القتال وتنتظر حتفها، ووجد الفرس المسلمين على رءوسهم؛ فقاتل المسلمون هذه الفرقة من فرقة الجالينوس وقتلوا منهم الكثير، وقتل زهرة بن الحوية الجالينوس بنفسه، ولم يكن يعرف أنه الجالينوس، وبعد أن قتله أخذ سلبه وعاد به إلى سعد بن أبي وقاص، فعرف أسرى الفرس ملابس الجالينوس، وعرف زهرة أنه قتل الجالينوس نفسه.
وهذا ثالث قائد من القواد الذين تحت رستم يُقتل في موقعة القادسية، وكذلك قُتِلَ مهران الرازي في الميسرة، فكل قواد الفرس قد قتلوا باستثناء الهرمزان فقط الذي فَرَّ من موقعة القادسية ناحية الأهواز؛ فلقي سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحُوِيَّة بعد أن عاد من هذه الموقعة القصيرة بالقرب من القادسية وقد لبس لباس الجالينوس، وهذا اللباس كله أبهة وعظمة وجواهر ثمينة، فقال له: هل أعانك أحد على قتله؟ وذلك حتى يوزع سلب الجالينوس بالعدل؛ لأن سلبه كثير.
فقال زهرة بن الحوية : نعم. فقال سعد: مَنْ؟ فقال زهرة : الله!! فسكت سعد بن أبي وقاص، ولكنه أعاد النظر، وقال: ولكنَّ هذا كثير. فأخذ سعد منه جزءًا من السلب، وأرسل به إلى عمر بن الخطاب ؛ فرد عليه عمر بن الخطاب الرسالة: أنا أعلم بزهرة منك، فأعِدْ له سلبه، وأعطه خمسمائة درهم من عندي من بيت مال المسلمين. يأخذهم زهرة بن الحُوية ردًّا لاعتباره.
عاد المسلمون إلى القادسية وبدءوا في معالجة الجرحى، وتأتي النساء -اللاتي خرجن مع الجيش لطول المسافة بين المدينة المنورة وبين القادسية، وكن في "عذيب الهجانات" في القادسية- بالمياه لسقي الجرحى المسلمين، ولتضميد جراحهم، وبدأن يقمن بدورهن.
وطلب سعد بن أبي وقاص من هلال بن علفة أن يحدد له المكان الذي قتل فيه رستم، فيذهب هلال بن علفة ويأتي برستم من بين البغال، فيأمر سعد بن أبي وقاص هلال بن علفة أن يأخذ سلب رستم، وكان سلبه ثمينًا جدًّا، فقد باعه هلال بن علفة بسبعين ألف درهم (هل كان رستم ذاهب إلى الحرب أم إلى النزهة؟!)، وضاعت العباءة التي كان يلبسها رستم وتقدر بمائة ألف، وفي الغالب جرفها تيار الماء عندما قذف بنفسه في نهر العتيق.
وتأتي صلاة العشاء وكان يومًا طويلاً، وعندما قام المسلمون لأداء صلاة العشاء اكتشفوا أن مؤذن المسلمين في القادسية قد استُشهد في الموقعة، فبدأ الصحابة يتسابقون إلى الأذان، حتى إنهم يكادون أن يقتتلوا، مع أنهم كانوا من لحظات يسيرة في جهادٍ في سبيل الله؛ ولكنهم يدركون فضل وقيمة الأذان وأجره العظيم، أما نحن الآن فنتباطأ في رفع هذه الشعيرة الإسلامية الكبيرة، بينما كان يريد كل واحد من الصحابة أن يأخذ هذا الشرف، ويصبح من أطول الناس رقابًا يوم القيامة؛ ولشدة خلاف الصحابة حول من يقوم برفع الأذان، قام سعد بن أبي وقاص بعمل قرعة بين الصحابة لمن يرفعه.
بشارة النصر :
قام سعد بن أبي وقاص بكتابة رسالة إلى عمر بن الخطاب بعد انتهاء المعركة في يوم 17 من شعبان، وهو خامس يوم من أيام القادسية، يقول له فيها:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونثني عليه الخير كله، أما بعد..
فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان ورجال من المسلمين لا نعرفهم. وسعد بن عبيد من أصحاب رسول الله، وشهد كل المشاهد مع رسول الله بداية من بدر وحتى تبوك إلى أن تُوُفِّي الرسول، وكان يسمى سعد بن عبيد القارئ؛ لأنه كان يؤم المسلمين في وجود الرسول في مسجد قباء، فالرسول كان يؤم المسلمين في المدينة وكان هو يؤم المسلمين في مسجد قباء.
وقد مَرَّ علينا ذكر سعد بن عبيد في الفتوح عندما قام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحث الناس على الخروج للجهاد، فكان أول من قام أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وكان عمر قد ظل يستنفر المسلمين ثلاثة أيام متواصلة ولم يخرج أحد، ثم قام بعد أبي عبيد بن مسعود سعد بن عبيد والثالث سليط بن قيس، وقد استشهد أبو عبيد وسليط بن قيس في موقعة الجسر، وبقي سعد بن عبيد القارئ ليستشهد هو أيضًا في موقعة القادسية.
كَلَّف سعد بن أبي وقاص الصحابي الجليل سعد بن عُمَيلة بتوصيل رسالة إلى المدينة المنورة على أن يسلمها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وكان عمر يخرج بنفسه كل يوم بعد صلاة الضحى حتى الظهيرة على أبواب المدينة في الصحراء ينتظر البشير، وعندما يرى أي قادم عليه من العراق يسأله: هل أنت من العراق؟ فيقول له الرجل: لا. وهكذا كل يوم، والمسلمون قد خرجوا للقتال منذ شهور، حتى وصل سعد بن عميلة بالرسالة إلى مشارف المدينة المنورة، وهو راكب على ناقته فيسأله عمر : هل أنت من العراق؟
فيقول له: نعم. فيستبشر عمر بن الخطاب، وصاحب الرسالة ما زال فوق الناقة لا يعرف عمر، وعمر بن الخطاب يمشي على الأرض، فيقول له: وما فعل المسلمون بالفُرْسِ؟ فيقول: نصرهم الله وأهلك العدو. والناقة تسرع في اتجاه المدينة وعمر بن الخطاب يجري بجوار الناقة، وسعد بن عميلة يكلمه من فوق الناقة؛ حتى دخلا المدينة فسمع سعد الناس تقابل أمير المؤمنين عمر ، وتقول له: السلام عليكم يا أمير المؤمنين. فقفز سعد بن عميلة من فوق الناقة، وقال له: هلاَّ أخبرتني. فيقول: لا عليك يا أخي, "المهم أن نعرف أخبار المسلمين". فيأخذ عمر الرسالة، ويصعد فوق المنبر، ويجتمع المسلمون كلهم في المسجد، ثم يطمئنهم أن الله قد فتح عليهم، وأن الله قد مَنَّ عليهم بالنصر، وأنه قد أهلك فارس، وأسقط راية الفرس العظمى.
ونقل لهم أخبار استشهاد بعض المسلمين، وبكى عمر بن الخطاب على استشهاد سعد بن عُبَيْد القارئ . فيقول سيدنا عمر بن الخطاب بعد أن علم بشهادة سعد بن عبيد القارئ: واللهِ لقد كاد قَتْلُ سعد بن عبيد يُنَغِّصُ عليَّ هذا الفتح.
فقد أثَّر موت الصحابي الجليل سعد بن عبيد في عمر بن الخطاب تأثيرًا شديدًا، ثم أخذ سعد بن أبي وقاص يعدِّد أسماء الشهداء مثل: عبد الله بن أم مكتوم، وأولاد الخنساء وغيرهم، ثم يقول: ورجال من المسلمين لا نعلمهم، الله بهم عالم. ويقول سعد في رسالته عن جنوده: وكانوا يدوون بالقرآن كدويِّ النحل إذا جَنَّ عليهم الليل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود. فهذه هي صفات الجيش الإسلامي: عندما يأتي الليل يلجئون إلى الله، تسمع لهم دويًّا كدويِّ النحل، أما الجيوش التي تأخذ أسماء إسلامية فهي في تعاملها مع الاستعداد للمعركة يُدخلون على الجنود بعض الترفيه عن الجيوش، فيأتون بأفلام يعرضونها عليهم، أفلام كلها معصية يرفهون بها عن الجيش!!
أما الصحابة في حروبهم، كانوا إذا جَنَّ عليهم الليلُ يسرعون إلى القرآن الكريم حتى يقرءوه، فكانوا يدوون كدوي النحل. ولنذهب إلى موقعة حطين، فماذا كانت حال الجيش الإسلامي في موقعة حطين؟! كان صلاح الدين الأيوبي يمر على الخيام، ويطمئن أن كل خيمة بالليل فيها صوت قرآن؛ فيعلم أن الجيش يقوم الليل، وعندما يأتي خيمة لا يسمع فيها صوتًا للقرآن يقول: من هنا تأتي الهزيمة. فيوقظهم ليقوموا الليل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود، حتى الأسود لا تشبه قتال هؤلاء الأبطال، ولم يَفْضُل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة.
توزيع الغنائم :
وبدأ سعد بن أبي وقاص في توزيع الغنائم، فكان نصيب الفارس من المسلمين ستة آلاف، وكانت غنائم القادسية أكثر الغنائم التي أخذها المسلمون حتى هذه اللحظة، وكان رقم الألف لا يحلم المسلم بأن يمتلكه في ذلك الوقت، ولكننا في أرض الواقع؛ فعندما نصر المسلمون ربهم أفاء الله عليهم بالنصر، وأفاء عليهم بستة آلاف للفارس وألفين للرَّاجل، فالفارس يأخذ ثلاثة أضعاف المترجّل.
ثم أعطى سعد بن أبي وقاص أهل البلاء وكان عددهم خمسة وعشرين، وهم الذين أظهروا الجرأة والشجاعة والإسراع لنيل الشهادة في سبيل الله، ووزع عليهم عطايا أكثر؛ لتشجيع المسلمين على أن يستبسلوا دائمًا في المعارك، وكان منهم طليحة بن خويلد الأسدي، وكان منهم القعقاع بن عمرو التميمي، وعاصم بن عمرو التميمي، والربيل بن عمرو، والكثير من المسلمين.
صورة حضارية رائعة من سعد لكل القواد :
ثم أتى عمرو بن معديكرب وبشر بن أبي رُهْم إلى سعد بن أبي وقاص، أتياه يسألانه العطاء وأن يعطيهما كما أعطى الناس؛ فبعث سعد بن أبي وقاص برسالة إلى عمر بن الخطاب يقول له: إني قد أعطيت الناس كلهم، وهناك كثير من المال ما زال متبقيًا، فلمن أعطي هذا المال؟ فقال له عمر بن الخطاب : أعطِ حملةَ القرآن. فقام سعد بتوزيع الأموال على حفظة القرآن.
ولم يأخذ عمرو بن معديكرب وبشر بن أبي رهم رضي الله عنهما؛ فأتياه في اليوم التالي، وقالا له: أعطنا. فيقول: ما معكما من القرآن؟ فيقول عمرو بن معديكرب: ليس معي شيء، فمنذ أسلمت شغلني الجهاد عن حفظ القرآن. فلم يعطه سعد بن أبي وقاص، ولم يقبل منه سعد العذر، ويأتي بشر بن أبي رهم، فيقول له سعد: ما معك من القرآن؟ فيقول له: معي بسم الله الرحمن الرحيم "الحقيقة أنها ثقيلة في الميزان، ولكن سعد بن أبي وقاص يريد حفظ سور وآيات من القرآن الكريم". ولم يرضَ منه سعد بن أبي وقاص بذلك، فيبدأ بشر بن أبي رهم وعمرو بن معديكرب في نَظْمِ شعر يهجوان به سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الإسلامي، يقول بشر بن أبي رهم:
وسعد أميرٌ شرُّه دون خيرِه *** طويلُ الشذا كأبي الزناد قصير
طويل الشذا، أي: أذاه كثير. كأبي الزناد قصير، أي: هو ضعيف الحيلة. وكان سعد بن أبي وقاص في هيئته قصيرًا.
تذكر هداك اللهُ وقع سيوفنا *** بباب قديس والمكر عسير
أي: المكر من أهل الفرس.
عشيةَ ودَّ القومُ لو أن بعضهم *** يُعَار جناحي طائر فيطير
أي: من كثرة شدة بأسهم على الفرس يريدون أن يطيروا من أمام المسلمين.
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة *** دلفنا لأخرى كالجبال تسير
وعند أمير المؤمنين نوافـل *** وعند المثنى فضـة وحريـ
يقولون بأن أمير المؤمنين يعطي نوافل، والمثنى كان يعطي فضة وحريرًا، وأنت لا تعطي شيئًا.
ثم قام عمرو بن معديكرب يقول:
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد *** قالت قريش ألا تلك المقاديرُ
أي: نصيبهما أن يقتلوا.
تُعْطي السويةَ من طعن له نفذ *** ولا سوية إذ تُعْطَى الدنانيرُ
أي عندما يكون هناك قتال فإننا ننال نصيبنا من الطعن والقتل، وعندما يُكتب النصرُ، وتأتي الأموال لا نُعطى شيئًا.
إنها عظمة الإسلام! وصورة حضارية رائعة من الصحابة ؛ فهذان اثنان من المسلمين يشكوان أمير الجيش، ولا يغضب عليهم، ولم يأمر بسجنهم، وإنما أرسل بشكواهما إلى أمير المؤمنين في المدينة المنورة؛ فيأمر لهما بالعطاء.
أمر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما -بعد هذا الهجاء- أن يعطيهما على بلائهم، أي لا يعطيهما على حمل القرآن، وإنما يعطيهما على بلائهم، فهما من أهل البلاء. وأمره أمير المؤمنين أن يعفو عنهم، فقد كان في الجيش الإسلامي نوع من الحب والترابط الشديد؛ حتى إن مثل هذا الأمر لم يكن يعكر من صفو الحرب وصفو الجيش الإسلامي، وكان سعد بن أبي وقاص من الحكمة الشديدة، ومن الحزم الشديد بحيث يوظِّف كل أمر من الأمور في المكان الذي يرى فيه مصلحة المسلمين.
دروس وعبر من القادسية :
إن الفوائد والدروس والعبر من موقعة القادسية كثيرة، وهي عون للمسلمين في معاركهم إلى يوم القيامة، ونجد أن الدرس الكبير المستفاد من القادسية أن النصر يأتي نتيجة عاملين أساسيين هما: الإيمان بالله، والأخذ بالأسباب؛ وقد اجتمع هذان العاملان للمسلمين في موقعة القادسية.
الإيمان بالله أساس النصر:
الإيمان بالله والأخذ بالأسباب من أهم عوامل وأسباب النصر، ولا بُدَّ للجيش المسلم أن يجمع هذين العاملين حتى يتم النصر المرجو، ونرى في موقعة القادسية انتصار فريق ضعيف على فريق قوي، وانتصار مجموعة قليلة على مجموعة كثيرة، وهذا النصر لا يأتي بقوانين هذا الكون، إلا إذا تحقق في الجيش الإسلامي عامل الإيمان وعامل الأخذ بالأسباب..
أما بالنسبة لعامل الإيمان نجد أن تحركات الجيش الإسلامي منذ بداية خروجه من المدينة، حتى وصوله القادسية واشتراكه في القتال تدل على أن الجيش الإسلامي كله يتمتع بإيمان قوي بالله؛ نرى ذلك في وصية عمر بن الخطاب إلى الجيش بعد خروجه من المدينة ولم يكن وصل بعدُ إلى شراف، وشراف كانت على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متر من أرض فارس، وكانت على بعد خمسمائة كيلو مترٍ من المدينة؛ فيرسل عمر بن الخطاب برسالة إلى سعد بن أبي وقاص، يأمره بتقوى الله وتجنب المعاصي، ويقول له: إن أخوف ما يخاف على الجيش هو المعاصي، ويخاف عليه من المعاصي أكثر من خوفه عليهم من جيش فارس.
فإن وقع الجيش الإسلامي في المعاصي تساوى مع العدو، وعند ذلك فإن الله لا ينظر إلى هذا الجيش الإسلامي؛ فينتصر عندئذٍ أهل فارس عليكم بالعدة والعتاد؛ لأن عدة وعتاد فارس أشد وأكثر بكثير من عتاد المسلمين، فإذا فقد المسلمون عامل نصر الله ضاع منهم النصر، وبقيت لهم الهزيمة.
سعد يخطب مذكرًا بالإيمان والتقوى :
نتذكر خطبة سعد بن أبي وقاص للجيش الإسلامي في القادسية، نجد أن سعدًا قد ذكرهم بالإيمان، فيقول لهم: آثِروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تؤثروا الدنيا على الآخرة فتُسلَبوهما. أي لو آثرتم الدنيا فسوف تضيع منكم الدنيا والآخرة، ولو آثرتم الآخرة على الدنيا، فسوف تجتمع لكم الدنيا والآخرة.
وكل الأمراء الذين قاموا وخطبوا في موقعة القادسية مثل: عاصم بن عمرو التميمي، والهذيل الأسدي، وقيس بن هبيرة، كل هؤلاء الصحابة ذَكَّروا بالجنة وذكروا بالنصر، وقالوا: إما النصر وإما الشهادة، وأن الجنة على بعد خطوات من المسلمين. ولو ننظر إلى رسل المسلمين إلى يزدجرد، ورسل المسلمين إلى رستم نجد أن كل الرسل تجتمع لهم كلمة واحدة أنهم يدعون رستم إلى الإسلام أو إلى الجزية أو القتال، ويقولون: إن إسلامك أحبُّ إلينا من قتلك ومن جزيتك. وهكذا نجد حرص الصحابة على أن يدخل الناس في دين الله، يتمنون أن يسلم كل الناس، ولا ينظرون إلى الغنائم أو الأرض أو الملك، إنهم يريدون لهؤلاء القوم أن يهتدوا إلى الإسلام.
وكان عند أبسط الجنود النظرة نفسها، فهذا الجندي الذي أسره رستم عندما كان معسكرًا في برس، قال رستم للجندي المسلم: ماذا جاء بكم؟ قال البطل المسلم: جئنا نبحث عن موعود الله: أرضكم ودمائكم وأبنائكم، إن أبيتم الإسلام. ولننظر إلى هذا الجندي البسيط من المسلمين، والذي لا نعرف اسمه، وليس رسولاً حتى يأمن على دمه ومعرض للقتل في أي لحظة، فيقول له رستم: إذن تموت دون ذلك. فيقول: إذا مت قبل ذلك كان موعدي الجنة، ومن بقي منا ظفر على من بقي منكم. قال رستم: قد وُضِعنا إذن في أيديكم. فقال البطل المسلم قبل أن يأمر رستم بقتله: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها؛ فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجاول الإنس؛ وإنما تجاول القضاء والقدر. وكان هذا هو فكر جندي بسيط، وبعد هذه الحادثة أمر رستم بقطع رقبته، فَقُطِعت واستشهد دون أن نعلم مَن ذلك البطل المجاهد.
كان هدف الجيش كله الحرص على الإيمان، فكانوا يقبلون على قراءة القرآن يدوون بالقرآن إذا جَنَّ الليل دَوِيَّ النحل، وحقًّا كان الجيش الإسلامي جيشًا مؤمنًا، وجيشًا يريد أن يحقق النصر، ويعمل على أن ينال رضا الله حتى يُنزِلَ الله عليه النصر، وحرص سعد بن أبي وقاص في بداية المعركة أن يقرأ على الجيش سورة الأنفال، يذهب القراء فيقرءون سورة الأنفال فتهش القلوب، وتبدأ في طلب الجنة، وكانوا يُذَكِّرون المسلمين بموقعة بدر وما حدث فيها، ونزول سورة الأنفال فيها، وذكرهم سعد بن أبي وقاص بقول: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يقولوها بقلوبهم قبل ألسنتهم؛ حتى يعلموا أنه لا نصر ولا معونة ولا مساعدة إلا من الله. هذا كان العامل الأول، وهو عامل الإيمان القوي الوثيق بالله I، وهذا قد أدى إلى نصر المسلمين في موقعة القادسية، ولكن النصر لم يكن ليأتي لولا أنْ أخذ المسلمون بالأسباب كاملة.