تظاهر موظف الجهاز الفرنسي السري في الجزائر ليون روش باعتناقه الإسلام «لأجمع بين الجزائر المسلمة وفرنسا المسيحية»، فدخل في خدمة الأمير عبدالقادر الجزائري الذي قاد المقاومة المسلحة ضد المستعمر الفرنسي، وأظهر له الإخلاص استعداداً للالتحاق بالمجاهدين ضد فرنسا، ما جعله من سكرتارية عبدالقادر المقربين، حتى ساعده في الزواج من فتاة مسلمة، ولكن سرعان ما تكشف لأمير المجاهدين عدم صدق روش عندما طلب منه الانضمام للمجاهدين في المعركة، فرفض وغضب عليه وطلب منه مغادرة معسكره قائلاً: «جزاؤك في الإسلام جزاء المرتدين، لكني أترك عقابك لله». ونجا من القتل عندما حاول الهرب من المعسكر بعد أن شعر أن هناك شكوكاً بين أتباع الأمير بأنه جاسوس. وبعد انهيار الهدنة وفشل علاقته مع زوجته الجزائرية رجع روش إلى فرنسا، وأبلغ سلطات بلاده أنه إنما تظاهر باعتناق الإسلام ليتجسس على الأمير عبدالقادر لمصلحة السلطة الاستعمارية بالجزائر.
وعندما أقنعت السلطات الفرنسية عام 1881 بعض مشايخ الطرق بإصدار فتوى بجواز بقاء مسلمي الجزائر تحت الحكم الفرنسي والتوقف عن الجهاد، ما دام المستعمر يسمح لهم بإقامة الشعائر الدينية، تم تكليف روش بحمل الفتوى إلى علماء تونس وليبيا ومصر والحجاز للمصادقة عليها، «لتجويز عيش المسلمين تحت حكم النصارى، وأنه لا يترتب على احتلال النصارى لبلادهم جهاد ولا مقاومة».
غادر روش الجزائر في مهمته الجديدة، وأحاله علماء الجزائر إلى علماء الأزهر الذين أحالوه إلى علماء مكة المكرمة التي يتجمع فيها خلال فترة الحج علماء المسلمين من المدينة المنورة ودمشق وبغداد.
بذلك سنحت له الفرصة للذهاب لمكة متظاهراً بأنه مسلم، وتسمى الحاج عمر معلناً أنه يسعى لتحسين وضع الحجاج الجزائريين الذين رأى 200 منهم «يتكدسون في السفينة المغادرة إلى جدة في مكان يتسع لربع هذا العدد فقط، وكأنهم قطيع من الماشية».
وصل الرحالة إلى ينبع واصفاً معاناة الحجاج الجزائريين في السفينة بجانب التكدس «فهم لا يطعمون عليها سوى البسكويت الجاف، ولا يوجد معهم من الماء إلا ما يجنبهم الموت عطشاً، ومن يموت منهم جوعاً أو عطشاً يرمى في البحر».
وبعد وصول القافلة إلى المدنية المنورة دخل روش المسجد النبوي وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، «معرباً عن إعجابه بالبناء، والأعمدة، وما عليها من كتابات عربية ورسومات». وعندما عزمت القافلة على التوجه لمكة المكرمة، لبس الرحالة الإحرام، ثم دخل مكة المكرمة، فأدى الطواف والسعي، ثم شرب من ماء زمزم، ولاحظ «مشهد الطائفين حول الكعبة، في الأمسيات تحت أضواء الفوانيس» ولفت نظره بكاء وضحك الرجال والنساء والأطفال المتجمعين بين أسطوانات المسجد، منهم من يلعب ومنهم من يقوم بأعمال بغيضة، وعدد من النسوة يطبخن في الأروقة، ويعجن الخبز ويبعن القهوة». وعزى هذه المظاهر في المسجد إلى ضعف الإدارة «ولا شك أن الدين الإسلامي، دين قوة كما هو دين المسيحية، لكن المسلمين لا يقرنون اعتقادهم بالعمل.
ودوَّن روش في ملاحظاته أثناء وجوده بمكة «فنساؤها لا يطفن بالبيت الحرام إلا ليلاً، وكذلك المسافرون منها لا يسافرون إلا ليلاً خوفاً من قطاع الطرق». تمكن روش من دخول الكعبة «وعليك أن تدخل يدك في جيبك، وتدفع للأغوات عند كل خطوة تخطوها: تدفع وأنت عند الدرج، وأنت داخل، وأنت خارج، وعندما يعطيك الأغا مفتاح الكعبة لتقبله، وأنت نازل من الدرج، ادفع دائماً».
ذهب روش لملاقاة شريف مكة الذي كان وقتها في الطائف، ومدحه وخاض معه في أمور السياسة الأوروبية، وأخبره بأنه استعان بالأتراك ضد خصومه «فتحول الأتراك إلى استبداديين». وخلال وجوده بالطائف التقى بعلماء المسلمين الذين ختموا له الفتوى. عاد روش إلى مكة ولبس الإحرام وصعد مع الحجاج إلى منى يوم التروية، ومنها إلى عرفات التي حدثت معه فيها حادثة لن ينساها حياته كلها، فقد جاء وجهاً لوجه مع حجاج جزائريين الذين ميزوه باعتباره مترجم السلطات الاستعمارية الفرنسية بالجزائر، «شعرت أني أطأ أفعى سامة، خصوصاً وأني لم أوثق إسلامي، وتخلّي عن المسيحية» لكن الحجاج تظاهروا بالهدوء واختفوا من أمامه. ومضى يكمل اغتساله ووضوءه استعداداً للصلاة مع اقتراب بدء الخطبة والصلاة «إذ يقف الخطيب ووراءه شريف مكة على جمليهما وحولهما الحرس» وفجأة ارتفع صوت: «مسيحي، اقبضوا على المسيحي، العاق بن العاق» ولم يشك روش في من كان المعني بهذا الصوت، وعندها شق ستة من الجنود الأقوياء الزحام «وقبضوا على الكافر» ورفعوه وألقوا به فوق ظهر جمل، وأسرعوا به خارجين من عرفات، ولم يشك بأنه ميت، لكن حياته أنقذت، فقد كان شريف مكة يتابع خطواته في مشاعر الحج وكان القبض عليه سبباً في نجاته من الغاضبين من الحجاج. «بعد ساعة من الهرولة وأنا على ظهر الجمل، مكتفاً، والملابس محكمة على رأسي ووجهي، مما جعل التنفس صعباً، توقف الجمل، وأطلق الحراس سراحي وأخذوني إلى عشة وقدموا لي طعاماً، وفيما كنت آكل رووا ما حدث»، ذلك أن الجزائريين اللذين تعرفا عليه في الصباح، توجها إلى القاضي وأبلغاه بقصته، ونقل القاضي القصة إلى شريف مكة، وأظهر الشريف سخطه ظاهرياً، ووجّه جنوده بالقبض عليّ، وإعادتي إلى مكة، ونظراً لسعة عرفات، فقد بحث عني الجنود طوال اليوم بلا جدوى، ولكنهم لما سمعوا صوت (مسيحي، اقبضوا عليه) ظهروا بين الجمع لإنقاذ حياتي من الجماهير الحاشدة الغاضبة».
غادر مكة سريعاً إلى جدة ومنها رحل عائداً إلى مصر، وانتابته نوبة من الندم على تجسسه، فرأى أن التكفير عن خطيئته هو الدخول في الرهبنة، فانضم إلى اليسوعيين في روما.
مصدر
موضوع: قصه الجاسوس الفرنسي ليون روش 
الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 13:18
