الشهيد الطيار مختار محمدين سقوط الناصر :
كانت التالية للجكو هي مدينة الناصر .
مدينة الناصر تقع أيضا في شرق النوير على الحدود مع الجارة إثيوبيا ..
كانت قوات الخوارج تزحف نحو مدينة الناصر وفي نفس الوقت كانت المفاوضات تجري على الصعيد السياسي بين حكومة الأحزاب ومفاوضي الحركة .
قالت الحركة بان لها رسالة هامة تود تسليمها للحكومة وقد توقعت الحكومة على غفلتها بان الحركة جادة في التفاوض ولكن كانت الحركة تسعى لتقوية موقفها التفاوضي فاستغلت التراخي وقامت بمحاصرة مدينة الناصر ..
رأت القيادة العامة إن ترسل دعما للناصر عن طريق الدمازين من قيادة اللواء 14 آنذاك وذلك عن طريق شالي البونج ثم الناصر ولكن توقفت الحملة قبل إن تصل إلي البونج بسبب الأمطار والوديان الضخمة ..
صمدت الناصر كما لم تصمد مدينة من قبل وقد كانت الإمدادات بالذخيرة والمؤن تسقط لقواتنا من الجو عن طريق طائرات الهركيوليز سي 130 ولكن بمرور الأيام و الشهور زحفت قوات الخوارج على المدينة واقتربت من الحامية كثيرا وأصبحت الإسقاطات تقع أحيانا في أيدي الخوارج فيتسابق إليها جنودنا مع جنود الخوارج وتحدث اشتباكات عنيفة بينهم ..
تفاقم وضع جيشنا في الناصر بدرجة جعلت كل الجيش السوداني في حالة شد وتوجس على قوات الناصر ..ثم بدأ تسلسل الأحداث :
المكان : الدمازين
الزمان : خريف عام 1987.
الوضع : الناصر تتعرض لقصف عنيف جدا وموجات من الهجمات من قوات الخوارج كثيرة العدد ..
والحامية صامدة والجنود والضباط في حالة إعياء شديد والمؤن والذخائر في تناقص ولسان حالهم يقول لن ننسحب لن ننسحب لن ننسحب .
وهناك على الطرف الغربي للدمازين وفي مطار الدمازين تهبط طائرتان مقاتلتان من طراز اف -6-احداهن يقودها المقدم طيار احمد ادم والأخرى يقودها العقيد طيار مختار محمدين ..
الموقف : الناصر تتأرجح .. التعليمات للطيران قصف كل الناصر ماعدا الحامية ..
كل الضباط في قيادة الدمازين بالمطار ..
يطير العقيد محمدين مختار بطائرته أولا للاستطلاع قبيل المغرب ..
بعد دقيقتين والناس في المطار يطلب العقيد محمدين إذنا للهبوط من برج المراقبة تحت دهشة الجميع .. ماالذي يحدث يا ترى ؟؟ هبط العقيد وطائرته تصدر صوتا غريبا ..
يترجل العقيد محمدين من طائرته إلى القاعدة وعند الاستفسار أجاب بان صقرا دخل داخل محرك الطائرة فأعطبه ..
وفعلا فقد كانت رائحة الصقر تنبعث من محرك الطائرة ..حمد الجميع ربهم على السلامة فقد سلم الله هذه الطائرة لان الصقر كان يمكن إن يسقطها محترقة خاصة وهي مسلحة تسليحا كاملا ..
أراد المقدم احمد ادم إن يقوم بالطلعة فأمره محمدين بالانتظار على الأرض ثم ركب في الطائرة الثانية بعد إن تم تسليحها وطار بها مرة أخرى إلى الناصر ..
قام العقيد محمدين بدورة حول المدينة وخاطب قائد الحامية لتحديد الهدف .. رد قائد الحامية بان الهدف هو كل الناصر ماعدا الحامية فقد احتل الخوارج كل المدينة وغادر السكان إلى خارجها ..
نفذ محمدين طلعته الأولى مع آخر ضوء .. وألقى قنابله ثم قفل راجعا إلى مطار الدمازين ..
في مطار الدمازين كان الجميع في ترقب وتوجس . ومع زحف الظلام بدأت النفوس تقلق ..
ثم فجأة يتصل محمدين بالمطار طالبا إذن الهبوط ..
لم يكن مطار الدمازين مضاءً أو مجهزا للطيران الليلي..
طلب محمدين أن تصطف مجموعة من السيارات في بداية المدرج لتنير له المدرج بمصابيحها ..
ثم ظهرت المقاتلة على الأفق فكبر الجميع وهللوا ولكن لازال القلق مسيطرا فكيف الهبوط – ورويدا رويدا هبطت الطائرة و في المكان الصحيح واستمرت في السير بسرعتها الرهيبة والجميع ينظرون في توجس ثم أفردت مظلتها مع تشغيل المحركات العكسية فتوقفت.. وعندها فقط تنفس الجميع الصعداء ..
هرع الكل صوب الطائرة.. نزل محمدين من طائرته ...
كان يبكي بشدة وتعانق مع ضباط وقائد القيادة في موقف قل إن يجود به الزمان ..
استمرت طلعات العقيد مختار محمدين لمدة أكثر من أسبوعين صمدت خلالها الناصر وتنفس الجنود الصعداء وتراجع الخوارج قليلا إلى خارج المدينة ..
كانت مناورات العقيد مختار جيدة جدا لدرجة أمكنته من تفادي صواريخ الاستريلا (سام 6) التي كانت تطلق عليه من الخوارج ..وتتواصل الاحداث :
الموقف الناصر تصمد من جديد .. ويفكر الناس في حملة إنقاذ برية من جديد..
وهناك خارج الحدود .. حيث قيادة الخوارج ...
المكان بلفام الاثيوبية )قيادة الخوارج..
يتم التقاط مكالمة من إشارات جيشنا للعقيد قرنق يخاطب فيها قواته بالناصر فقد قال لهم بالحرف الواحد :-
( you have to kill mohammeden )- يجب إن تقتلوا محمدين -
جلب الخوارج المزيد من صواريخ الاستريلا وفي صباح حزين أطلقت ثلاثة صواريخ استريللا متزامنة على طائرة محمدين أصابها احدهم فانفجرت الطائرة ولم يتمكن العقيد محمدين حتى من استخدام كرسي القذف فاستشهد في اشرف مهمة لطيار في تاريخ البلد ---
عندما سقطت الطائرة استبد الغضب بمجموعة من قوات الناصر فقاموا بهجمة عكسية عفوية على الخوارج في اتجاه الطائرة وكبدوهم خسائر كبيرة ثم انسحبوا راجعين إلى حاميتهم ..
كانت تلك آخر أيام للناصر حيث بعدها مباشرة أمر قائد الحامية الجنود بالانسحاب وتركه هو لأنه لا يستطيع الذهاب فقد كان رجلا بحق – كان -رحمه الله- مريضا لا يستطيع السير ..
دخل الخوارج إلى الحامية ولا زالت مجموعة من الضباط والجنود يحاولون رفع القائد على أكتافهم فعيب كبير وأدب عسكري متوارث عندنا إن يدع الجنود قائدهم في ارض المعركة وراءهم ولكنهم لم يفلحوا فوقعوا كلهم في الأسر ومنهم من استشهد في مكانه ..
هذه هي ملحمة صمود الناصر وهي من المواقف التي تشرف هذا الجيش وتجعله يرفع رأسه بين كل جيوش العالم ....إمكانيات اقل من بسيطة—طائرة واحدة تقوم بأكثر من خمسة عشرة طلعة متوالية – الطائرات تسير في أسراب في مثل هذه المهمات ولكنها الإمكانيات ومع هذا فالتحية لهذا الشعب الذي كان يدفع ثمن كل هذا من لقمة عيشه قرشا قرشا ودينارا دينارا ..
ونواصل بإذنه تعالى .. المصدر وزارة الدفاع السودانيه