صارت الطائرات بلا طيّار (Unmanned Aerial Vehicle - UAV)، منذ نحو عقد من الزمن، على كل شفة ولسان بعد أن أصبحت الوسيلة المُفضَّلة للولايات المتحدة و«إسرائل» ودول أخرى لضرب مواقع حيويّة أو اغتيال مَنْ يوصفون (أو يوصَمون) بـ«الإرهابيّين» (أي ما يُعرف بالقتل المُسْتَهْدَف Targeted killing) أنّى كانوا.
ولهذا السبب جهَدت وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (CIA) لنشر هذا النوع من الطائرات في أفغانستان وباكستان والصومال والعراق واليمن لقصف مواقع حيويّة فيها من الجو ومُلاحقة أفراد تنظيم القاعدةعلى أراضيها. ومن المُرجَّح أن تَشرع واشنطن في تشييد قواعد جديدة لهذه الطائرات في شبه الجزيرة العربيّة والقرن الإفريقي.
وتستخدم «إسرائيل» هذا النوع من الطائرات، التي يُطلق عليها الفلسطينيّون إسم «الزنّانة» واللبنانيّون «أم كامل»، لضرب «مواقع مشبوهة» أو استهداف أفراد حركات المقاومة وكوادرها في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة ولبنان. واستخدمت هذه الطائرات على نطاق واسع في حربيْ «إسرائيل» على لبنان العام 2006 وقطاع غزّة العاميْ 2008 و2009 .
وهناك مُحاولات حثيثة لتطوير طائرة بلا طيّار تستطيع التعرُّف على العناصر أو الأفراد المُستهدفين، من خلال ملامحهم الشخصيّة أو البَيومِتْرِيَّة (Biometrics)، والمُبادرة إلى قتلهم على الفور إعتمادًا على برامج حاسوبيّة تلقائيَّة القرار، وليس اعتمادًا على أوامر المُشغِّلين الجالسين خلف شاشات الحواسيب في أماكن تبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن مسرح الاغتيال. ومن المُتوقَّع أن يستمرّ استخدام الطائرات بلا طيّار في مجال الإغتيال ويتوسَّع في المستقبل القريب إلى ضرب المواقع الإستراتيجيّةفي أيِ من الحروب القادمة، المُعلنة أو غير المُعلنة (أي الحرب الناعمة).
وتُشكِّل الطائرات بلا طيّار نوعًا جديدًا من الأسلحة. وترتبط هذه التقنيّة ارتباطًا عضويًّا بمسألة تطوّر وسائل الحرب الحاليّة والمستقبليّة. ولهذه التقنيّة أبعاد وجوانب وانعكاسات مُتعدِّدة يصعب علينا، في بحث واحد، الإلمام بها جميعًا. سنكتفي بالتركيز، بشكل أساسي، على الجانب القانوني منها. ولكنّنا سنُلقي، أولاً، نظرة سريعة على المراحل والتطوّرات التي مرّت بها تقنيّة الطائرات بلا طيّار. ونقول كلمة موجزة، ثانيًا، في مميِّزاتها واستخدامها في مجال الاغتيال. ونستعرض، ثالثًا، قواعد القانون الدولي المُتعلِّقة باستعمال هذه الطائرات. ونطرح، رابعًا، تساؤلات حول استخدام الطائرات بلا طيّار، أو كيف غيَّرت وجه الحرب، وما هي آثارها القانونيّة. ونورد، خامسًا، بعض الملاحظات المُقترحة لمُواجهة خطر الطائرات بلا طيّار القادم بخطوات مُتسارعة لا محالة.
أولاً: الطائرات بلا طيّار وأنواعها
الطائرة بلا طيّار هي طائرة يُمكن برمجتها مُسبقًا أو توجيهها لاسلكيًّافي أثناء تحليقها (أيّ التحكُّم بها، أو السيطرة عليها، عن بعد). ويوجد إذًا نوعان من حيث التوجيه، الطائرات المُوجَّهة لاسلكيّا والطائرات الذاتيّة التحكُّم (أو التلقائيّة التوجيه) التي تتمتّع باستقلاليّة نسبيّة في مُعالجة المعلومات أو البيانات المُجمَّعة لديها واتخاذ القرارات المُناسبة في ضوئه (18).
وتُستخدم هذه الطائرة في الأغراض المدنيّة، كما يتمّ استخدامها في المجالات العسكريّة لتوفير معلومات دقيقة، نسبيًا، عن الأهداف المُراد ضربها من خلال مراقبتها والإنقضاض عليها لاحقًا.
وشهدت إنكلترا أولى التجارب العمليّة للطائرة بلا طيّارالعام 1915 (19). كما استخدمت هذه الطائرات العام 1935 لتدريب سلاح المدفعيّة المضاد للطائرات على استهداف طائرات العدوّ وإسقاطها(20).
والعام 1953، تحوّلت الفكرة إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد مقتل عدد كبير من الطيَّارين الأميركيّين خلال الحرب العالمية الثانية (21). وانتقلت الفكرة إلى الحيِّز العملي بعد إسقاط طائرة التجسُّس الأميركيّة «يو توU2» فوق أراضي الاتحاد السوفياتي العام 1960 (22). وبعد أربع سنوات، إستخدمت الطائرة بلا طيّار لأوّل مرّة خلال حرب فيتنام (23). ولم تعترف الإدارة الأميركية بهذا الاستخدام إلاّ العام 1973 (24)، وهو العام الذي استُخدمت فيه الطائرات بلا طيّار في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 (25)، إلاّ أنها لم تُحقِّق المرجوّ منها لضعف الإمكانات التقنيّة والإلكترونيّة حينذاك.
أمّا إسرائيل فبدأت تصنيع الطائرات بلا طيّار بعد العام 1973 (26). ويَعتقد البعض أنها لجأت إليها خلال اجتياحها لبنان العام 1982 (27).
أمّا الآن، وبعد تطوّر التكنولوجيا (أو التّقانة، كما عُرِّبت الكلمة)، فقد أصبحت الطائرات بلا طيّار عنصرًا رئيسًا في أهم جيوش العالم وأكثرها تقدمًا، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية (28) التي عدّتها سبيلاً إلى «الحرب الشاملة على الإرهاب» (29).
وقد برهنت الطائرة بلاطيار أنها محوريّة في القيادة والسيطرة والاستطلاع خلال حربيْ أفغانستان والعراق والتدخّل في ليبيا (30). فقد أمَّنت مسحًا متواصلاً لساحات الحرب من خلال النقل المُباشر لما يجري فيها إلى مراكز القيادة والسيطرة وإلى طائرات الدعم الجوّي القريبة منها. وعمد الجيش الأميركي إلى الإفادة من المعلومات والمعطيات المُتحصِّلة من أجهزة استشعار الطائرات بلا طيار وتنفيذ عمليات مشتركة بينها والمروحيات.
ونظرًا إلى تحوّل الطائرة بلا طيّار من منصَّة استعلام ومسح واستطلاع إلى طائرة مُتعدِّدة المهمة في العمليات العسكرية الحاليّة والمستقبليّة (قنابل تُلقى أو صواريخ ذكيّة تُطلق من ارتفاعات شاهقة، وطائرات بلا طيّار يُمكنها الطيران المُتواصل لأسابيع وحمل صواريخ يتجاوز وزنها آلاف الكيلوغرامات، والطائرات بلا طيّار المُبرمجة لاصطياد شخص بعينه، مثلاً) فقد قام مهندسو وفنيّوه الطيران بأبحاث متواصلة لتطوير تقنيّة الطائرات بلا طيّار (31).
وأدّى الاهتمام العسكري بالطائرات بلا طيّار إلى تطوير تشكيلة واسعة منها، فتمّ تصنيفها بحسب إمكاناتها المُتعاظمة والمهمات العسكريّة المُنوطة بها إلى أنواع عديدة (32)، منها:
أ –طائرات تكتية (33): صُمِّمت للتحليق على ارتفاع 200 كلم فوق سطح الأرض (34)، وتوفير معلومات استخباراتيّة فوريّة (35) لكبار القادة العسكريّين لمُساعدتهم على تخطيط سير الأعمال الحربيّة.
ب- طائرات مُضادة للصواريخ الباليستيّة (36): يمتلك سلاح الجو الإسرائيلي طائرة مُتطوِّرة (37) إسمها إيتان/هيرون ت ب Eitan/Heron TP» لديها القدرة على إصابة أهدافٍ على الأرض أو في الجو.ويبلغ طولها 35 مترًا وعرضها حوالى 35 مترًا على مستوى الجناحين. وتُشكِّل جزءًا من منظومة إسرائيل المُضادّة للصواريخ الباليستيّة البعيدة المدى، ويُمكنها المكوث في الجو عدّة ساعات، كما باستطاعتها التحليق فوق منصّات إطلاق الصواريخ لإسقاطها مُباشرة بعد إطلاقها (لأنها تكون بطيئة في هذه المرحلة، وبالتالي مُعرَّضة لإصابة مُؤكَّدة). وهي مُجهَّزة بكاميرات مُتطوِّرة للتصوير الليلي والنهاري، وأشعَّة ليزِر لتوجيه الصواريخ الدقيقة، ومنظومة إتصالات مُتطوّرة مع الأقمار الصناعيّة. ويُمكن لجهاز الرادار فيها أن يوفِّر لمُشغِّليها، في كل الظروف المناخيّة، صورًا دقيقة عن مسرح العمليّات العسكريّة. ويُمكن لـ «إيتان» أيضًا أن تحمل عدّة أطنان من المُتفجِّرات أو المعدّات أو الأجهزة الإلكترونيّة.
ج - طائرات تُطلق من الجو: يُمكن للطائرات العاديّة أن تُطلق الطائرات بلا طيّار (38)، كما يُمكن لصاروخ مُجنَّح إطلاقها لتقييم أضرار عمليات القصف أو الضرب (39).
د- طائرات العلو المُرتفع(40): لا تزال في طور التصميم. وسوف تعمل على «طاقة خلايا وقود هيدروجين»(41)، ويبلغ طولها 30 مترًا، وتعمل على ارتفاع يراوح بين 18 و32 كلم وتحمل أجهزة مراقبة أو تعمل كمركز إتصالات. وستتمكّن من التحليق المُتواصل بين أسبوعين وستة أشهر بعد تزويدها خلايا طاقة شمسيّة. وقد كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (42) أن الصناعات الجويّة الإسرائيليّة تبذل جهودًا مُضنية في الآونة الأخيرة لتطوير طائرة تعمل على الطاقة الشمسيةلا تستطيع الطيران لفترات طويلة جدًا. وهناك عدّة نماذج واعدة لدى الصناعات الجوية الإسرائيلية يجري العمل على تطويرها بمساعدة شركات أجنبيّة (43). وأشارت الصحيفة إلى أن عددًا منها تحطَّم خلال التجارب الأوليّة (44). وتبذل إسرائيل قصارى جهدها لتمكين الطائرة من الطيران ثلاث ساعات.وسيُعمل لاحقًا على تطويرها لتطير 24 ساعة مُتواصلة، بعد تطوير تكنولوجيا الخلايا الشمسيّة.
هـ- طائرات العلو المُتوسِّط (45): تُحلِّق على علو يراوح بين 4600و7700 متر، ولكن يستطيع بعضها الوصول إلى ارتفاعات أعلى والطيران نحو 30 ساعة مُتواصلة ونقل أحمال ثقيلة نسبيًا (640 كلغ، مثلاً) (46).
و- طائرات الإقلاع والهبوط العموديّتان (47): يُطوِّر البعض طائرات تُقلع وتهبط عموديًا (48) من أجل عمليات الدعم الأرضي التكتيكي والمهمات المُنطلقة من علىمتن السفن والبوارج (49). وتقوم تجارب حاليّة على طائرة بلا طيار يكون مداها 2500 ميل بحري، ويُمكنها التحليق نحو 40 ساعة مُتواصلة مع حمولة زنتها 140 كلغ (50).
ز- طائرات نقل الجرحى والتموين (51): شرَعت شركة إسرائيليّة مُتخصِّصة بالصناعات الحربيّة بتطوير طائرة بلا طيار لإخلاء الجرحى وتموين الوحدات القتاليّة في المناطق الشديدة الوعورة (52). ويأتي تطوير الجيش الإسرائيلي هذه الطائرة بعد فشله في إخلاء جرحاه وقتلاه خلال المعارك الضارية التي دارت العام 2006 على أرض لبنان. وطول الطائرة خمسة أمتار وتصل سرعتها إلى 150 كم في الساعة، وهي قادرة على التحليق بين ساعتين وأربع ساعات مُتواصلة على علو أقصاه 2500 متر.وتصل حمولتها إلى 230 كلغ، وهي مُصمَّمة لنقل جريحين (53) (أو قتيلين).
ح- طائرات يدويّة الإطلاق (54): تُعتبر هذه الطائرات التي يطلقها الأفراد يدويًا قطاعًا واعدًا جدًا في المستقبل القريب (55). وللشركات الفرنسية ريادة في هذا المجال. ويُتوقَّع أن يكون لهذه الطائرات، إضافة إلى تجهيزها الإلكتروني المتطوِّر، كاميرات مُنمنمة للتصوير النهاري/الليلي (بصريّة/حراريّة) وأجهزة ليزر لتعيين الهدف (56).
ط- طائرات مُصغَّرة: ستُصبح طائرات الاستطلاع بحجم الكفّ في القريب العاجل حالما يُحلّ بعض معضلاتها (قصر مدى أو نطاق عملها وفترة تحليقها المُتواصل، مثلاً)(57). وهناك من يُفكِّر في طائرات استطلاع على شكل قنبلة تُطلق من فوّهة المدفع فتُصوِّر كل شيء خلال تحليقها إلى أن تصل إلى نهاية مسارها فتسقط على الأرض وتنفجر(58). وستؤدّي أنظمة كهذه إلى تطوّر مخيف فيرصد حركة القوات العسكريّة ومُلاحقتها لضربها. وصَمَّمت إسرائيل البعوضة (59) (Mosquito) التي تقوم بالمهمات التكتيكية القريبة المدى. ويُمكنها أن تطير مسافة 3 كلم لمدة 30 دقيقة مُتواصلة، ويبلغ ارتفاعها الأقصى في الجو بين 50 و300 قدم، بسرعة تراوح بين 20 و40 عقدة، وهي مُزوَّدة أنظمة تصوير بالغة الدقّةومِجسَّات غاية في التطوّر (60). كما يقوم الإسرائيليّون بتصميم الدبّور التجسسي الذي يُمكنه التسلُّل إلى الشوارع والأزقة الضيّقة لفترة تصل إلى 40 دقيقة (61). ويُمكنه الطيران مسافة 3 كلم على ارتفاع يراوح بين 50 و300 قدم، ويقوم بمهمة التشويش على رادارات العدو وأجهزة اتصاله، ويستطيع أيضًا البحث والتفتيش لإنقاذ الوحدات العسكريّة (62). ويَستخدمه رجال البحريّة والقوّات الخاصة في المناطق الوعرة أو الكثيفة الغابات أو المليئة بالكهوف حيث يُزوِّدها، في الحال، معلومات لاغنى عنها لحُسن سير العمليّات العسكريّة.
ك- طائرات مُنَمْنَمَة: ستُصبح الطائرات بلا طيّار بحجم الذبابة في مستقبل غير بعيد، بعد حلّ عدد من المشاكل التقنيّة الكأداء (63). وستُحاكي طيران الطيور والحشرات الطائرة.ويُمكن أن تكون إستطلاعيّة، كما يُمكن أن تحمل شحنة شديدة الإنفجار قادرة على إلحاق أكبر الخسائر وأعظمها بالأشخاص المُستهدفين (سواء جنود المشاة في ساحة المعركة أم الأفراد المُدرجين على لائحة الاغتيال).
ويُمكن، إذًا، تقسيم الطائرات بلا طيّار بحسب المهمّات التي تضطلع بها إلى ثلاثة أنواع أساسيّة: أولاً، الطائرات بلا طيّار المُتخصِّصة في مجال المراقبة والتي تُشكِّل الجزء الأكبر من هذه الطائرات؛ ثانيًا، الطائرات بلا طيّار المُزوَّدة صواريخ (64)؛ وثالثًا، الطائرات بلا طيّار مُزدوجة الإستخدام، أي التي يُمكن استعمالها للغرضين المذكورين آنفًا في آن معًا.
فما هي مُميِّزات الطائرات بلا طيّار؟ ولماذا استخدِمت في تنفيذ «القتل المُسْتَهْدَف»؟
ثانياً: مُميِّزات الطائرات بلا طيّار واستخدامها في مجال الاغتيال
يُعادل ثمن ألف طائرة بلا طيّار ثمن طائرة واحدة من نوع (65) «إيغل أف – 15 / Eagle F – 15». وتستهلك 200 رحلة من رحلات طائرة بلا طيّار وقود رحلة واحدة لطائرة «فانتوم أف – 4 / Phantom F – 4»، لتحقيق ذات المهمة، على طول المسافة عينها (66). وتفوق كلفة تدريب طيّار واحد على طائرة «تورنادو Tornado» أربعة ملايين دولار(67)، في حين أنّ الطائرات بلا طيّار لا تحتاج إلاّ إلى مبالغ زهيدة جدًا، كما لا يحتاج المُتدرِّب إلاّ إلى نحو ثلاثة أشهر ليُصبح مُشغِّلاً لها باحتراف (68).
وتنوَّعت، في الوقت ذاته، عمليّات الاستخدام المدني والعسكري للطائرات بلا طيّار، فهي تطوف في الأجواء، وتُراقب ما يجري في ساحات العالم، وتتنصَّت على الإتصالات السلكيّة واللاسلكيّة، وتتجسَّس على التكنولوجيا الحديثة للمعلومات (New Information Technologies)، وتتعرَّف إلى كلّ ما يمخر عباب البحر أو ينتشر في الأرض، وتُسجِّل تطوّرات الأحوال الجويّة، وتجمع المعلومات عن الأهداف المُحتملة.
وتتميَّز الطائرات بلا طيّار العسكريّة بعدّة خصائص، منها (69): وضع تقارير متواصلة عن الأحوال الجويّة فوق مسرح العمليّات العسكريّة، وتخفيف التشويش المعادي لأجهزة استقبال بيانات نُظم تحديد الموقع الجغرافيّ (GPS)، والتشويش على منصّات إطلاق الصواريخ (نشر رقائق معدنيّة، مثلاً) وبطاريات الدفاع الجوّي، والتحكم الجوي الأمامي الذي يُمكِّن الطائرة بلا طيّار من القيام بثلاث مهمّات أساسيّة (العزل الجوي، والدعم الجوي القريب، والبحث والإنقاذ خلال القتال)، إضافة إلى تعقُّب الأهداف وتعليمها أو إضاءتها ليلاً لمُعاونة الطائرات الهجوميّة التي تستخدم منظار الرؤية الليلية، وكشف الأهداف المُعادية، وتقوية بمحطات الإرسال، والتحوُّل إلى صاروخ مُوجَّه عند فشل المهمة أو وجود هدف حيوي يجب تدميره، واكتشاف الأهداف الجوية، علىمُختلف الارتفاعات، وإنذار القوات العسكريّة بشكل مُسبق للتعامل معها، وقيادة عمليات المقاتلات الاعتراضيّة وتوجيهها، وتوفير المعلومات اللازمة لتوجيه الصواريخ أرض/جو، ومُتابعة القاذفات والطائرات الصديقة أو الحليفة وتوجيهها، وعمليات الإنقاذ والإستطلاع البحري، وتوفير المعلومات اللازمة لمراكز العمليات العسكريّة والقوات البريّة، وتنظيم حركة الملاحة الجويّة، ورصد أفراد الحركات أو التنظيمات المُعادية وعناصرها وتعقُّبهم ومن ثمّ اغتيالهم.
وحظيت الطائرات بلا طيّار، في الآونة الأخيرة، بتغطية إعلاميّة واسعة بعد أن أصبحت الوسيلة الفُضلى للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل (70) لتنفيذ عمليات الإغتيال، سواء من خلال الطائرات المُوجَّهة لاسلكيًا أو الطائرات التلقائيّة القرار، ضدّ من يوصفون بالإرهابيّين.
وتستخدم الولايات المتحدة الأميركيّة هذه الطائرات لاصطياد أو اقتناص أو تصفيةزعماء تنظيم القاعدة (71) والمنظمّات المُصنَّفة إرهابيّة في المنطقة القبلية الأفغانيّة – الباكستانيّة (72) واليمن (73) والصومال وأقاصي أفريقيا. وتلجأ إسرائيل إليها لتصفية عناصر المقاومة وكوادرها، أو مُريديها، في إيران والسودان وفلسطين المحتلة ولبنان.
وهذا النشاط الذي كان حكرًا على الولايات المتحدة الأميركيّة وإسرائيل أصبح، بعد فترة وجيزة، في متناول دولٍ أو مجموعات دوليّة عديدة، كما سبق بيانه. وبما أنّه غدا قطاعًا مُتميِّزًا ومُستمرًا من النشاط البشري والاجتماعي، فقد اشتدَّت الحاجة إلى قانون يحكمه ويُنظِّمه. وبما أنّ دولاً عديدة باتت تتعاطى هذا النشاط الذي يتجاوز حدودها الاقليميّة ويمتدّ إلى حدود الدول الأخرى، فقد أصبح من المنطقي أن يكون هذا القانون قانونًا دوليًا.
فما هي المرجعيّة القانونيّة لاستخدام الطائرات بلا طيّار؟
ثالثًا: قواعد القانون الدولي العام واستخدام الطائرات بلا طيّار في الاغتيالات
إعتبر مُقرِّر الأمم المتحدة الخاص بِـ «حالات الإعدام خارج نطاق القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفًا»، كريستوف هاينز (1 آب/أغسطس 2010 - اليوم)، خلال مؤتمر عقد في جنيف مُنتصف العام 2012، أنّ سياسة الإدارة الأميركية في استخدام الطائرات بلا طيّار لتنفيذ «قتل مُسْتهْدَف» تُهدِّد أسس القانون الدولي (74). فـ «الإعدامات خارج نطاق القضاء» التي تُنفِّذها وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (CIA) في باكستان واليمن وغيرها من الدول، بتوصية من إدارة أوباما، قد تُغري أو تُشجِّع دولاً أخرى على الاستخفاف بمعايير حقوق الإنسان وضماناته (75). وألمح إلىأنّ بعضها قد يرقى إلى «جرائم حرب»(76) (War crimes).
ويأتي تصريح مُقرِّر الأمم المتحدةبعد تململٍ وشجبٍ دوليين عارمينلارتفاع وتيرة «القتل المُسْتهْدَف» من خلال طائرات بلا طيّار.
وأعلن المحامي بن إميرسون، خلال المؤتمر ذاته، أنّه سيضع التحقيق في هجمات الطائرات بلا طيّارعلى سلَّم أولوياته (77).وقال إن القضية فرضت نفسها على الأجندة الدولية بعد أن دبَّجت كلاً من روسيا والصين بيانًا مشتركًا، بدعم دول أخرى، يدين تلك الهجمات في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (78).وأشار إلى أنه إذا لم تقم الولايات المتحدة، والدول الأخرى الضالعة معها، بتحقيقات مستقلّة في كل عملية قتل، «فيجب على الأمم المتحدة أن تدرس تشكيل هيئة تحقيق» (79).
ودعا مندوب الباكستان في الأمم المتحدة، زمير أكرم إلى موقف قانوني دولي لوقف هجمات الولايات المتحدة التي «تؤتي نتائج عكسيّة» (80).
وسخر مُقرِّر الأمم المتحدة مما تُردِّده الولايات المتحدة من أنّ هجمات الطائرات بلا طيّار على تنظيم القاعدة أو الجماعات المتحالفة معه هو ردّ مشروع على هجمات 11 سبتمبر/أيلول (81)، مشيرًا إلى أنه «من الصعب تبرير العمليّات التي نُفِّذت العام 2012 بأنها ردّ على (الأحداث التي حصلت"العام 2001» (82). وقال «إن بعض الدول يسعى كما يبدو إلى ابتداع قوانين جديدة لتبرير ممارسات جديدة») (83). وقال هاينز للصحيفة عقب المؤتمر إن تحقيقاته المستقبلية قد تلتفت إلى قيام بعض الدول (المملكة المتحدة، مثلاً) بتزويد الولايات المتحدة معلومات إستخباراتيّة قد تستخدمها الإدارة الأميركيّة لاستهداف أفراد بعينهم (84). وأضاف أنّ الوقت حان لإنهاء «مؤامرة الصمت» (85) وإطلاق تحقيق مستقل (86) بشأن الطائرات بلا طيّار، مشيرًا إلى أنّ تلك الهجمات لا تستهدف الأفراد فحسب، بل القانون الدولي ذاته (87).
وقُدِّر عدد الذين قتلوا في الباكستان والصومال واليمن بسبب الطائرات بلا طيّار بأربعة آلاف شخص، جلّهم من المدنيين منذ العام 2002 (88). وقد ارتفع عدد الضحايا الأبرياء بشكل لافت منذ تولّي الرئيس باراك أوباما السلطة في الولايات المتحدة الأميركيّة (89).
إنّنا نلمس، إذًا، بعد الاطّلاع على جهود الأمم المتحدة في مجال قمع الإعدام غير القضائي Extrajudicial Execution (أي القتل من دون حُكم سابق صادر عن محكمة)، توجّهًا دوليًا بارزًا نحو إدانة «القتل المُسْتَهْدَف» (90). فحجَّة الإرهاب لم تعُد سدًّا يحمي الدول من الإدانة عند اللجوء إلى قتل كهذا. والتذرُّع بالخطأ التقني، الحاصل للطائرة بلا طيّار عند تنفيذ مهماتها (أي قيامها بالاغتيال)، لم يعُد وسيلةً للتهرُّب من المسؤوليّة الدوليّة. وعالم اليوم لم يعد بإمكانه السكوت أكثر عمّا يجري من عمليات قتل فرديّة أو جماعيّة. ومسألة مُحاسبة من ارتكب مثل هذه الفظائع، وإنزال العقوبات المُناسبة به، صارت في مقدِّم اهتمام منظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني (91).
قبل أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 كانت مشروعيّة استعمال الطائرات بلا طيّار تُثير مناقشات عديدة بين الفقهاء، وكان بعضهم يمقتها ويدعو إلى تحريمها لأنها تُنزل بالسكّان الآمنين الأبرياء أضرارًا لا قِبَل لهم على دفعها. غير أنّ كثرة استعمال الطائرات بلا طيّار، وتقدُّم هذا السلاح بعد العام 2001، واعتماد الدول اعتمادًا كبيرًا عليه، كل ذلك جعل من المُناقشات الفقهيّة حول مشروعيّة هذا السلاح مناقشات بيزنطيّة، وأهاب بالبعض إلى التسليم بالأمر الواقع والانصراف إلى البحث عن قواعد لتنظيم استعماله (92).
ولم تتمكَّن الدول حتى الآن من الاتفاق على وضع قانون خاص لهذا السلاح الرهيب. والدول كانت دائمًا تنفر من قضيّة التنظيم لأنها تُريد، كما يبدو، أن تبقى طليقة من كلّ قيد لتتصرَّف في حروبها المُقبلة بكلّ حريّة وتستعمل أنواع الطائرات بلا طيّار التي تختارها.
إلاّ أنّ عدم تنظيم استعمال الطائرات بلا طيّار لا يعني تركها لمشيئة المُحاربين، فهناك أحكام عامّة تفرضها قواعد الأخلاق الإنسانيّة ومبادؤها وتُطبَّق على أيِّ عمليّة حربيّة، جويَّةً كانت أم بريَّةً أم بحريَّةً. وهناك أيضًا نصوص مُدوّنة بشأن الحرب الجويّة والبريّة والبحريّة (93) تُلائم طبيعة حرب الطائرات بلا طيّار ويُمكن أن تُطبَّق عليها. واستنادًا إلى هذه الأحكام والنصوص نستطيع أن نتحدَّث عن القواعد المهمّة لحرب الطائرات بلا طيّار. فاللجوء إلى مثل هذه لا بدّ، إذًا، أن يكون مُتوافقًا، بدايةً، مع حق اللجوء إلى الحرب (أي الحالة التي يُسمح فيها للدولة باستعمال القوّة(94) Jus ad bellum)، كما يجب أن يكون استعمالها، بعد ذلك، مُستندًا إلى حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني(95) (أي القانون الذي يُنظِّم حالة الحرب(96) Jus in bello).
أ- فما هي قوّات حرب الطائرات بلا طيّار وما هو قوامها؟تُشكِّل هذه الطائرة، كما هو معلوم، وسيلة حرب لضرب العدو من دون تعريض حياة الجنود لأي خطر يُذكر، أيّ أنّ استخدام هذا النوع من السلاح يكون نيابة عن الزجّ بالجنود.فمُشغِّل الطائرة، عندما لا تكون تلقائيّة التوجيه، هو شخص جالس خلف شاشة الحاسوب في مكان يبعد آلاف الكيلومترات عن أرض المعركة. ولكن هل تُطبَّق صفة المُحاربين على الأشخاص الذين يُبرمجون الطائرات بلا طيّار أو يُحلِّلون معلوماتها أو يعملون على التحكُّم بها؟
ب- ما هي الآثار الخاصّة للحرب فيما يتعلَّق بالأشخاص؟ فرعايا الدولة المُحاربة، بشكل عام، فريقان: فريق المُحاربين (القوّات العسكريّة بمُختلف مظاهرها)، وفريق المدنيّين. والفريق الأوّل هو الذي يتَّصف فحسب بصفة العدو. ولكن هل يُعتبر مشغّلو الطائرات بلا طيّار مُحاربين لدى القوّات العسكريّة؟ ماذا يحلّ بالمدنيّين منهم والمُقيمين خارج أراضي دولة مُحاربة؟ هل يُعاملون، عند إلقاء القبض عليهم، كأسرى حرب؟ هل يجوز الاعتداء على الأشخاص المُلحقين بخدمة الطائرات بلا طيّار (موظفي التموين، واللاسلكي، والصيانة)؟ لقد مال البعض(97) إلى اعتبارهم فئة لا يحميها القانون الدولي الإنساني على الرغم من انخراطهم في نشاط الطائرات بلا طيّار، ولا يُمكن اعتبار من يقع منهم في الأسر، أسير حرب. وجلّ ما يُمكن القيام به هو مُلاحقتهم أمام محاكمهم الوطنيّة. إلاّ أنّ الأمر لم يُحسم بعد(98)، وهذا ما سنراه لاحقًا.
ج- ما هي حقوق المُحاربين بالنسبة إلى طائرات العدو بلا طيّار؟ تستطيع الدولة المُحاربة أن تُدمِّرها (مهاجمتها وإطلاق النار عليها وإسقاطها أو مصادرتها)، ولا فرق في ذلك بين طائرة مُحلِّقة أو راسية في المطار. وإلى جانب التدمير تستطيع الدولة إذا تمكَّنت من ذلك مصادرة أي واحدة منها وإنزالها في أرضها.
وجرى «العرف الحديث»(99) على جواز اعتراض الطائرات بلا طيّار التي يملكها العدو ومصادرة ما فيها من أجهزة إلكترونيّة(100).
د- ما هي وسائل الحرب؟ إنّ الغرض من الحرب، بشكل عام، هو قهر قوّات العدو وإجبارها على التسليم، ولذلك فإنّ الوسائل المُستعملة يجب ألاّ تتعدّى هذا الغرض فتصل إلى الأعمال الوحشيّة. وقد حدَّدت الاتفاقات الدوليّة، بشكل عام، وسائل العنف المشروعة وغير المشروعة. فالوسائل غير المشروعة هي: استعمال أسلحة أو مقذوفات تزيد من دون فائدة في آلام المُصابين وفي خطورة إصاباتهم، وإلقاء قذائف تنشر الغازات السامّة أو المُضرَّة بالصحة، واستعمال السموم بأيّ طريقة كانت. فإطلاق صواريخ الطائرات بلا طيّار عشوائيًا، مثلاً، واللجوء إلى القسوة غير الضروريّة عند تنفيذ «القتل المُستهدف»، هي من القيود التي يتحتَّم تجنّبها(101).
والطائرة بلا طيّار هي وسيلة حرب أكيدة، تتكوّن من مجموع الطائرات بلا طيّار على اختلاف أنواعها (إستطلاع أرض المعركة، وتموين الجنود، وتشويش الإتصالات السلكيّة واللاسلكيّة، وتوفير المعلومات اللازمة لتوجيه الصواريخ: أرض/أرض، وأرض/جوّ، وأرض/بحر، واعتراض صواريخ العدو، وتوجيه العمليّات العسكريّة، وتعقُّب الأهداف المُتنوِّعة، واغتيال الأفراد، والبحث عن الجنود). ولكن هل تُعدّ بمنزلة جندي نصف آلي عندما تكون مُوجَّهة لاسلكيًا؟ وبعبارة أوضح: هل أصبحت تُعتبر، بهذه الصفة «الفرديّة»، شخصًا من أشخاص القانون الدولي؟ أوهل تُعدّ الطائرات بلا طيّار ذخائر فقط أطلقها أحد الجنود؟(102) أخيرًا، وبسؤال موجز: ماذا سيكون حُكم الطائرات بلا طيّار التلقائيّة التوجيه؟
هـ- هل هناك نظام للضرب من الجو؟ إنّ الدولة المُحاربة تُرسل، عادةً، قوّاتها المُحاربة لضرب مواقع العدو وإضعاف قوّاته الماديّة والمعنويّة وحمله على التسليم، وتستطيع أن تُدمِّر كل ما من شأنه أن يُعجِّل بتحقيق انتصارها عليه. ويصعب عمليًا إيجاد معيار للتفرقة بين المواقع التي ينبغي أن تُضرب. وبحث الفقهاء طويلاً هذا الأمر. وبعد جهود مُضنية توصّلوا إلى فكرة الأهداف العسكريّة. والضرب من الجو لا يكون مشروعًا إلاّ إذا كان مُوجَّهًا ضدّ هدف عسكري، أي ضدّ هدف يكون، في إتلافه الكلّي أو الجزئي، مصلحةٌ حربيّة ظاهرة لأحد المُتحاربين.
ولا يقتصر اهتمام القانون الدولي على مُعالجة القضايا التي تدخل في نطاق العلاقات الدوليّة، بل يمتدّ كذلك إلى العناية بحقوق الإنسان، مُعتبرًا الفردَ في المجتمع الدولي غايةً تعمل الدول من أجلها وهدفًا نهائيًا تتَّجه إليه وترعاه كلّ قاعدة قانونيّة. والحقوق الفرديّة التي يتعرَّض لها القانون الدولي العام هي الحقوق الأساسيّة التي تتَّصل بشخص الإنسان. وقد جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرَّته الأمم المتحدة العام 1948، دليلاً واضحًا على المركز المهمّ الذي يتبوَّأه الفرد في الأحكام الوضعيّة للقانون الدولي العام.
ولتنظيم هذه الحماية تضمَّن القانون الدولي بعض النصوص التي تُلزم الدول احترامَ بعض الحقوق الفرديّة أو تُلزم الأفراد مُراعاةَ بعض الواجبات تجاه الدول.
ويحصر القانون الدولي اهتمامه بالحقوق الطبيعيّة والأساسيّة التي يتمتَّع بها الفرد باعتباره كائنًا إنسانيًا. ولكن هل بإمكاننا القول إنّ هذه الحقوق الطبيعيّة قد أصبحت مكفولة دوليًا بواسطة القانون الدولي؟
لو اطلعنا على القانون الدولي العام المُعاصر لوجدنا أنه يتضمَّن قواعد ومبادئ تُطبَّق مباشرةً على الفرد بهدف حماية حياته وكيانه وحريّته وأخلاقه، أو بهدف مُعاقبته لارتكابه جرائم ضدّ الإنسانيّة أو ضدّ السلام العالمي، أو بهدف السماح له، بصفته هذه، بمراجعة المحاكم الدوليّة والمثول أمامها والادّعاء ضدّ الدول.
ولدينا اليوم قواعد قانونيّة دوليّة عديدة خاصّة بالفرد، إمّا لحمايته في حياته (إتفاقيّة جنيف الرابعة الخاصة بحماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب، مثلاً) وإمّا لحماية فئات مُعيَّنة من البشر (الإتفاقيات الخاصة بالنساء والأطفال، مثلاً)(103).
واقترنت كلّ من اتفاقيّات جنيف الأربع(104) «بوسيلة تنفيذٍ جديدةٍ تجسَّدت في نظام إلزامي لقمع المُخالفات الخطيرة المُحدَّدة في الاتفاقيّات. فالأطراف في هذه الوثائق مُلزمون إحالة المُخالفين، مهما تكن جنسيّاتهم، إلى محاكمهم وبإنزال العقوبة بهم، أو تسليمهم إلى الآخرين في حال إدانتهم»(105).
والتجديد الآخر الذي أتحفتنا به الاتفاقيّات الأربع نجده في المادة الثالثة التي تُعدِّد الأعمال المحظورة بسبب صبغتها الإنسانيّة، وهي:
- الإعتداء على الحياة وسلامة الجسد، وعلى الأخص القتل بكلّ أنواعه، وبتر الأعضاء، والمعاملات الوحشيّة، والتعذيب.
- أخذ الرهائن.
- الإعتداء على كرامة الأشخاص، وعلى الأخص المعاملات المُهينة أو المُزرية.
- إصدار أحكام وتنفيذ عقوبات من دون حكم سابق صادر عن محكمة مُشكَّلة بصورة قانونيّة، يشتمل على جميع الضمانات القانونيّة التي تُعتبر ضروريّة في نظر الشعوب المُتمدِّنة.
وتصطبغ هذه الوثائق الأربع بصبغة إنسانيّة رفيعة وتُشكِّل ما يُمكن أن يُسمّى «لُبّ القانون الدولي الإنساني» في عصرنا الحاضر.
إلاّ أنّ هذه الوثائق والقوانين ليست مؤهَّلة للتكيُّف مع التقنيّات المُتسارعة للطائرات بلا طيّار.
ولو اعتبرنا أنّ القواعد العامّة للقانون الدولي تُطبَّق (أو يجب أن تُطبَّق) على الطائرات بلا طيّار، لأنها قواعد عالميّة، فإنّ التطوّرات والإنجازات العلميّة الحديثة باتت تفرض إمّا إجراء عمليّة تحديث لهذه القواعد، وإمّا وضع نظام قانوني جديد، كفيل بمُواجهة المُستجدّات والتكيُّف مع التقدُّم العلمي المُرتقب وتحديد الحقوق والالتزامات للدول التي تستخدم الطائرات بلا طيّار وإيجاد الحلول للمُشكلات الخاصّة المُعقَّدة التي تطرحها ظاهرة «القتل المُسْتَهْدَف» وضرب مواقع العدوّ الحسَّاسة من الجو بشكل مُباغت من دون معرفة هويّة الدولة المُعتدية.
وعندما انكبّ الفقهاء على دراسة هذا الموضوع اختلفوا حول عددٍ من الأفكار(106). فما هي آراؤهم في هذا الصدد؟ وما هي التساؤلات المطروحة أو المُحتملة؟
رابعًا: تساؤلات يطرحها استخدام الطائرات بلا طيّار في الأعمال الحربيّة: تغيُّر وجه الحرب وآثارهاالقانونيّة المُحتملة
أضاف التطوّر العلمي المذهل الذي شهده العصر الحديث عوامل مهمّة جديدة كان لها، وسيكون، أثر عميق في تطوير قواعد القانون الدولي وتغيير معالمها. إنّها العوامل التكنولوجيّة (107).
وهذه العوامل أُهملت لفترة طويلة، على الرغم من الاعتراف بأهميّتها وتأثيرها. فـ«ليس الفلاسفة بنظريّاتهم، ولا الحقوقيّون بصيغهم، بل المهندسون بابتكاراتهم، هم الذين يصنعون القانون، وخصوصًا تقدّم القانون»(108).
وإذا كان تأثير الاكتشافات العلميّة في حياة المجتمع البشري أمرًا مُسلّمًا به، فإنّ ما يشغل بال فقهاء القانون اليوم هو مدى تأثيرها في التغيّرات والتوجّهات التي طرأت على تطوّر القانون الدولي العام.
لقد كان للتكنولوجيا تأثير بالغ ودور كبير، أولاً في تطوّر العلاقات الدوليّة(109)، وثانيًا في تقييد بعض القواعد الدوليّة(110)، وثالثًا في تطوير هذه القواعد(111).
وهكذا نرى أنّ العوامل التكنولوجيّة المُتلاحقة وتطوّراتها قد أحدثت تغييرًا مُهمًّا في كثير من المفاهيم والأسس والمبادئ التي قام عليها القانون الدولي منذ قرون(112). فهل امتدّ هذا التغيير إلى تكنولوجيا الطائرات بلا طيّار؟
يتجلّى تأثير الطائرات بلا طيّار في خمسة أمور مهمّة: إضعاف المفهوم التقليدي للدولة العسكريّة، تغيير في مضمون الجندي (أو المُقاتل أو المُحارب) ومدلول الدولة الصغيرة، وتقييد مبدأ سيادة الدولة، وتشتُّت المسؤوليّة الدوليّة، وتغييب مبدأي الضرورة والإنسانيّة.
أ - إضعاف المفهوم التقليدي للدولة العسكريّة.
فوضع الدولة التي كانت المُدافع الأوحد عن حياض الوطن بدأ يتغيَّر بعد تسعينيات القرن الماضي بفعل تطوّر تقنيّة الطائرات بلا طيّار.
ومردّ ذلك إلى سلسلةٍ من التحدِّيات التي واجهت هذه الدولة بفعل التقدّم التقني في مجال الطائرات بلا طيّار.
- التحدي الأول اقتصادي- سياسي. فظهور الطائرات بلا طيّار عمَّم أسلوب الإعتماد المُتبادل بين الدول وشركات الصناعات الحربيّة المُتعدِّدة الجنسيّة الذي يعني أنّه لم يعد في مقدور أيّ دولة الإعتماد على الذات فحسب والإكتفاء بما تُنتج من أسلحة(113). وهذا الوضع حتَّم على الدولة الاستعانة بغيرها من شركات الصناعات الحربيّة، أو الإعتماد على غيرها، لسدّ حاجاتها العسكريّة. فتقدُّم صناعة الطائرات بلا طيّار فرض على الدولة توسيع دائرة اتصالاتها الخارجيّة والدخول في أنماط جديدة من الشراكة مع القطاع الخاص.
وكانت الدولة في الماضي القريب تتحكَّم وحدها في آلة صنع القرار السياسي. وهذا الأمر كان مُمكنًا قبل ظهور تكنولوجيا الطائرات بلا طيّار المعاصرة التي أصبحت تتطلَّب قدرًا كبيرًا من الاختصاص والمهارة والخبرة والتفرّغ، وإلمامًا واسعًا بالأجهزة الإلكترونيّة المُتطوِّرة، ومعرفة عميقة بالمعلوماتيّة وثورة الاتصالات. ولهذا فإنّه يصعب اليوم على أجهزة الدولة وهيئاتها إدراك مختلف أبعاد صناعة الطائرات بلا طيّار واستيعاب جميع ظروفها وتطوّراتها. وبذلك أصبح لزامًا عليها اللجوء إلى المُتخصِّصين والمؤهَّلين من شركات الصناعات الحربيّة. فالتطوّر العلمي في مجال صناعة الطائرات بلا طيّار أفضى، بفعل التعقيدات التي أفرزها، إلى تراجع دور الدولة التقليدي في المجال العسكري وتصاعد دور شركات الصناعات الحربيّة(114).
- إلى جانب التحدي الاقتصادي- السياسي هناك تحدي السيطرة على ثورة الاتصالات وموجاتها المُختلفة (أو التحدي الرقمي). وكانت الدولة، قبل انتشار الطائرات بلا طيّار، قادرة على تحديد مسار قذائفها أو صواريخها، بشكل نسبي مقبول. غير أنّها أصبحت، بعد انتشار تلك الطائرات، عاجزة عن التحكُّم الكامل بمسارها. فكيف باستطاعة الدولة مالكة الطائرة بلا طيّار منع اختطافها وتحويل مسارها وإعادتها إلى حيث انطلقت وتفجيرها؟ وهل بإمكانها عمليًا منع الخاطفين أو القراصنة (Hackers) المُحتملين من التقاط ما تنقله الطائرات بلا طيّار من معلومات ومشاهد؟ وهل بإمكانها عمليًا منع التنصّت أو استراق السمع، أو انتهاك سريّة المُراسلات والاتصالات، أو اعتراض أو اختراق ما تبثُّه الطائرات بلا طيّار من معلومات ومشاهد؟
إنّ تطوّر وسائل الاتصالات ووسائطها أسهم في زعزعة الوظيفة التوجيهيّة للدولة في كل ما يتعلّق بالتحكُّم اللاسلكي بالطائرات بلا طيّار بحيث أضحى مفهوم الحدود السياسيّة والجغرافيّة، وكذلك مفهوم السيادة ومفهوم الاستقلال عن الآخرين، من المفاهيم الغابرة التي لا يُمكن الاعتداد بها.
- بعد التحدّي الاقتصادي والتحدّي الرقمي يُطالعنا التحدّي الأمني. فالتطوّر التكنولوجي قلب مفهوم الأمن الوطني التقليدي رأسًا على عقب، لأنّ وجود الطائرات بلا طيّار غيَّر أنماط العلاقات الدولية وقواعد الحرب. وبنتيجة ذلك لم يعد للحدود حرمة أو أهميّة(115)، ولم يعد خطر التدمير محليًّا يقتصر على أطراف النزاع بل يُمكن أن يمتدّ إلى دول عبرت أجواءها الطائرات بلا طيّار، كما سنرى لاحقًا.
ب –تغيير في مضمون الجندي (أو المُقاتل أو المُحارب) ومدلول الدولة الصغيرة
لقد أسفر التطوّر في مجال الطائرات بلا طيّار عن تغيير شامل في مضمون القوّات النظاميّة، أي الجيوش بمُختلف أشكالها وتشكيلاتها (الجيش العامل، والجيش الاحتياطي، والحرس الوطني، والكتائب المُكوَّنة من أجانب كالفرقة الأجنبيّة في فرنسا)، والقوّات المُتطوِّعة التي تتكوَّن من أفراد يعملون بدافع وطنيّتهم مع الجيوش النظاميّة. صحيح أنّ الفرق الجوهري بين القوّات العسكريّة التقليديّة ومُشغلي الطائرات بلا طيّار لم يتغيَّر من حيث الأغراض والأهداف، إلاّ أنّ البنية والروابط مع الدولة قد تغيَّرت جذريًا في عصر الطائرات بلا طيّار. ففي الماضي كان نقص عديد القوّات العسكريّة يُحدث خللاً أمنيًا ويُهدّد أمن الدولة بالتفكُّك. أمّا اليوم فلم يعد لعديد القوّات العسكريّة أيّ قيمة استراتيجيّة تُذكر، لأنّ الطائرات بلا طيّار أَوْهَت مفعول الترابط بين قدرة الجيش وعديده وعزَّزت قدرة الدولة الواحدة(116)، المالكة لهذا السلاح أو القابضة عليه، على ضمان أمنها والدفاع عن نفسها بمفردها.
وصار بإمكان دولة صغيرة مُستضعفة أن تُواجه مُنفردة دولة مُتفوِّقة عسكريًا بعد قيامها ببناء أسطول من الطائرات بلا طيّار المُتعدّدة الغايات والأغراض (إستطلاع أرض المعركة، وتموين الجنود، وتشويش الإتصالات السلكيّة واللاسلكيّة، وتوفير المعلومات اللازمة لتوجيه الصواريخ: أرض/أرض، وأرض/جوّ، وأرض/بحر، واعتراض صواريخ العدو، وتوجيه العمليّات العسكريّة، وتعقُّب الأهداف المُتنوِّعة، واغتيال الأفراد، والبحث عن الجنود، ونقل الجرحى). وستُحرِّر، إذًا، تكنولوجيا الطائرات بلا طيّار الدول الصغيرة، الحَسَنة التنظيم والتدبير نسبيًّا، من الاعتماد على حلفائها الإقليميّين.
ج –تقييد مبدأ سيادة الدولة
أصبحت المجالات الأساسيّة للسيادة الإقليميّة مفتوحة ومُستباحة بفضل التقدّم التكنولوجي، وأصبح الأقوى تكنولوجيًا يتمتّع بقدرة فائقة على اكتشاف ما يجري عند الآخرين ومعرفة أدقّ أسرارهم من دون استئذانهم. ونذكر على سبيل المثال عمليات التنصّت أو استراق السمع والتجسُّس والتقاط الصور بواسطة الأقمار الصناعيّة. والخطورة في مثل هذه التصرفات لا تكمن في إفراغ السيادة من مضمونها أو فاعليّتها فحسب، بل تكمن أيضًا وأساسًا في أنها لا تُعدّ خرقًا لقواعد القانون الدولي العام.
وتمتدّ الحرب إلى إقليم كل دولة مُحاربة. ويُمكن أن تمتدّ إلى أي إقليم آخر يُسهم في النشاط الحربي أو تستخدمه الدولة المُحاربة كنقطة تجمُّع واستعداد لطائراتها بلا طيّار. فنطاق الحرب يشمل، بشكل أساسي، المجال الجوي، الذي يستوعب كلّ ما يُمكن أن يصل إليه الإنسان أو يُدركه.
فالتطوّرات العلميّة التي تسمح للطائرات بلا طيّار بالارتفاع مسافات بعيدة في الجو، وبعبور أجواء الدول بسرعة هائلة أحيانًا، تجعل من الصعب، عمليًا، مُمارسة السيادة الوطنيّة على هذا المجال الجوي، وإخضاعه أو إخضاع أيّ جزء منه للتشريعات أو المُراقبة المحليّة. ونظرًا إلى صعوبة الرقابة أو استحالة تحديد أماكن الأجسام التي تسير في الجو وتدور حول الأرض بسرعة هائلة، فإنّ الدول لم تُبْدِ، منذ أن غزت الطائرات بلا طيّار المجال الجوي، أيَّ اعتراضٍ أو احتجاجٍ على تحليق هذه الأجسام فوق إقليمها. ولهذا تخلّت مُعظم الدول عن التشبُّث بفكرة السيادة.
د –تشتُّت المسؤوليّة الدوليّة
إنّ هناك شروطًا ثلاثة لقيام المسؤوليّة الدوليّة: وجود ضرر، ناجم عن عمل غير مشروع، إرتكبته دولة مُعيّنة. وتنتفي المسؤوليّة إذا كان الضرر نتيجة قوّة قاهرة، أو خطأ ارتكبته الدولة التي أصابها الضرر(117).
والنشاط الناجم عن استخدام الطائرات بلا طيّار المُتطوِّرة، والمُسبِّب للضرر، قد يكون مشروعًا. ويُعتبر استخدام هذه الطائرات عملاً مشروعًا، إنّما بشروط. ولا يُنكر أحد مشروعيّة إستعمال الطائرات العملاقة بلا طيّار(118). وقد تتسبَّب هذه الطائرات، عند استعمالها، في إحداث ضرر للبشر.
وهناك إتفاقيات دولية مهمّة إستندت إلى نظريّة المخاطر «ونصَّت بوضوح على قيام المسؤوليّة بمجرّد وقوع الضرر، ومن دون الحاجة إلى إثبات وجود فعل غير مشروع. ونذكر، على سبيل المثال، إتفاقيّة العام 1969، المُتعلِّقة بالتلوُّث الناتج عن استغلال الموارد المعدنيّة في قاع البحار، واتفافيّة العام 1972، المُتعلِّقة بالمسؤوليّة عن الأضرار التي تُسبِّبها أجسام تدور في الفضاء»(119).
وفي عصر الطائرات بلا طيّار وما أفرزته من أضرار جسيمة تجاوزت حدود الدولة التي تستخدمها، تضاعفت أهميّة تلك المسؤوليّة، فراح رجال القانون يُطالبون بتطوير قواعدها حتى لا تقف القواعد التقليديّة عقبة في سبيل حصول من تُصيبهم هذه الأضرار على التعويض العادل. فالمفهوم التقليدي للمسؤوليّة لم يعد قادرًا على التلاؤم مع الآثار والأضرار التي تُسبِّبها الثورة العلميّة الحديثة، لأنّ الأضرار أصبحت خطيرة وشاملة، وإثبات الضرر أصبح صعبًا(120)، واستخدام التكنولوجيا أصبح مشروعًا.
إنّ أضرار الطائرات بلا طيّار قد تحدث من دون أن يكون بالإمكان نسبة أي خطأ إلى الدولة المسؤولة عن الطائرة، فمن الصعب بمكان أن يكون للطائرات بلا طيّار مظهر خارجي يدلّ على صفاتها وجنسيّتها ما يُعقِّد عمليّة الإثبات (خاصّة تلك التي تكون الدولة قد اشترتها من الشركات المُصنِّعة). فهل تتحمَّل كلّ دولةٍ طرف تُطلق أو تسمح بإطلاق أي طائرة بلا طيّار في الجو، أو يُستخدم إقليمها أو منشآتها لعمليّة إطلاقٍ من هذا النوع، مسؤوليّةً دوليّةً عن الأضرار التي تُسبِّبها هذه الطائرة أو أيّ من شظاياها، على الأرض أو في الجو، لأيّ دولة طرف أو لأي شخص من أشخاصها الطبيعيّين أو المعنويّين؟ وهل تحتفظ الدولة الطرف، التي أطلقت الطائرة بلا طيّار في الجو، بالولاية والرقابة عليها خارج حدود الولاية الوطنيّة للدولة؟ وبعبارة أوضح: هل تتحمَّل الدولة الطرف، التي أطلقت أو سمحت بإطلاق الطائرة بلا طيّار من أرضها أو سمحت بعبور أجوائها، المسؤوليّة الدوليّة عن جميع الأضرار التي تنزل بالغير؟ وهل تبقى للشركة المُصنِّعة ملكيّة مثل هذه الأجسام؟ وبسؤال موجز: من يتحمَّل المسؤوليّة في هذه الحالة؟ وما هو أساس هذه المسؤوليّة؟
هـ - تغييب مبدأي الضرورة والإنسانيّة
لا يتخلّى القانون الدولي عن مهمّاته الإنسانيّة خلال الحروب. وهي تتجلّى في القواعد والضوابط التي يضعها للتخفيف من ويلات الحروب والمُنازعات المُسلّحة وآثارها، والحفاظ على مصالح الدول المُحايدة، وحماية المدنيّين والأبرياء.
ويستند القانون الدولي الإنساني(121) إلى مبدأين أساسيّين(122): مبدأ الإنسانيّة، ومبدأ الضرورة (Necessity). ويُمكن أن نُضيف إليهما مبدأً ثالثًا قد يبدو بدهيًا، وهو مبدأ التوازن أو التناسب (Proportionality).
يُحتِّم مبدأ الإنسانيّة حماية غير المُحاربين من أهوال الحرب. و«يدعو هذا المبدأ إلى تجنُّب أعمال القسوة والوحشيّة في القتال طالما أنّ استعمال هذه الأساليب لا يؤدّي إلى تحقيق الهدف من الحرب، وهو إحراز النصر»(123). فقتل الجرحى أو الأسرى، أو الاعتداء على النساء والأطفال، تُعدّ أعمالاً غير إنسانيّة وتخرج عن إطار أهداف الضرب من الجو.
ويقضي مبدأ الضرورة باستعمال وسائل العنف والقسوة بالقدر اللاّزم لتحقيق الغرض من الحرب، أي إرهاق العدو وإضعاف مقاومته وحمله على التسليم في أقرب وقتٍ مُمكن(124). ولكن مبدأ الضرورة يخضع لقيود إنسانيّة تتجلّى في وجوب مُراعاة القواعد الإنسانيّة في أساليب القتال، كالإقلاع عن الأساليب التي تزيد في آلام المُصابين، أو تُنزل أضرارًا فادحة بغير المُقاتلين. فحالة الضرورة لا تُبيح، مثلاً، لأيّ طرف استخدام الأسلحة المحظورة دوليًا، كالغازات السامة (الخانقة) والأسلحة النوويّة والبيولوجيّة، أو الإعتداء على المدنيين، أو مُهاجمة الأهداف المدنية، أو الإجهاز على الجرحى.
ويكون مبدأ التوازن أو التناسب مُتوافرًا عندما يُوازن العمل العسكري بين نتائجه والضرر المُحدث، أي أن يكون حجم العمل العسكري بحجم الضرر.
وشكَّك خبير مكافحة الإرهاب، دايفيد كيلْكولَنْ، في مدى توافر شرطيْ الضرورة والتناسب في عمليات الطائرات بلا طيّار(125). فالتناسب مفقود لأنّ عدد ضحايا هذه الطائرات أكبر بكثير من الأشخاص المُستهدفين(126). وقدَّر أنّه مُقابل كل شخص مُستهدف يسقط حوالى 6 إلى 7 أشخاص(127) لا ذنب لهم سوى وجودهم بجوار الشخص المُستهدف لحظة تنفيذ الاغتيال(128).
إنّ الركيزة الأولى للقانون الدولي الإنساني هي ضرورة التمييز، في كل وقت، بين المدنيّين والعسكريّين، حيث يحظر القانون على المُتحاربين قتل المدنيّين عمدًا، أو التسبُّب بمعاناة لا طائل منها لغير أسباب الضرورة العسكريّة، وإلاّ عُدّ هذا العمل جريمة حرب وانتهاكًا جسيمًا يستوجب المُعاقبة. ومثال ذلك اغتيال أو قتل المدنيّين.
وعلى هذا الأساس، لا يحقّ للمُتحاربين استهداف المدنيّين لأنهم من فئات الأشخاص المحميّين(129). ويُشكِّل استهدافهم عمدًا جريمة حرب يُعاقب عليها.
ويُعرِّف البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف الأربع، الصادر العام 1977، المدني بأنه كلّ من هو ليس بمُقاتل. «أمّا إذا ثار الشكّ حول ما إذا كان شخص ما مدنيًا أم غير مدني، فإنّ ذلك الشخص يُعدّ مدنيًا»(130). فالقاعدة في هذه الحالة هي تفسير الشك لمصلحة ال