بقلم : د . سمير محمود قديح
باحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
تعددت قضايا وعمليات حرب الظل بين مصر وإسرائيل, على مدى أكثر من ستين
عاما, ومنذ تأسيس المشروع الصهيوني فوق الجغرافية الفلسطينية.. ويبقى عابد
كرمان على رأس أخطر فصول المواجهة في حرب الظل, وقد تمكن من خداع قيادات
المؤسسة العسكرية الإسرائيلية, وكبار المسؤولين والقيادات السياسية, و لعب
بهم لصالح مصر طوال ست سنوات, وحصل على وثائق وخرائط كان لها دور حاسم في
نجاح عبور الجيش المصري إلى سيناء 1973 ومن بينها خرائط بأماكن الألغام في
خط بارليف.. وتمكن من إختراق المراكز السيادية, والمواقع المحاطة بسرية
تامة, لينقل إلى المخابرات المصرية الأسرار والمعلومات التي لعبت دورا مهما
وخطيرا خلال حقبة مشتعلة بين حربي حزيران 1967 وأكتوبر .1973
من هو عابد كرمان الذي يطل على شاشات القنوات الفضائية من خلال مسلسل
رمضاني يحمل الإسم نفسه ?! من هو اللغز الذي حيّر ضباط جهاز الموساد
الإسرائيلي وباعتباره أخطر عميل مصري داخل إسرائيل ?!
في دهاليز المخابرات العامة المصرية يوجد الكثير من الملفات المثيرة التي
تحوي بداخلها تفاصيل أكثر إثارة لمعارك طويلة, وبطولات وإنتصارات وإخفاقات
أحيانا.. ساهم معظمها في تغيير الخطط والإستراتيجيات السياسية والعسكرية,
لكنها تظل طي الكتمان.. ولا يخرج منها إلا القدر الضئيل أحيانا,وهو الجزء
المسموح, لأن طابع عمل تلك الأجهزة قائم في الأساس على السرية غير
المحدودة.. ومن بين تلك الملفات التي تحتوي على تفاصيل مثيرة في الحرب
الخفية بين المخابرات المصرية والموساد الإسرائيلي, ملف أهم وأخطر بل
وأكثرها تعقيدا في عالم الجاسوسية.. ملف الشاب الفلسطيني إبن حيفا عبد
الرحمن قرمان من مواليد 1938 وينتمي لأسرة فلسطينية تمتد جذورها إلى قبيلة
أبتين العربية.. وأسرته ميسورة الحال لديها مزرعة للخضراوات والفاكهة..
وأثناء دراسته فرضت عليه ظروف الاحتلال أن يكون زميلا لعدد من أبناء جيله
من الإسرائيليين, ومن بينهم من تولى فيما بعد مناصب رفيعة في الجيش
والمخابرات الإسرائيلية, وفي زهوة الشباب تعرف عبد الرحمن في مدينة تل أبيب
على فتاة فرنسية جاكلين مولييه كانت تعمل في مكتب للخطوط الجوية الفرنسية,
وقع عابد كرمان في هواها, وهي التي أطلقت عليه إسم عابد.. فهي كانت تنطق
الجزء الأول من عبد الرحمن أبد وقرمان كانت تنطقها كرمان فصار الإسم محببا
له !! ولم ينس عبد الرحمن ما حدث في قريته إحدى قرى حيفا التي تعرضت
للإعتداء الإسرائيلي الوحشي, ولم تنج أسرته من هذه المذابح التي راح شقيقه
واحدا من ضحاياها.. فنشأت بداخله رغبة الانتقام,وإتساع مساحة الكراهية لكل
ما هو إسرائيلي..
وكانت المخابرات المصرية, تبحث عن رجل يتولى مهمة خطيرة داخل إسرائيل,
وبدأت ترصد عبد الرحمن المعروف بوسامته وأناقته اللافتة للأنظار, وكان هناك
من يرصد تحركاته تمهيدا لتجنيده, ولم تكشف ملفات المخابرات المصرية عن
الصديق الذي دخل حياة عابد كرمان, وراح يهيئ الظروف ويمهد الطريق لدخوله
عالم الجاسوسية, فهو كان دائم التردد على مزرعته والحديث معه عن جاكلين
مولييه التي عادت إلى باريس بعد إنتهاء فترة عملها في تل أبيب, وكان ذلك
محرضا له على عدم نسيانها, فقرر السفر إلى فرنسا, وهناك توجه إلى السفارة
المصرية في باريس, مما يؤكد أن عملية التجنيد تمت في حيفا أو تل أبيب..
فالمفارقة هنا تبدو مدهشة, شاب فلسطيني يحمل جواز سفر إسرائيلي, يدخل
السفارة المصرية.. ويجد من ينتظره !! ويتزوج عابد من جاكي, ويخضع لتدريبات
على أيدي ضابط المخابرات المصرية.. وتنقل في العديد من العواصم الأوروبية..
وطلب منه أن يعود إلى تل أبيب وسيجد في انتظاره شخصا يهوديا سيطلب منه
المشاركة في مصنع للحلاوة الطحينية.. وعليه أن يوافق بعد تردد حتى تتم
العملية بإتقان شديد.. وبالفعل حدث هذا, والتقى إسحاق رينا, الذي طلب منه
المشاركة, وبعد تردد وافق عابد .. وأغدقت عليه المخابرات المصرية من خلال
أحد ضباطها البارعين في المعارك الذهنية, الأموال لكي يتم إنشاء هذا المصنع
في باريس, الذي لا تعلم عنه إسرائيل أية تفاصل وأسرار.. وكان ستارا لنشاط
عابد في باريس, ودفعه هذا العمل لأن تتوسع دائرة علاقاته ويمتد نشاطه من
الجمارك إلى الجيش الإسرائيلي, فالأموال الكثيرة تفتح أمامه الأبواب, وهو
يقوم بتنفيذ ما يوكل إليه من مهام ببراعة شديدة.. وفي سنوات قليلة إستطاع
عميل المخابرات المصرية الأسطورة أن يخترق المناطق الملغومة, ويرتبط
بعلاقات وطيدة مع أهم الشخصيات في المجتمع الإسرائيلي.. وجعلته هذه
العلاقات بعيدا عن مواطن الشبهات, وسهلت له دخول الأماكن الإستراتيجية,
والاطلاع على مخازن الأسرار والوثائق, وفي مقدمة الذين إرتبط معهم بعلاقات
وطيدة, موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وقتئذ, وثلاثة وزراء آخرين إرتبط
معهم بصداقات متينة وهم : شلوموهيلل نحاس سابيرو فيكتور شيمتوف, وصار
واحدا من المقربين إلى مدير مخابرات حيفا جيورا زايد الذي كان يحتفظ برقم
تليفون عابد في جيبه ومكتبه, وشخصيات أخرى من الوزن الثقيل في دوائر صناعة
القرار الإسرائيلي, وخدع ديان بطريقة متقنة, وأقام علاقات نسائية فتحت له
الطريق لتقديم خدمات ومعلومات في غاية الأهمية للمخابرات المصرية..
وتروي المعلومات المتاحة, أن المخابرات المصرية طلبت منه التعرف على ديان
والتقرب إليه.. ودبرت خطة لذلك, نفذها عابد بدقة متناهية.. أخبره ضابط
المخابرات المصرية بأن ديان مولع بالآثار واقتنائها, وزوجته روث لديها محل
لبيع وتجارة التحف والأنتيكات, وإستطاع ضابط المخابرات أن يقنع عابد بالخطة
التي وضعها, فأحضر له جرة أثرية عمرها 3 آلاف سنة ليدفنها أسفل مصنع عصر
الزيوت المهجور القديم على أطراف مزرعته, مع خلط التربة بكبريتات النحاس,
التي أرسلوها في صندوق, وساعد في تهريبها إلى داخل إسرائيل توفيق فياض الذي
تم تجنيده في جمارك مطار اللد بمعرفة عابد.. والخطة المرسومة له, هي هدم
المبنى القديم الخاص بالمصنع وإنشاء فيلا في المكان نفسه للإقامة على أطراف
مزرعته.. والبناء يلزمه حفر للأساسات, وأثناء الحفر يعثر على الجرة التي
وضعها قبل شهر.. وبعدها ذهب إلى روث فأرشدته بالذهاب إلى موشيه ديان.. وبعد
يوم عاد إليها ليخبرها أنه لن يستطيع الوصول إليه, فأجرت هي إتصالا بزوجها
الذي ذهب إلى محل الأنتيكات.. وتعرف عليه عابد.. وإصطحبه إلى المزرعة
للتأكد من عملية الحفر..وتوطدت العلاقة بينهما, والإتصالات تتم يوميا بين
مكتب ديان, وعابد, للإطمئنان على عمليات الحفر ظنا منه أن هناك المزيد من
القطع الأثرية مدفونة تحت الأرض.. وكانت تلك العلاقة هي جواز المرور لدخول
أي مكان في إسرائيل, وجعله بعيدا عن الشبهات, وساعده ذلك على بناء وتوطيد
علاقاته بقيادات المجتمع الإسرائيلي, والنخبة المسيطرة فيه.. وأتاحت له كل
هذه الظروف التمكن من معرفة أن هناك وثائق مهمة تخص جيش الدفاع الإسرائيلي,
وعملياته الإنشائية على الجبهة الجنوبية في سيناء, وهذه الوثائق في حوزة
شخص ليفي شموائيل وهو من الأفراد القلائل الذين يستطيعون الإطلاع على مثل
هذه الوثائق, وكان ليفي حسب المعلومات التي حصلت عليها المخابرات المصرية,
لديه علاقة شاذة مع شاب صغير يدعى إريك يقيم في ناتانيا وكان يتردد على
شقته كل يوم جمعة بعد غروب الشمس, وعلى خلفية هذه المعلومات تم إستدعاء
عابد إلى باريس, وطلب منه ضابط المخابرات المصري شراء هذه الوثائق, من خلال
خطة تبدأ بفتح قنوات إتصال مع ليفي بإعتبار أن عابد الشخصية المعروفة سوف
يحصل على أعمال إنشاءات من الباطن لتنفيذ المشروع, ويغري ليفي بمقابل مادي
مجزي, ونجحت الخطة مع ليفي وتم تصوير ما لديه من وثائق, لخدمة عابد الذي
سيحصل على أعمال المقاولة من الباطن, ويريد معرفة تفاصيل العملية بهذا
المقابل, وكانت هذه الوثائق عبارة عن رسوم لتحصينات الجبهة على خط قناة
السويس, وبالحصول على هذه الوثائق أصبح عابد يتربع على قمة العاملين في
الحقل السري, فجعله ذلك مزهوا ومنتشيا بما حققه..
وعمل عابد في العديد من الأعمال التي كلف بها, ومنها إدارة مصنع بلجلومي
في باريس,, ومصدر للموالح, ومقاول بغرض الدخول إلى إحدى أهم الشركات التي
كانت تعمل في مجال إنشاء التحصينات العسكرية أسوليل بونيه وإرتبط بصداقة
قوية مع مديرها بنيامين كافيناكي وأحد مؤسسيها دافيد هاكوجين صاحب النفوذ
الواسع في إسرائيل..
ولكن مشاعر الزهو بما حققه من نجاح,وإدارة عمليات إستخبارية فائقة الدقة
حصل من خلالها على أخطر الأسرار.. تلك المشاعر أوقعته في عدم الإحتياط
المطلق في عمله حين حاول تجنيد بلدياته وزميل دراسته خالد الزهر الفلسطيني
من عرب ,1948 وكان يعمل في إحدى المدارس الإبتدائية القريبة من مزرعة عابد
في حيفا وتركها للإلتحاق بإحدى شركات السفر وكالة دوف جريفر يملكها يهودي
إسرائيلي, وكان اللقاء نقطة فارقة, والوقوع في كماشة الموساد حين طلب من
خالد جوازات سفر بأسماء مستعارة, لأنه يعمل سرا في تجارة تهريب الماس, كما
أخبر خالد, ومما يفرض ضرورة التخفي بإستخدام جوازات سفر جديدة, وعندما أراد
السفر في يناير / كانون ثاني 1970 بجواز السفر الجديد, ألقي القبض عليه في
مطار اللد, وتعرض لأبشع عمليات التعذيب, فلم يعترف بأي شيء, وساعدته
علاقاته مع الوزراء وعلى رأسهم ديان ومدير المخابرات, في الإفلات من
الاعترافات, لأنهم طلبوا منه عدم الإشارة إليهم في التحقيقات التي جرت معه,
وإستغل ذلك في كتمان ما بحوزته من معلومات كان قد سربها إلى مصر, ومنها
خرائط خط بارليف على قناة السويس, وكان يمثل أصعب خطوط المواجهة العسكرية
في العالم, كما وصفته مراكز الدراسات والأبحاث العسكرية, إلى جانب ما سربه
مع الخرائط التي تحدد مواقع الألغام التي زرعتها إسرائيل في سيناء.. وبعد
القبض عليه مباشرة لم تتركه المخابرات المصرية, وأثناء مفاوضات فك الإشتباك
بين مصر وإسرائيل خلال الأيام الأولى من شهر تشرين ثاني, تمت مقايضته
بأسرى إسرائيليين, وحضر إلى القاهرة.. وبقيت قصة الأسرار في حكاية عابد
كرمان طيّ الكتمان حتى الآن, ويكشف عن خطورتها, وصف الموساد له بأنه
الجاسوس الطائر, ورجل الصندوق الأسود, واللغز الذي حيّر ضباط جهاز الموساد
على مدى ست سنوات.