الحرب وتأثيرها على سعر النفط
يثار جدل أحيانا حول وجود تأثير ايجابي للحروب على الاقتصاد، وهو فهم خاطىء نشأ من الدور الذي لعبته الحرب العالمية الثانية في مساعدة الولايات المتحدة على الخروج من الأزمة الاقتصادية الكبرى ("الركود الكبير"). لكن أصبح واضحاً أن الحرب في العراق لها تأثير سيء إلى حد كبير على الاقتصاد الأمريكي.
ويمكن تشخيص أربعة أصناف لتأثيرات الحرب على الاقتصاد الإجمالي للولايات المتحدة.
• الأول يتمثل بتأثير الحرب على أسعار النفط. إذ كان سعر برميل النفط اقل من 25 دولاراً قبل الحرب، بينما يزيد الآن على 100 دولار(تحديث وصل برميل النفط مايقارب150$ وهبط الى 130%). وقبل خمس سنوات، كانت الأسواق الآجلة تتوقع أن يصمد سعر أل25 دولار لعقد من السنين على الأقل. وبالرغم من توقع زيادة الطلب من الصين والهند، كان يفترض أن يلبي العرض هذه الزيادة. ومع توفر إمدادات كبيرة وكلفة استخراج واطئة في الشرق الأوسط، توقعت الأسواق أن يرتفع الإنتاج متمشياً مع الطلب. لكن الحرب غيّرت هذه المعادلة. واستندت حسابات الباحثين ستيغليتز وبيلمس للكلفة الإجمالية للحرب على تقديرات محافظة جداً لتأثيرها على سعر النفط (5 إلى 10 دولارات من الزيادة)، وعلى افتراض أن الزيادة الناجمة عنها ستستمر لفترة 7 إلى 8 سنوات فقط. وأوضح البروفسور ستيغليتز في شهادته أمام اللجنة الاقتصادية المشتركة في الكونغرس، في 28 شباط 2008، أن ذلك الافتراض كان "محافظاً بشكل غير واقعي" لأنه على سبيل المثال "تتوقع الأسواق الآجلة اليوم أن يبقى سعر النفط أعلى من 80 دولار طيلة العقد المقبل على الأقل". ومن شأن الأموال الإضافية التي تنفقها الولايات المتحدة لشراء النفط أن تخفض الدخل القومي.
• التأثير الثاني ينشأ من حقيقة أن الإنفاق على الحرب لا يحفز الاقتصاد الأمريكي على المدى القصير بقدر ما يفعله الإنفاق، مثلاً، على البنية النحتية أو التعليم الذي توجد حاجة ماسة إليه في الولايات المتحدة.
• التأثير الثالث هو أن الإنفاق على الحرب، بشكل مباشر وغير مباشر على السواء، عبر العجز المتزايد، يحجب الاستثمارات التي كانت ستزيد إنتاجية أمريكا في المستقبل.
• التأثير الرابع أدى ارتفاع الدين القومي الناجم عن الحرب الى اقتراض المزيد والمزيد من الأموال من خارج الولايات المتحدة، ما يجعلها الآن مدينة للآخرين أكثر بكثير مما كانت قبل خمس سنوات. وسيدفع الأمريكيون، والجيل القادم منهم، فائدة على هذا الدين. ولا يعني اقتراض المزيد بدلاً من دفع الفاتورات المستحقة سوى تأجيل دفع فاتورات الحرب. وسيؤدي دفع هذه الفاتورات إلى خفض مستوى معيشة الأمريكيين بالمقارنة مع ما كان سيكون عليه. وهي نتيجة قاسية بشكل خاص إذا أخذنا بالاعتبار ان متوسط دخل المواطن الأمريكي اليوم هو اقل مما كان عليه قبل خمس سنوات.
لذا لم يكن مفاجئاً انه عندما احتاجت مؤسستان ماليتان كبيرتان في أمريكا، هما "سيتي بانك" و"ميريل لينتش"، إلى المال بسرعة مؤخراً، لم تكن هناك سيولة مالية كافية في أمريكا. فقد أدت أسعار النفط المرتفعة والمدخرات المرتفعة في الصين وأماكن أخرى إلى تمركز هائل للثروة خارج الولايات المتحدة، ما اضطر المؤسسات المالية الأمريكية إلى التوجه إلى تلك المراكز(تحديث هناك كارثة مالية تمر بها الولايات المتحدة تسمى أزمة الرهن العقاري)
أسباب القوة الظاهرية للاقتصاد
حتى وقت قريب، بدا مثيراً للاستغراب بالنسبة إلى البعض انه بالرغم من الطريقة الواضحة التي تؤدي بها حرب العراق إلى إضعاف الاقتصار الأمريكي، فان هذا الاقتصاد بدا قوياً. فهل كان ذلك يعني أن هناك شيئاً ما يؤكد صواب تلك المقولة القديمة بأن الحروب نافعة للاقتصاد؟ الجواب
هو أن نقاط الضعف هذه جرى إخفاؤها، بالضبط كما جرى إخفاء الكثير من الكلف الأخرى للحرب بحيث انه لا يمكن رؤيتها بسهولة. فقد جرى إخفاء التأثيرات الاقتصادية الإجمالية عبر سياسة نقدية فضفاضة، وتدفق للسيولة, وضوابط متهاونة. وسمح ذلك لمعدل مدخرات الأسرة الأمريكية بالتدني إلى الصفر، لتبلغ أدنى مستوياتها منذ "الركود الكبير" (في أواخر عشرينات القرن الماضي)، وساهم بزيادة فورة استهلاكية غير مسئولة عبر تشجيع سحب مئات مليارات الدولارات كقروض عقارية. وساعد ذلك، لفترة من الوقت، على أخفاء الكلفة الحقيقية للحرب(ملاحظة (2) أعلاه).
وهذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها إدارة أمريكية حشد الدعم والتأييد لحرب لا تحظى بشعبية بإخفاء الكلف الحقيقية والكلية عن الشعب الأمريكي. كما أنها ليست المرة الأولى التي تعاني فيها أمريكا والشعب الأمريكي جراء ذلك. ففترة التضخم التي مرت بها أمريكا ابتداءً من أواخر ستينات القرن الماضي كانت، جزئياً على الأقل، نتيجة لفشل الرئيس الأسبق جونسون في التعامل كما يجب مع كلف حرب فيتنام وأجراء تعديلات مناسبة في الضرائب والإنفاق. وإذ يبدو أن الوضع الاقتصادي مختلف هذه المرة، وبالتالي فان النتائج الناجمة عن الحرب وتأثيراتها مختلفة، لكنها من نواح كثيرة أكثر حدة.
آثار بعيدة المدى
ليس معروفاً كم سيدوم التراجع أو الانكماش الحالي في الاقتصاد الأمريكي، أو مدى عمقه، لكن المرجح أن يكون أسوأ من أي تراجع مماثل في ربع القرن الأخير، وستكون كلفته هائلة. وحتى إذا بلغ معدل النمو هذه السنة 0¡8 في المئة (حسب توقعات صندوق النقد الدولي)، وبدأ النمو يسترد عافيته السنة المقبلة ليصل إلى 2 في المئة، ويعود في 2010 إلى نمو بنسبة 3¡5 في المئة مثلاً (وهي وتيرة تحسن أسرع مما يتوقع معظم المحللين)، فان الخسارة الإجمالية في الناتج على مدى هذه السنوات الثلاث (إي الفرق بين الناتج الفعلي للاقتصاد وقدرته) ستبلغ حوالي 1¡5 تريليون دولار (أي 1500 مليار دولار)
وفي كل الأحوال، مهما كان غنى أمريكا فأنها لا يمكن إن تهدر 3 تريليونات دولار دون ان يؤثر ذلك على قوتها ويضعف مكانتها على الصعيد العالمي، ويحد من قدرتها على خوض حروب عسكرية متزامنة عبر البحار، وبمستوى حربها في العراق. وإذا بقيت القوات الأمريكية في العراق سنتين اخريتين، فان ذلك سيضيف 500 مليار دولار على الأقل إلى الكلفة الكلية للحرب. ولا بد لكلف الحرب وتأثيرها على الاقتصاد أن تترك آثاراً بعيدة على مجالات حيوية تمس حياة المواطن الأمريكي، مثل الرعاية الطبية ونظام الضمان الاجتماعي والتعليم. (حسب الباحثة الاقتصادية الأمريكية بيلمس فان مبلغ تريليون دولار يمكن ان يغطي توظيف 15 مليون مدرس في المدارس الحكومية، أو تقديم منح دراسية كاملة لأربع سنوات لـ43 مليون طالب أمريكي في الجامعات الحكومية). وسيؤثر خفض الاستثمار المطلوب في التكنولوجيات والعلوم من القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي. بالمقابل، كان الرابح الأكبر في أمريكا من حرب العراق هو الشركات الكبرى (مثل "هاليبرتون" التي احتكرت عقود إمداد وتموين القوات الأمريكية)، والمجمع الصناعي العسكري، وشركات النفط.
وهناك دراسة - أعدها (إيرك ليفر) و (فيلس بينز)، وأشرف عليها معهد الدراسات السياسية بواشنطن – تبين تفاوت الآراء وتباين الأرقام حول الخسائر البشرية الأمريكية في العراق، حيث يتحاشى المسئولون الأمريكيون إعطاء تقديرات دقيقة عن التكلفة المالية لتلك الحرب؛ فما هي التكلفة الحقيقية التي تقع على كاهل دافعي الضرائب الأمريكيين جراء الحرب في العراق؛ وهل تقتصر الأرقام على التكلفة المالية المباشرة، أم أنها تتضمن أيضاً التكلفة غير المباشرة على الاقتصاد والسكان؟
بالرغم من أن هذه المسالة لم تثر حتى الآن على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن تقريرين مهمين نشرا مؤخراً، من المرجح أن يدفعا بمسألة تكاليف الحرب إلى معترك النقاش في أوساط الرأي العام، فقد كشفت دراسة - أعدها (إيرك ليفر) و (فيلس بينز)، وأشرف عليها معهد الدراسات السياسية بواشنطن - أن الكونغرس الأمريكي قد صادق حتى الآن على أربع دفعات مالية لتغطية نفقات الحرب على العراق، تبلغ في مجملها 4ر204 مليارات من الدولارات، ويدرس حالياً إمكانية المصادقة على تمويل إضافي بمبلغ 3ر45 مليار دولار لتغطية تكاليف العمليات، إلى حين المصادقة على دفعة تكميلية يرجح دفعها في ربيع عام 2006م.
وقد أنفقت الولايات المتحدة حتى الآن مبلغ 251 مليار دولار نقداً على العمليات القتالية في العراق منذ بدء الحرب، ومازالت تمول الحرب بتكلفة قدرها 6 مليارات من الدولارات شهرياً. وكان (لورانس ليندسي) - الخبير الاقتصادي سابقاً بالبيت الأبيض - قد قدر تكاليف الحرب في مرحلة الاستعداد لها، على أنها ستكلف 200 مليار دولار، إلا أن مسؤولين آخرين بالإدارة الأمريكية رفضوا تلك التقديرات في حينها قائلين إنها تقديرات تتسم بالمبالغة.
وبقسمة تكاليف الحرب - حتى الآن - على عدد سكان الولايات المتحدة، يتضح أن كل دافع ضرائب أمريكي قد تكلف حتى الآن مبلغ 727 دولاراً، مما يجعل الحرب في العراق أكثر الحروب تكلفة خلال ال 60 عاماً الماضية.
وكشفت الدراسة - التي أشرنا إليها آنفاً - أنه منذ بدء الحرب تم استدعاء 000ر210 جندي من قوات الحرس الوطني الأمريكي من أصل 000ر330 جندي. وكانت دراسات حكومية سابقة قد أشارت إلى أن استدعاء نصف قوات الاحتياط والحرس الوطني تقريباً يحدث خسارة في الدخل عند استدعائهم للخدمة. ومن بين الذين تم استدعاؤهم حوالي 000ر30 من أصحاب الأعمال التجارية الصغيرة فقط.
ولم تقتصر عمليات الانتشار لفترات طويلة وضغوط الحرب على الجنود فقط، وإنما امتدت للحياة الأسرية. ففي عام 2004م بلغت حالات الطلاق بين زيجات ضباط الجيش 325ر3 حالة طلاق، بزيادة 78% من حالات الطلاق في عام 2003م عند بدء الاحتلال الأمريكي للعراق، وثلاثة
ــــــــــــــ
(*) نشره مركز صقر وموجود في الموقع الإلكتروني للمركز.