قالوا عن معركة كرري
في كتابه (حرب النهر) سمى ونستون تشرشل معركة كرري بالمعركة بين الإسلام والمدنية. وهو يقصد بخبثه وصليبيته المستترة أن معركة كرري كانت آخر معركة بين الإسلام والحضارة الغربية ونهايتها يندحر المسلمون إلى الأبد. وقد كذبت دعوى هذا الذعي، فما أكثر ما اتصلت المعارك بين الإسلام والغرب منذئذ، وهام أحفاده من شاكلة صمويل هنتنجتون ينظرون لحرب حضارات كبرى بين الإسلام والغرب تقع حاليا وفي الدهر القادم الوشيك.
ولكن مهما يكن فتسمية تشرشل لمعركة كرري أنها كانت معركة بين الإسلام والمدنية تستحق منا بعض التأمل, وربما استحقت أن تصبح منظوراً علمياً لتحليل تاريخ معركة كرري, وتاريخ الثورة المهدية, وتاريخ الحركات الإسلامية التي عاصرتها وتلتها.
إعجاب تشرشل بالحركة الإسلامية السودانية:
أفاض تشرشل في الثناء على الحركة الجهادية الإسلامية السودانية, التي قادها الإمام محمد أحمد المهدي، كما نظر نظرة إعجاب شديدة إلى انجازات تلك الحركة, مؤكداً أنها أنجزت كل ما كان بإمكانها أن تنجزه, وانجرَّ بعد ذلك إلى حيز المبالغة, عندما زعم بأن إنجازات المهدي في حياته, كانت أكثر من انجازات محمد، صلى الله عليه وسلم، في حياته, وقال إن الخليفة عبدالله عندما انهزم بجيشه في كرري، فإنه انهزم فقط لأنه واجه آلة علمية هائلة, من آلات الحضارة الغربية, وليس لأي سبب آخر.
شارك الضابط والصحفي ونستون تشرشل – الذي قدّر له فيما بعد أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا- في الحملة الإنجليزية التي قادها اللورد كتشنر لسحق الثورة الإسلامية. وكان الصحفي تشرشل، بجانب الاستخباراتي ونجت، من الأفراد القلائل في الغرب الذين أدركوا سرّ تلك الثورة, وسبب نجاحاتها المتواصلة في تجييش السودانيين ودحر الأجانب.
غموض الأوضاع السودانية آنذاك:
وفي تلك الإبان, خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر, مرت سياسة بريطانيا تجاه السودان بعدة مراحل اكتنفها الغموض والخطر البالغ:
*ففيما بين 1880- 1882 م تجاهلت بريطانيا السودان, رغم أن غردون كان يرابط في الخرطوم, وينتظر مصيره على يد المجاهدين.
* وفيما بعد 1882 م أي عقب انتصار الجيش البريطاني على الثائر المجاهد أحمد عرابي في معركة التل الكبير، اكتشف الانجليز خطورة الأحوال السياسية السودانية. وفي 2/10/1882 م اقترح السير شارلس ولسون، الذي عمل فيما بعد مستشارًا للجيش البريطاني في مصر، إرسال ضابطين بريطانيين إلى السودان بغرض بجمع معلومات محددة واقتراح سياسة معينة تجاه الثورة السودانية .
* في يونيو 1885 م سقطت حكومة جلادستون لأنها عجزت عن تكوين فكرة واضحة عما يجري في السودان، وجاءت وزارة جديدة مصممة على التدخل في السودان وذلك بعد أن استطاعت أن تكون جيشاً تتراوح أعداد افراده ما بين 80 الف إلى 150 ألفا. ومجرد النجاح في تجنيد ذلك العدد الكبير من الأفراد حسب بمثابة خطر جدي يهدد الاحتلال الانجليزي لمصر.
استخدام الخونة المسلمين:
و إزاء ذلك تم تصميم سياسة التدخل العسكري لسحق الثورة الإسلامية السودانية, وتكون الجيش الغازي بقيادة السردار كتشنر من 8,200 جندي بريطاني, و 17,600 جندي مصري وسوداني. أي أن قرابة ضعف عدد الجنود الإنجليز جاء من الخونة المسلمين
قطع ذلك الجيش الطريق من مصر إلى أن وصل إلى الشلال السادس, على بعد 35 ميلاً من أم درمان، وكانت فرق ال(قوات الصديقة) المكونة من 2,500 جندي من السودانيين تسير موازية لجيش الغزو على الضفة الشرقية من النيل، لتمهد الطريق, ولتتلقى الضربات الأولى. كما تقتضي دائما خطط الأعداء الكفرة الذين يستخدمون أبناء السلمين ضد المسلمين. وقد قاد أولئك المرتزقة السودانيين (المسلمين) الميجور ستيوارت ورشلي.
وكان التخطيط الأولى للحملة يقتضي حماية كل الأرواح الانجليزية حماية مطلقة، وألا يتعرض للموت إلا الجنود المصريون و السودانيون الملتحقون بالجيش الانجليزي, غير أن تقارير مخابرات الحملة الإنجليزية أوردت أن الخليفة عبدالله ينوي مهاجمة الجيش الزاحف في بربر.
وهنا قرر كتشنر أن الأمر يتطلب إدخال الجيش الانجليزي في المواجهة، وهذا ما لم يكن مسموحاً له به, فاتصل باللورد كرومر في مصر حتى يستصدر له إذناً خاصاً بذلك واتصل كرومر بسالزبوري رئيس الوزراء البريطاني حينئذٍ ليقوم بتلك المهمة. واستطاع الأخير أن يستصدر قراراً من مجلس الوزراء يسمح باستخدام الجيش الانجليزي, ولكن فقط في حالة استشعار خطر قاهر لا تستطيع القوات المصرية السودانية أن تتصدى له.
غفلة القيادة الإسلامية:
هذا الخطر الذي كان يتحسب له ونجت، رئيس الاستخبارات، لم يتحقق، لأن الخليفة عبد الله لم يقرر أن يهاجم الجيش الإنجليزي، ولم يوجه محمود ود أحمد لمواجهة الإنجليز، فاستجمع كتشنر زمام المبادرة بكامله في يده، وقضى على ثلاثة آلاف من جيش محمود ود أحمد في معركة عطبرة في 8/4/1898م ،فانفتح الطريق فسيحا إلى أم درمان.
وكانت دهشة كتشنر وونجت بالغة عندما وجدا منطقة الشلال السادس خالية ولا يوجد فيها أي أثر للجيش السوداني بقيادة الخليفة. ولو كمن الجيش الإسلامي هناك، لأنزل إصابات عظمى بجيش الغزو.
وهنا يردد المؤرخون قصة مفادها أن رؤية منامية سرت أخبارها بين الجيش الإسلامي، تقول بأنهم موعودون بذبح الغزاة على تلال جبل كرري، ولذلك تركوا تلك المنطقة الإستراتيجية، التي كانت خير مكان يباغتون فيه عدوهم، وفضلوا أن ينازلوه على سفح مكشوف، وقد كانت تلك العقلية الخرافية التي أصيب بها المسلمون، ولا يزالون بها مصابين، سببا في تقليل إصابات الجيش الإنجليزي بشكل مذهل
معركة الساعات الخمس:
ومهما يكن فقد التقى جيش البطولات الإسلامي، بالجيش الغزي في اليوم الثاني من سبتمبر، عند الساعة السادسة صباحا، وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من ذلك الصباح انجلت المعركة باستشهاد ثلاثة وخمسين وستمائة وعشرة آلاف من قادة وجنود الجيش الإسلامي، وأصيب بجراح نحو ذلك العدد، وذهب خمسة آلاف في الأسر. وقام الجيش الإنجليزي، الذي كان يمثل عهد المدنية، كما ادعى تشرشل، بإبادة عدد كبير من الجرحى بدعوى أن بعضهم كان يقاتل حتى وهو مثخن بالجراح.
وأما الخسائر على جانب جيش الغزو فقد كانت كالآتي: مقتل ثلاثة ضباط إنجليز، وخمسة وعشرين جنديا، وجرح سبعة عشر ضابطا إنجليزيا، وبضعة مئات من جنودهم.
وقبل الساعة العاشرة صباحا، أي قبل توقف القتال، أرسل كتشنر إلى رؤسائه تلغرافا يعلن نتيجة المعركة، ثم أخلد إلى النوم في خيمته.
شجاعة الجيش الإسلامي السوداني:
هكذا انتهت المعركة كما يرويها أحد الذين اشتركوا فيها، وهو بيير كريبيتي، مؤلف كتاب (كسب السودان)، الصادر في عام 1934م. وقبل أن نمضي في استخاص بعض النائج، يلزمنا أن نستعرض أقوال بعض من شهدوا المعركة، من أفراد جيش الغزو، متحدثين عن شجاعة أفراد الجيش الإسلامي.
يقول مؤلف الكتاب الذي سلفت الإشارة إليه:" إن جيش الغزو فتح نيرانه على الجيش الإسلامي من على بعد سبعمائة وألفي ياردة، وفي خلال ظرف وجيز حُصدت القوات التي قادها عثمان أزرق، بواسطة قذائف الرصاص، ولكنهم كانوا صناديد، نظروا إلى الموت في وجهه، ولم يتراجعوا قط وقاتلوا مثلما قاتلوا في معاركهم السابقة كالأسود.
ويقول صاحب كتاب (حياة كتشنر)عن الجند الإسلامي:" كانوا كلما سقط منهم مائة، انطلق مائة آخرون فحلوا محلهم، وتقدموا بشجاعة لائقة، ولم يأبهوا بقوة النيران ولا كثافة انطلاقها، ولم يتوقفوا ليلتقطوا بعض الأنفاس، وما زالوا يتقدمون حتى أصبحوا على بعد ثلاثمائة ياردة فقط من المنطقة التي تمركزت فيها وحدة السودانيين (المرتزقة) المرافقين لجيش الغزو، وهي الوحدة التي تم وضعها في المقدمة لتتلقى أول نيران الجيش الإسلامي".
ويقول المؤلف السابق إنه:" كلما اقترب أولئك من مرمى النيران، كلما تحولت صفوفهم إلى أشلاء، بأثر النيران الشنعاء، ولم تلبث جثثهم أن صارت أكداسا وركاما. ففي خلال أربعين دقيقة من بدء القتال كان أكثر من ألفين من أفراد الجيش الإسلامي، بما فيهم عثمان أزرق نفسه قد قتلوا، ولكن بقيتهم كانت لا تزال تواصل القتال".
ويقول جورج وارنجتون ستيفنز، في كتابه (مع كتشنر إلى الخرطوم) وهو يوازن بين أداء الجيش الإسلامي وجيش الكفر :" إن شرف القتال يجب أن يسدى إلى أولئك الذين حصدهم الجيش الإنجليزي. لقد كان رجالنا ممتازين حقا. ولكن كان أولئك بدرجة استثنائية تفوق درجة الامتياز. فقد كانوا أكبر وأفضل وأشجع جيش قابلنا على الإطلاق".
ويقول ج. دنكان، صاحب كتاب (السودان: سجل الإنجازات) يصف لحظة اندلاع المعركة:" إن أفراد الجيش الإسلامي اندعوا رجالا وركبانا، في كتلة عرضها خمسة أميال، نحو مكان إطلاق النيران، مهللين مكبرين، في حماسة منقطعة المصير، وكان أفراد الجيش الإنجليزي صامتين مربصين، وما لبثوا أن أطلقوا نيرانهم، من على بعد ثمانمائة وألفي ياردة.
ولابد أن يون أولئك الذين أطلقوا النيران قد أصابهم الرعب الشديد، لكثرة ما أوقعوا من القتلى وسط المسلمين، الذين كانوا لا يكفون عن الاندفاع، وكانت القذائف تتساقط بكثافة فوق رؤوسهم، ولا تلبث أن تصنع فجوات ضخمة وسط صفوفهم، مثل حقل قمح أعمل صاحبه آلات الحش الهائلة في وسطه وفي أطرافه. كانوا يتساقطون وتتساقط مطاياهم وراياتهم وأسلحتهم الصغيرة. وبعد أربع ساعات انتهى أمرهم تماما".
أما كتاب ( حملة السودان:1996ـ1998م) الذي كتبه أحد ضباط الحملة فهو يصف المعركة كالتالي:" لقد كان المشهد باهرا إلى حد بعيد. فعندما سطعت أشعة الشمس على تلك الأرض المنبسطة التي تكتنفها الكثبان، بدت جموع رجال لا تعرف قلوبهم الخوف، يلبسون الجبب المرقعة الألوان، وتخفق فوق رؤوسهم أعلام لا تحصى، ويتقدمهم فرسان مخاطرون، يندفعون بثقة متناهية بالنصر، وازدراء مطلق بالموت".
هكذا كان أولئك الرجال من الطراز الجهادي الأول. وهذه مجرد أقوال عنهم جمعتها عشوائيا مما تساقط بين يدي من المراجع. وهي أقوال يستحق أن تحفظ غيبا. ودلالاتها أكثر من قاطعة على أن الجيش الإسلامي السوداني لم تكن تنقصه أي من متطلبات التربية الإيمانية، ولا فضائل الإخلاص، والتجرد، والحماسة، والفناء في المثل العليا. وقد صنع الإسلام أمثلة كهذه كثيرة شوهدت في أكثر من قطر إسلامي.
انبثاق متغير آخر:
ولكن تحولات ذلك العصر وانبثاق الثورة الصناعية في الغرب، أضاف على عاتق المسلمين عبئا آخر، هو عبء مجابهة الغرب بوسائله من أجل تحقيق النصر والانعتاق، وإلا انكسرت حركات المقاومة مهما أبلت أحسن البلاء، ولم يكن بعد بلاء رجال الحركة الإسلامية السودانية في القرن الماضي أي بلاء، وذلك باعتراف أئمة الكفر الذين نقلنا عنهم ما مضى من شهادات.
وتبقى العبرة أن مجابهة المسلمين للغرب بمحض الحماسة والإخلاص لم تكن لتضمن لهم الانتصار. فقد انضاف بعد حضاري صناعي كبير للصراع، ولذا لم يكن مصير أبطال الحركة الإسلامية السودانية في كرري، إلا من جنس مصير الأمم الأخرى التي سبق أن واجهت المدفع الإنجليزي (المكسيم) في يوغندة، وتنجانيقة، وساحل الذهب، وجنوب إفريقية، ونيجيرية، ومصر.
لقد زادت الثورة الصناعية من حجم الفوارق، من حيث الثروة والقوة، بشكل سحيق، ما بين الدول الأوروبية والدول الإفريقية. وأصبحت الفوارق الناجمة عن ذلك النمو غير المتوازن، (مؤسسية) دائمة قامت عليها قواعد البناء الاقتصادي الرأسمالي العالمي، الذي ساد وغدا بمنزلة القيادة العليا التي تتحكم في العالم بأكمله، وحكمت بأن تظل البلدان الفقيرة فقيرة إلى الأبد والبلدان الغنية غنية إلى الأبد.
العامل الاقتصادي كان أهم من العامل الديني:
وبغير تقليل من وزن الجانب الديني في الصراع، ومن دون نفي لوجود أحقاد صليبية عدائية من جهة الغرب، إلا أن الدوافع الأصيلة في اعتداء الغرب على بلادنا، كانت اقتصادية في المقام الأول. حيث كانت الثورة الصناعية وما استلزمته من التمدد الإمبريالي، الذي سمي بالاستعمار، هي سبب ذلك العدوان.
والآن فبغير منازلة الغرب في مجال العلم، والصناعة، والسجال الحضاري، والجد في محاولة اجتياحه سلميا في معاقله بالدعوة الإسلامية، وهذا أمر تهيأ أخيرا مع تلاحق أمواج العولمة، وسهولة الاتصال عبر الإنترنيت وغيرها، فيصعب كثيرا التغلب عليه.
ولا يكفي في صراع حيوي طويل الأمد كهذا الاقتصار على الأسلحة المعنوية كأسلحة الشجاعة والتجرد والإخلاص التي حارب بها أجدادنا في كرري ففشلوا، وهي ذاتها الأسلحة التي يكاد يقتصر على استخدامها على إثرهم المتحمسون، بلا فقه ولا استبصار، من أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة، الذين ينحرون أنفسهم بصراعهم المكشوف مع مجرمي الغرب.
المصدر