كيف صمد الإقتصاد التونسي سنة 2012 بقلم : عادل السمعلي
كاتب تونسي ومحلل إقتصادي
مع نهاية سنة 2012 ونحن على مشارف سنة 2013 يحق لنا الآن طرح بعض الأسئلة المالية و الإقتصادية المهمة : كيف صمد الإقتصاد التونسي طيلة سنة 2012 ؟ لماذا لم ينهار الإقتصاد حتى الآن كما بشر بذلك بعض خبراء الشاشات والفضائيات ؟ و كيف تمكن الإقتصاد التونسي من الصمود طيلة هذه السنة ولم يحدث له الإنهيار والسقوط الذي أكده البعض واثقا وهو يكاد يحلف بأغلظ الأيمان لنصدقه ؟
إن
طرح هذه الأسئلة والإستفهامات ليس غريبا ولا عجيبا بل وجيها ومنهجيا لأنه
من تابع بدقة الحملة المتواصلة و المنهجية التي شنت على الإقتصاد التونسي طوال سنة 2012 يعجب لأمره وقدرته على الصمود والتماسك وسط الرياح الهوجاء والأعاصير القوية وليس هناك تونسي
على وجه الأرض لم يسمع بمقولة (الاقتصاد داخل في حيط ) حتى أنها أصبحت
قولة مأثورة تتداولها ألسن الناس رجالا ونساءا ...شبابا وكهولا ..مختصين في
الإقتصاد ومدعين للإختصاص ... و أولت له المنابر الإذاعية والتلفزية
والجرائد الورقية والإلكترونية حيزا مكانيا وزمنيا معتبرا و ذلك بقطع النظر
عن مسألة صناعة الإعلام لخبراء إقتصاد وهميين التي تعرضنا لها في مقالات
سابقة والتي تهم تعمد الإعلام إستضافة وجوه مسيسة لا ناقة لها ولا جمل في
علم الإقتصاد فإن المسألة الإقتصادية ومعالجتها المبكرة هي مسألة حياتية
وضرورة حارقة
إن بوادر المؤشرات الإقتصادية الأولية لسنة 2012 تؤكد
تحقيق نسبة نمو تقارب 3.5 % من الناتج القومي الخام وهذا المؤشر يعتبر
إيجابيا جدا في ظروف إقليمية وعالمية صعبة و متأزمة وعرفت تراجع المؤشرات
الاقتصادية لمعظم دول العالم وخاصة الدول الصناعية الكبرى وربما يرجع ذلك
لبنية الإقتصاد التونسي ونسيجه فالإقتصاد التونسي
إقتصاد متنوع الأضلاع ويتميز بالتنوع والمرونة فهو يرتكز على أربع قطاعات
رئيسية : السياحة والفلاحة والصناعات التحويلية وقطاع الخدمات وقد عرفت هذه
القطاعات نموا وإستقرار مطردا تجاهلته أغلب وسائل الإعلام في خضم العراك
الايديولوجي المقيت والخصام السياسي المرضي بل إن بعض المؤشرات الايجابية
والعادية تم تناولها إعلاميا بطريقة كارثية تكشف عملية الجهل والتجهيل
والتضليل الذي يمارسه علينا إعلام فقد بوصلته منذ هروب المخلوع إضافة للضعف
الفادح للنخب في تكوينهم الإقتصادي
إن النخب التونسية
وخاصة السياسية منها تشكو من جهل مبين في المسألة الاقتصادية وهذا ليس
عيبا في حد ذاته إذا عرفوا محدوديتهم و تمت إستشارة أصحاب الشأن الاقتصادي
والمالي والرجوع لأهل الذكر ولكن العيب كل العيب أن نسمع من سياسيين تونسيين
وعلى منابر المجلس التأسيسي وفي الفضائيات تحاليل إقتصادية ومالية في غاية
الهزال حتى لا نقول أنها في غاية الحمق والغباء ويكفي أن أشير هنا لذلك
النائب المحترم الذي قدم أخيرا مداخلة عكاظية خلال مناقشة ميزانية الدولة
حول الوضع الاقتصادي وهو أجهل من حمار أهله ( هذه ليست شتيمة بل مثل عربي
مأثور) ... فصاحبنا النائب حين دق ناقوس الخطر و أطلق صيحة فزع مكذوبة عن
تجاوز الديون الخارجية لحدها الأقصى وبشر المستمعين بدخول الإستعمار من
جديد وإرتهان القرار الوطني للتمويلات الأجنبية لأن نسبة الديون الخارجية
بلغت نسبة 47% يجهل تمام الجهل أن هذا المؤشر الإقتصادي لا معنى مفردا له
بدون مقارنتها بمعطيات ومؤشرات إقتصادية أخرى متممة له ومفسرة لمدى وجاهته
من مثل إحتياطي العملة الأجنبية ونسبة تغطية الواردات للصادرات وغيرها من
المؤشرات والمعايير المعتمدة دوليا وهو لا يعلم أن التقديرات المستقبلية
للهيئات المالية العالمية تشير إلى إرتفاع في نسبة الديون الخارجية التونسية الى حدود 55% من الناتج القومي الخام في حدود سنة 2017
فماذا
سيقول صاحبنا لو سمع بهذه التقديرات يا ترى ؟ ربما سيصاب بجلطة قلبية أو
دماغية في أروقة البرلمان ؟ هذا إن وجد من ينتخبه ويوصله للبرلمان مرة أخرى
.
إن
صاحبنا النائب المعروف بأنه جهبذ في اللغة العربية يهرف بما لا يعرف في
علم الإقتصاد ويستعرض في عضلات هزيلة كان من الأولى أن يخفيها مخافة
الإستهزاء به والسخرية منه خاصة إذا علمنا أن نسبة الديون الخارجية بلغت
103% في أمريكا( منتصف 2012) و 400% في بريطانيا و ألمانيا 142% وفرنسا 182% وإيطاليا 108% وإسبانيا 154% وقطر 55% ( معطيات سنة 2010) وأكتفي بهذا القدر لكي لا أخجل النائب المحترم عن نفسه
وما
يثير الريبة والدهشة ليس تدخل هذا النائب الخارج عن الموضوع بل تبعه في
نفس اليوم تدخل مزري لنائب آخر أصبح نجم شباك الشاشة خلال الأيام الماضية
يحتج فيه على موجات إذاعة محلية على إحتساب التمويلات الخارجية ضمن إحتياطي
العملة الصعبة وكأنه لم يعجبه ولم يستسغ إرتفاع الإحتياطي التونسي
من العملة الصعبة من 93 يوم من الواردات الى مستوى 115 يوم من الواردات
وكأن المعايير الدولية المعترف بها في إحتساب المؤشرات والتوازنات
الاقتصادية الكبرى يجب أن تخضع لأهواء ومزايدات بعض السياسيين الذين لا
يتوفر لهم الحد الأدنى المطلوب في المعرفة الإقتصادية .
إن سماعي
ومشاهدتي لهذه التدخلات العشوائية لبعض نواب الشعب أكدت لي بما لا يدع
مجالا للشك أن نسبة كبيرة من نوابنا المحترمين بحاجة إلى دورة تكوينية
سريعة وعاجلة لمحو الأمية الإقتصادية التي يعانون منها ولعل رئيس المجلس
التأسيسي الدكتور مصطفى بن جعفر أو نائبته الأستاذة محرزية العبيدي يفكران
بجدية في هذا الأمر لإيقاف المهازل التي تدخل بيوتنا بدون إستئذان .
إن
إرتهان القرار السيادي ليس مأتاه الديون الخارجية بقدر ما هو نتاج لبنية
الإقتصاد ولثقافة الإستهلاك والتواكل ... شعب يأكل أكثر مما ينتج ....
ويطالب بزيادة الأجور دون أن يعمل .... ألم يهتف أحدهم ذات يوم من سنة 2012
( نحبو الشهاري والقعدة في القهاوي )
إن تواتر الإضرابات العشوائية
والإعتصامات العبثية طيلة سنة 2012 لم تمنع الإقتصاد من تحقيق نسبة نمو
إيجابية تقترب من 3.5 % ولكن هذا المعطى لن يمنعنا من التأكيد على أن هذه
الحركات الإحتجاجية الذي إتسم بعضها بالمشروعية الإجتماعية والبعض الآخر
بالعشوائية الفوضوية قد أضرت بالإقتصاد التونسي ضررا كبيرا وحرمته على الأقل من نسبة نمو إضافية تقدريها يتراوح بين 0.5% و 1% من الناتج الخام فالإقتصاد التونسي
كان مؤهلا لتحقيق نسبة نمو حقيقية لا تقل عن 4.5% لسنة 2012 ولكن رب ضارة
نافعة فالانتقال من وضع ديكتاتوي إستبدادي إلى وضع ديمقراطي تشاركي لا بد
له من ثمن وهذا الثمن لا بد أن يكون في حدود معقولة ولا يؤدي لكوارث
إقتصادية غير محمودة العواقب .
إن الزيادات في الأجور- قلتها سابقا
وأعيدها - التي بدأتها حكومة السيبسي وواصلت على نسقها حكومة الترويكا هي
زيادات غير متزامنة مع إرتفاعات في الإنتاج فهي بالتالي مضرة بالإقتصاد
وتساهم بصفة مباشرة في تآكل المقدرة الشرائية فمن يطالب اليوم محتجا وغاضبا
بالزيادات في الأجور دون أن ينتج لا يحق له غدا التباكي على غلاء وشطط
الأسعار فالوضع الحالي في أمس الحاجة لتجميد الأجور وزيادة الإنتاج وإيقاف
الاضرابات العشوائية المسيسة
إن صمود الاقتصاد التونسي
هذه السنة وخروجه المتدرج من عنق الزجاجة لا يعني بتاتا أننا جاوزنا مرحلة
الخطر .. فالحذر الحذر .. ثم أعيدها الحذر الحذر يا أهل بلدي فكل المعطيات
والمؤشرات المحلية والإقليمية والدولية تؤكد أن السنوات القادمة إبتداءا
من سنة 2013 ستكون حسب تقديرنا من أصعب السنوات الذي سيعيشها الإقتصاد التونسي
منذ الإستقلال الأول على الإطلاق فالإقتصاد الأوروبي يعيش أزمة خانقة منذ
أربع سنوات لا ندري متى يتعافى منها والإقتصاد الأمريكي يعيش حاليا أتعس
أيامه منذ أزمة وول ستريت 1929 وذلك لن ينزل بردا وسلاما على الإقتصاد التونس بل سيعاني لا محالة من فترات شديدة و عصيبة في السنوات القادمة
فمن
المنتظر إلإرتفاع المشط في التضخم المالي وفي الديون الخارجية وفي عجز
موازنات الدولة والحكمة وحدها والروية والأناة والعقلانية في إتخاذ
القرارات الاستراتيجية وحدها كفيلة بتحقيق النجاة من وضع معقد ومتشابك
الخيوط والتحديات ولا بد من الوقوف وقفة رجل واحد وسط الأعاصير الإقتصادية
القادمة
إن تونس
تزخز والحمد لله بإطارات وخبرات وطنية و عالية الكفاءة تحسدنا عليها دول
أخرى وبعيدا عن التجاذبات والمماحكات والمزايدات السياسية لا نجد حرجا في
تسميتها فمصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي السابق وخبير البنك
الدولي و حسين الديماسي وزير المالية السابق والشاذلي العياري محافظ البنك
المركزي الحالي وكذلك الأستاذ محمد المنصف شيخ روحو وأسماء أخرى لا
أستحضرها هم من خيرة ما أنجبت أرض تونس من الكفاءات الاقتصادية والبنكية والمالية فأتركوا الخلافات السياسية جانبا وساهموا في إنقاذ إقتصاد بلادكم ومستقبل أولادكم
-----------------------------------------
لمزيد الفهم والتعمق راجعوا مقالاتنا المنشورة في مواقع تونسية وعربية :
1- لا مجال لإعادة جدولة الديون الخارجية
2- كيف نستطيع القطع مع التداين الخارجي في منوال التنمية
3- إشكاليات التناول الإعلامي للمسألة الاقتصادية في تونس
4- خفايا إستبعاد تونس من تقرير دافوس الاقتصادي
5- برنامج تعطيل المسار الديمقراطي بضرب الاقتصاد التونسي
تونس : صناعة خبراء إقتصاد وهميين
المصدر