شكّل انتصار جيش التحرير الوطني في معركة "جبل واسطة" بقيادة الرّائد الطّاهر زبيري ضربة قوية للجيش الفرنسي الذي حاول تبرير هذه الهزيمة المذّلة التي قتل له فيها 17 عسكريا ووقع 5 آخرين في الأسر، باتهام الحرس الوطني التونسي بمساندة جيش التحرير في هذه المعركة وهو ما استُغل كذريعة لقصف قرية "ساقية سيدي يوسف" التونسية معتبرا بأنّها مركز لجيش التحرير في الأراضي التونسية، غير أنّ زيارة العديد من الوفود الدبلوماسية والإعلامية لمكان الجريمة فضح كذب الإدعاءات الفرنسية ومدى وحشية هذه القوات التي استهدفت المدنيين العزل
كسبت القضية الجزائرية تعاطف الرأي العام الدولي، في الوقت الذي توالت الهزائم الدبلوماسية الفرنسية على عدة مستويات، وتدخلت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية لتخفيف حدة الأزمة بين تونس وفرنسا، كما سعى الصليب الأحمر الدولي إلى التوسط لإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين لدى جيش التحرير، وهو ما وضع الجيش الفرنسي برمته في موقف ضعف وجعل الفرنسيين يعترفون ضمنيا بجبهة التحرير كممثل وحيد للشعب الجزائري، كما اضطروا إلى إيقاف تنفيذ أحكام الإعدام في حق المجاهدين الأسرى الذين يقعون بين أيديهم
كان للفرنسيين مركز عسكري متقدم لا يبعد عن الحدود التونسية سوى بنحو 30 كيلومترا، واعتاد جنوده القيام بدوريات واعتقالات لأبناء الشعب واللاّجئين الجزائريين الهاربين من جحيم الحرب والذين بنوا أكواخا بين الحدود الجزائرية التونسية، ولم يكتف الجيش الفرنسي بتنغيص حياة اللاجئين الجزائريين على الحدود، بل كان يسلب منهم أرزاقهم وقوتهم اليومي الذي بالكاد يسدّ رمقهم، وعمل الفرنسيون على دس مخبرين في أوساط الشعب لجمع المعلومات حول تحركات جيش التحرير الوطني، وعدد أفراده ونوعية تسليحهم، خاصة أنّ الحدود كانت منطقة عبور للمجاهدين، وعندما يريد الجيش الفرنسي الاتصال بهم يقوم بحملة اعتقالات تضم هؤلاء المخبرين إلى جانب أبناء الشعب حتى لا يكتشف أمره وعندما تزايدت شكاوي اللاّجئين من اعتداءات الجيش الفرنسي عليهم وعلى ممتلكاتهم، قرّر المجاهدون نصب كمين للكتيبة الفرنسية بالمركز المسمّى 28 وقال الرائد الطّاهر زبيري لقادة الفيلق الثالث: "لا بدّ من نصب كمين محكم وتوجيه ضربة قوية للفرنسيين"، وأضاف: "وهذا لا يعني ضرب الحيطان والهرب عند بورڤيبة" وكان "الزبيري" يقصد أنه يجب توجيه ضربة نوعية إلى القوات الفرنسية وليس مجرد محاصرتهم في مراكزهم المحصنة وإطلاق النار على العدو المختبئ وراء الحيطان التي لا يخترقها الرصاص، ومن ثم الانسحاب إلى الحدود التونسية للاحتماء بها من الهجومات المضادة التي تشنها القوات الفرنسية باستعمال الطيران والمدفعية
قرر الرائد زبيري توجيه ضربة نوعية للقوات الفرنسية انطلاقا من الحدود التونسية التي كان متمركزا بها مع فيلقه فهيّأ ثلاثة فصائل مسلحة ودعّم قياداتها بثلاثة قادة آخرين، فالفصيل الأول بقيادة العياشي حواسنية ونائبه عبد السلام بغدوش، الفصيل الثاني بقيادة حمه لولو ونائبه بن علاله، أمّا الفصيل الثالث فبقيادة صالح مسادي المدعو "نهرو" ومعه نائبه مصطفى الوهراني، وتقوم الخطة التي وضعها الطاهر الزبيري على رصد تحركات الكتيبة الفرنسية التي اعتادت التنقل من المركز 28 (أصبح يسمى قرية "جبار اعمر") إلى المناطق الحدودية أين يتجمع اللاجئون، في حين يتمركز مجاهدو الفصائل الثلاثة في أماكن محصنة طبيعيا بجبل واسطة، وعند مرور الكتيبة الفرنسية وسط الغابة يتم إمطارهم بوابل من الرصاص وقصفهم بقذائف الهاون التي تعززت بها الثورة.
أخذت كل فصيلة موقعها المحدد حسب الخطة ولم يكونوا يتوّقعون أن يقع الفرنسيون في الكمين بتلك السرعة، إذ أنهم وبمجرد أن شاهدوا قوات العدو حتى بدأوا في إطلاق النار من ثلاث جهات وقصفهم بقذائف الهاون التي شتت صفوف العدو وأوقعت بينهم الكثير من القتلى والجرحى، وأينما حاول العساكر الفرنسيون الهرب من ميدان المعركة، إلا ووجدوا نيران المجاهدين تصدهم بقوة، ولم يتركوا لهم سوى منفذ واحد للهروب منه أشبه بعنق الزجاجة، وذلك وفق خطة مدروسة، وما إن خرج الفرنسيون من الحصار وفروا عبر عنق الزجاجة حتى وقعوا أمام سدادته، حيث وجدوا فصيلة أخرى من المجاهدين في انتظارهم، وكان "الاستقبال" حارا، إذ فوجئوا بوابل من الرصاص يسدد باتجاههم، ومرت بالعساكر الفرنسيين لحظات قاتلة، وتعالت أصواتهم بالصراخ وطلب النجدة، ولولا تدخل الطيران الفرنسي وقدوم التعزيزات العسكرية من المراكز الفرنسية القريبة لتمت إبادة الكتيبة الفرنسية بكامل أفرادها، حيث قُتل في هذه المعركة 17 جنديا فرنسي، وأُصيب عشرة منهم بجراح، ووقع خمسة منهم أسرى بين أيدي المجاهدين الذين غنموا أسلحتهم، واستُشهد في هذه المعركة مجاهدين اثنين، أمّا الصّحف الفرنسية فأعلنت عن فقدان 22 عسكريا فرنسي.
وعندما علم الرائد "الطاهر الزبيري" بأمر الكمين أخذ بعض الرجال وتوجه إلى ساحة المعركة لشدّ أزر المجاهدين، لكنّه وجد أنّ المعركة قد انتهت بعد تدخل الطيران الفرنسي، فقاد جيشه وأخذ الأسرى إلى داخل التراب التونسي لتجنب الوقوع في عملية عسكرية فرنسية محتملة
انسحب المجاهدون من ساحة المعركة وأخذوا معهم الأسرى ثم ابتعدوا عن مركزهم وذهبوا إلى جبل "سيدي أحمد" على الحدود مع تونس وخشي الرائد زبيري أن يعلم التونسيون بأمر الأسرى فيضغط "بورڤيبة" على قادة الثورة لتسليم الأسرى إلى فرنسا لذلك التزم السرية، وخبّأهم عند أخيه الحاج بلقاسم الذي كان مسؤولا عن مركز عبور أصبح يسمى "مزرعة موسى حواسنية" الواقع داخل الأراضي التونسية، وفي نفس الليلة أحضر ثلاثة أطباء تابعين لجيش التحرير من مدينة "الكاف التونسية" وهم: الدكتور "بشير منتوري" (طبيب جراح)، والدكتور "بوذراع"، والدكتور "إبراهيم غياط"، وقاموا بمعالجة الأسرى الأربعة المصابين، في حين لفظ الأسير الخامس أنفاسه في الطريق إلى الحدود التونسية
اتّهم النقيب "آلار" من فراشه في مستشفى سوق أهراس ـ بعد أن أُصيب بجراح في ساقه ـ التونسيين بدعم جيش التحرير في "معركة جبل واسطة" بقوله: "بورڤيبة متواطئ"، وادّعى أنّ شاحنات للحرس التونسي نقلت الجنود الجزائريين إلى قواعدهم جنوب القرية
وتحركت الصحافة الفرنسية لتُؤكد أنّ الأسرى في تونس، ففي 16 جانفي 1958 سلم رئيس الحكومة الفرنسية "فليكس غايار" رسالة إلى بورڤيبة لا تخلو من التهديد والوعيد حملها إليه الجنرال "باشلي" و"جاك لارش" وبدأت الأزمة في التصعيد، وعاد المبعوثان رفقة سفير فرنسا في تونس "جورج غورس" إلى باريس، وتقرّر إرسال "دبروكس" مبعوث الصليب الأحمر الدولي لمعاينة مصير الأسرى في تونس والاتصال بجبهة التحرير والعمل على تحريرهم بسرعة، وفي 20 جانفي نشرت أسبوعية "العمل" صور الأسرى الأربعة على صفحاتها وهم: هونري روليا، جون جاكوب، فانسانت فيانارون، موتالاس
وفي ظلّ فشل جميع الوسائل لإقناع جيش التحرير بإطلاق سراح الأسرى الفرنسيين، وشعور الجيش الفرنسي بالمهانة والإذلال على يد جيش التحرير، شرع جنرالات الاحتلال في التّفكير بطريقة لإعادة الاعتبار لكرامتهم والانتقام من الجزائريين والتونسيين على حد سواء، فاقترح جنرالات فرنسا في الجزائر إرسال قوات مظلية ودبابات وطائرات لقصف أهداف في مراكز جيش التحرير في مدن وقرى تونس، باجه، سوق الأربعاء، غار الدماء، تالة، الكاف، تاجروين، القصرين، تلابت، ساقية سيدي يوسف، غير أن باريس كانت تميل إلى عمل عسكري تستعمل فيه الطائرات دون تدخل القوات البرية أو المحمولة جوا.
وكانت الصور المنقولة بالطائرات عن هذه المراكز قد أرسلت إلى وزارة الدفاع الفرنسية مرفوقة بمخطط يبين وجود "الفلاڤة" في داخل هذه القرى، وفي يوم 2 فيفري باع سنيمائي إنجليزي صور فيلم عن أماكن تمركز "المجاهدين"، وأعلنت فرنسا في 29 جانفي حقها في متابعة المجاهدين في أي مكان يتواجدون فيه، متهمة تونس بأنها أصبحت قاعدة خلفية لجيش التحرير
وبعد 28 يوما من أسر الجنود الفرنسيين وعجز المسؤولين الفرنسيين عن تحريرهم، قام الطّيران الفرنسي في 8 فيفري 1958بقصف وحشي لقرية "ساقية سيدي يوسف" التونسية التي كان يسكنها الكثير من اللاّجئين الجزائريين ويتردد عليها أفراد من المجاهدين لاقتناء بعض الحاجيات خاصة أن القرية كان بها سوق شعبي والقصف كان في ساعة الذروة، لذلك كان عدد الضحايا كبيرا سواء في أوساط الجزائريين أو في أوساط التونسيين قُدّر بمئات القتلى، فكانت مجزرة مروعة بحق.
حيث قامت 27 طائرة حربية فرنسية من نوع "بي27 " تحمل قنابل تزن الواحدة منها ربع طن وصواريخ جو أرض بقَنْبَلة القرية بوحشية بداية من الساعة الحادية عشر وعشر دقائق ولمدة تفوق ساعة من الزمن، والتي ألقت فيها بأطنان من القنابل، ثمّ أصدرت قيادة الجيش الفرنسي بلاغا تقول فيه أن الطائرات الفرنسية دمّرت مراكز الثوار الجزائريين على بعد كيلومتر ونصف عن قرية "ساقية سيدي يوسف" بنسبة 50 بالمائة، فأسرع الصحافيون ومصورو السينما من التونسيين والفرنسيين والأجانب إلى عين المكان ووجدوا ما أذهلهم؛ قرية دمّرت بأكملها ودُفن أهلها بسبق الإصرار والترصد، وصار سوقها الأسبوعي في خبر كان، كما هُدّمت مدرسة القرية وتناثرت فوق أنقاضها أشلاء الأطفال وأدواتهم المدرسية، ولم يوجد أي أثر لأي مركز لجيش التحرير أو لجنوده أو سلاحه، وتأكّد حينها العالم من كذب البلاغات العسكرية الفرنسية واطّلع بدهشة على انفعالات الثورة الجزائرية على الأمن في المنطقة، وتبين للرأي العام العالمي ضرورة الإسراع بإيجاد حل للقضية الجزائرية
ثارث ثائرة "بورڤيبة" لهذه المجزرة وانتقد بشدة ما قامت به القوات الفرنسية، ورفعت "تونس" دعوى إلى مجلس الأمن الدولي في 12 فيفري 1958 تُطالبه بإدانة هذه الجريمة، ونظّم حزب "الدستور الجديد" مظاهرات في ربوع البلاد رافعا شعارا واحدا "الجلاء"، وحاصر المتظاهرون التونسيون الثكنات الفرنسية المتبقية على الأرض التونسية مطالبين بجلائها بشكل كامل عن أرضهم، وكانت للرئيس التونسي سُمعة دولية خاصة لدى المعسكر الغربي
وليتوج النضال في النهاية بحرب بنزرت و التي ارغمت الفرنسيين على الخروج نهائيا من تونس ثم انهاء بعد ذلك ابشع استعمار عرفته دولة عربية لمدة 130 سنة لتتحصل الجزائر على استقلالها التام
http://fr.wikipedia.org/wiki/Bombardement_de_Sakiet_Sidi_Youssef
http://www.traidnt.net/vb/traidnt1784221/