بمشاركة أربعة أساطيل حربية انطلقت في البحرين الأبيض والأسود أكبر مناورات بحرية روسية منذ عقود، مناورات تتزامن مع التصعيد في الحرب السورية وتؤكد رفض روسيا لتقسم الدولة السورية التي تعتبرها خطا أحمرا، ناهيك عن حرب الطاقة والغاز التي تشتد يوما بعد يوم تحت مسميات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان . المناورات والبعد الاستراتيجيهي المناورات البحرية الأكبر خلال العقود الأخيرة تحت إشراف هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، تدريبات انطلقت في مياه البحرين الأسود والأبيض المتوسط يوم السبت 19 يناير/كانون الثاني على أن تسنمر حتى الأيام الأخيرة من الشهر نفسه.
التدريبات التي جاءت بعد عودة الطيران الاستراتيجي إلى الأجواء العالمية، تحمل رسائل للقريب والبعيد لا سيما من جهة التوقيت، فروسيا الاتحادية بحسب الخبراء كانت منذ عهد الاتحاد السوفيتي ولا تزال قوة عظمى وهي في عملية مناورات دائمة نظرا لكونها قوة كبيرة تمتلك ترسانة مخيفة من الأسلحة النووية والبالستية، أضف إلى ذلك كون المناورات في المياه الدافئة تحمل عناوين ردع والمنطقة تمر بسلسة متغيرات تحمل عناوين التحالف الأوروأطلسي والإسلام السياسي، وفي هذا السياق كان حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن أن مرابطة السفن الحربية الروسية في شرق البحر الأبيض المتوسط هو عامل استقرار في المنطقة، عميد الدبلوماسية الروسية أوضح في جرده للسياسة الخارجية خلال العام المنصرم أن الأسطول الحربي الروسي لم يكن في السابق قادرا على الإبحار إلى مسافات بعيدة، أما الآن فقد تغير الأمر، لذا لن تسمح روسيا ببقاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، منطقة عدم استقرار، وعليه فان مرابطة الأسطول الروسي هناك هو عامل استقرار، وهنا يمكننا الحديث دون اي خجل بعد تصريحات لافروف عن صراع الطاقة والغاز المكتشف في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والذي لا يزال خلف الكواليس، إلا أنه سيطفو إلى السطح بعد أن تحترق أوراق الديمقراطية والحرية التي تقتل في سورية أكثر مما تصلح.
سفن حربية وقوات إنزال كبيرة تشارك في التدريبات بحسب بيان صدر عن المكتب الصحفي لوزارة الدفاع الروسي، سفن تابعة لأساطيل البحر الأسود وبحر البلطيق وبحر الشمال والمحيط الهادئ، وهي طراد "موسكفا" الصاروخي، والسفينة الكبيرة المضادة للغواصات "سيفيرومورسك"، وسفينتا الحراسة "سميتليفي" و"ياروسلاف مودري"، وسفن الانزال الكبيرة "ساراتوف" و"ازوف" و"كالينينغراد" و"ألكسندر شابالين"، بالإضافة إلى عدد من السفن الخاصة وسفن التموين والطيران البعيد المدى والقيادة الرابعة للقوات الجوية وقوات الدفاع الجوي، ومما سبق يبدو جليا أن المناورات الروسية في المياه الدافئة تؤكد أن روسيا الاتحادية تتحول من الناحية الجيوسياسية إلى قوة بحرية بالاضافة إلى كونها قوة برية، وذلك في وقت ترفض فيه الولايات المتحدة الأمريكية البحث في موضوع درعها الصاروخية الذي يهدد الأمن القومي الروسي، وكذلك تأكيد القائد العام الأسبق للقوات الجوية الروسية جنرال الجيش أناتولي كورنوكوف أن منظومات صواريخ "باتريوت" الأمريكية التي تنشر في تركيا هي في الأساس موجهة ضد بلدان رابطة الدول المستقلة وبلدان منظمة معاهدة الأمن الجماعي، أي بالدرجة الاولى ضد روسيا وحلفائها كأرمينيا التي يشتد صراعها مع أذربيجان حليفة تركيا، وليس ضد سورية كما يدعي الأطلسي، كما أنه من الصعب على الحكومة التركية تبرير وضع المنظومات الصاروخية في البلاد لأغراض دفاعية، إذ أنه ليس من الممكن اعتبارها قوة ردع في ظل غياب أي تهديد من طرف سورية المستباحة حدودها من قبل تركيا التي تسلح وتمول وتدعم المعارضة المسلحة السورية بما في ذلك المتطرفة والراديكالية منها، وعليه فإن الكماشة البحرية الروسية لتركيا قد تدفع الحكومة في أنقرة لإعادة حساباتها الإقليمية والجيواستراتيجية.
المناورات والحرب السوريةتدرك موسكو جيدا مكان وتوقيت مناوراتها، وتوكد أنها للردع وتهدئة الرؤوس الحامية التي تدعو للتدخل العسكري في سورية على غرار ما حدث في ليبيا، دون البحث في التداعايات التي قد تترتب على ذلك في منطقة عرفت تاريخيا بأنها منطقة المصالح الروسية، وربما السكوت الأوروأطلسي على مناورات الأبيض والأسود لهذا السبب.
موسكو معنية بشكل مباشر بالأزمة السورية وطريقة الخروج من عنق زجاجة الحرب الأهلية هناك، فإلى جانب المناورات البحرية ودخول السفن المتتالي إلى القاعدة الروسية في ميناء طرطوس فإن التوازن الذي يطرحه التحرك الروسي هو الحراك السياسي القوي جدا في ضوء رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القاطع لعملية تقسيم سورية في إطار المشروع الأمريكي الذي استغل الانتفاضات في العالم العربي لا الثورات لتقسيم المنطقة، مؤكدا أن الأمن القومي الروسي يصل إلى ما بعد جبال طوروس.
لمناورات البحرية الحربية الروسية تتزامن مع تطورات جديدة في الأزمة السورية، ففي حين تؤكد الأمم المتحدة إلى جانب الجامعة العربية على أهمية دعم مهمة الأخضر الإبراهيمي، يدور الحديث في الأروقة السياسية عن أن مهمة من رتب الطائف اللبناني ويحضر له في سورية باتت في عداد الموتى في انتظار الإعلان عن حالة الوفاة، كما يرى الخبراء في واشنطن أن إقرار وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في شهادتها أمام نواب الكونغرس الأمريكي يوم 23 يناير/كانون الثاني بشأن الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي الذي قتل فيه السفير كريستوفر ستيفنز، إقرارها بأن المقاتلين في سورية يستخدمون بعض الأسلحة من مستودعات القذافي في ليبيا جاء في سياق اعتراف واشنطن، ولو المتأخر، بأن الوضع في إفريقيا والشرق الأوسط أصبح أكثر تأزما حتى أن السلوك المتطرف للإسلاميين بدأ يشكل خطرا على نطاق أوسع، أضف إلى ذلك إن اعتراف واشنطن بـ"جبهة النصرة" منظمة إرهابية جاء بعد أحداث بنغازي، وإذا اخذنا هذه الحيثيات بعين الاعتبار إلى جانب الأزمتين الأخيرتين في مالي والجزائر، فسنرى أنها جميعا دفعت الإدارة الأمريكية إلى إعادة حساباتها، لكن هذه العملية - والحديث هنا أيضا للخبراء - لم تصل حتى الآن إلى درجة تغيير جوهري في المواقف، لكنها على ما يبدو تمهد لهذا التغيير مع استلام الإدارة الجديدة لزمام الأمور في البيت الأبيض.
إن تمدد التطرف والإرهاب الذي خرج عن نظاق السيطرة والتحكم الغربي والعربي، دفع السفن الروسية إلى المياه الدافئة، لا سيما وأن أطياف في المعارضة السورية المتطرفة هددت المصالح الروسية في سورية بالإضافة إلى تهديد الرعايا الروس بالتصفية والخطف والقتل إلى جانب محاولات قصف القنصلية الروسية في مدينة حلب شمال سورية ما أدى إلى تعليق عملها، ومحاولة استهداف السفارة الروسية في دمشق حيث قتل وجرح مئات الأبرياء كما حصل في حلب، جميعها معطيات تفيد بأن ورقة التصعيد ضد روسيا لازالت مطروحة على طاولة ممولي وداعمي المعارضة السورية المتطرفة في الدوحة واسطنبول، وما التحرك الروسي إلا استباق لأي استهداف محتمل ورسالة ردع وانذار للروؤس الحامية كما ذكرت سابقا.
المناورات ودروس التاريخحذرت روسيا في السابق مرارا من تداعيات التدخل العسكري في ليبيا والتحالف مع القاعدة بهدف اسقاط نظام العقيد معمر القذافي، وصدقت موسكو في مخاوفها. فوضى انتشار السلاح في شمال أفريقيا والساحل الغربي بتداعياته في مالي والجزائر، وانتقال مقاتلي القاعدة من بلاد الشام للمشاركة باقتحام منشأة نفطية في عين أميناس بجنوب الجزائر ما خلف قتلى وجرحى خلال عملية تحرير المخطوفين الأجانب، جميعها معطيات دقيقة مطروحة على طاولة المفاوضات حول مستقبل سورية وتسليح المعارضة والجهاد العابر للحدود وغيرها من الملفات الساخنة.
لذا يدرك الفكر الجيوسياسي الروسي أنه لاتوجد قوى قادرة على تحمل تداعيات سقوط دمشق كما حصل مع طرابلس الغرب، وعلية فإن الدولة السورية خط أحمر بالنسبة للكرملين الذي يتطلع إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، كما يجب فهم أن روسيا كغيرها من القوى العظمى لا تحرك أساطيلها الحربية لوجه الله ودون أسباب لا سيما إلى مناطق الصراع الدولي والإقليمي، وهنا يجب أن نتذكر ما قالته كاترينا الثانية إحدى القياصرة الروس في النصف الثاني القرن الثامن عشر: مفتاح قصري في الكرملين موجود في دمشق.. مقولة تعكس مدى العلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين.
http://arabic.ruvr.ru/2013_01_24/102342884/
تحياتي