يُحسم مصير عملاق الغاز الروسي "غازبروم" وعائدات الميزانية الروسية، الآن في معارك الشوارع الدائرة في دمشق وحلب.
الحرب الأهلية في سوريا المستمرة منذ عامين ينظر إليها في أغلب الأحيان من زاوية حقوق الإنسان، بينما النزاع المسلح في البلاد يمثل إلى حد بعيد صدى صراع عميق بدأه اللاعبون الكبار في سوق الغاز العالمي، وستكون الجائزة الكبرى منفذاً إلى سوق الغاز الأوروبي
ففي عام 2010، أي مع بدايات "الربيع العربي"، غدا الاتحاد الأوروبي في حالة اقتصادية صعبة. وقد أجبرت الأزمة بروكسل على البحث عن طريقة لبناء سياسة استراتيجية بعيدة المدى في مجال الطاقة. كان من المفترض أن تستبدل الهيدروكربونات بالطاقة النووية التي كانت تتطور بوتائر متسارعة مطلع الألفية الثالثة.
إلا أن حادثة محطة "فوكوشيما" ساهمت في تقليص عدد مؤيدي الطاقة النووية في أوروبا بشكل سريع. وبالنتيجة قررت أوروبا التحول إلى الغاز الطبيعي كأقل أنواع الهيدروكربونات ضرراً بالبيئة. وحددت بروكسل أولويات سياستها في مجال الطاقة باتجاهين اثنين. الأول، هو ممارسة الضغط على مصدري الغاز الحاليين بهدف تخفيض الأسعار. أما الاتجاه الثاني، فهو تنويع مصادر الاستيراد. فقد خطط الاتحاد الأوروبي لمد خط أنابيب "نابوكو" بقدرة افتراضية تصل إلى 30 مليار متر مكعب في السنة، ما كان سيزيد المنافسة بين المصدرين. ولكن المشروع حتى الآن لم يتم تطويره بسبب عدم توفر المواد الخام الكافية. لهذا السبب بدا واضحاً أنه في حال تم إغلاق "نابوكو" سيخلفه فوراً مشروع بديل بدأ العمل عليه، يتمثل بمد خط أنابيب عبر البحر الأدرياتيكي. ويفترض أن يقوم هذا الخط بضخ 10 مليارات متر مكعب فقط من الغاز الأذربيجاني من حقل شاه دينيز، الذي كان من المفترض أن يصبح قاعدة لـخط "نابوكو". وما خفف من صعوبة الأوضاع ظهور "ثورة الغاز الصخري" في الولايات المتحدة، التي أسهمت في تحويل تدفق كميات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال إلى السوق الأوروبية بدلاً من الأمريكية. إلا أن بروكسل لاتزال تطمح لإيجاد مصادر جديدة أخرى للغاز المسال عبر الأنابيب. وقد قدم "الربيع العربي" لأوروبا فرصة لتحقيق ذلك. ولكن الأمر يشترط تخطي عقبة وحيدة، وهي نظام بشار الأسد.
في بداية العقد الماضي قررت قطر، التي تمتلك أكبر حقل غاز غير مستثمر في العالم "الحقل الشمالي" (إيران التي أيضاً لديها مدخل إلى هذا الحقل تطلق عليه تسمية "بارس الجنوبي")، زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال ، فبدأت حينها طفرة عددية لمصانع إسالة الغاز في هذه الدولة الصغيرة. توريدات الغاز الطبيعي المسال عبر الناقلات تمنح قطر استقلالية أكبر من ناحية تنوع أسواق البيع. ولكن اذا أخذنا بالاعتبار الموقع الجغرافي لهذه البلاد، فإن مصادر دخلها تعتمد كثيراً على الحالة الأمنية في إقليم الخليج. ففي حال نشوب نزاع ما بين إيران والغرب تهدد طهران بإغلاق مضيق هرمز، الذي تمر عبره جميع ناقلات غاز شركة "قطر غاز". ولهذا تحاول قطر تطوير خطط لإنشاء خطوط أنابيب خارج المضيق. وهو تكتيك مماثل للذي اتبعته المملكة العربية السعودية، التي تحاول باستمرار بناء خطوط أنابيب التفافية. وهكذا تم مد خط أنابيب غاز إلى الإمارات العربية المتحدة وعُمان، والذي يمكن مده إلى خليج عُمان عند الحاجة. إلا أن هذا الخط لن يسمح لقطر بتعويض خسارتها في حال إغلاق مضيق هرمز. الأمر الذي اضطر القيادة القطرية منذ عام ألفين وثمانية للبدء بدراسة مشروع آخر، هو بناء خط أنابيب بري إلى أوروبا.
ويمكن أن يكون موقع "الحقل الشمالي" القطري قاعدة لخط الأنابيب الجديد، وسيثبّت هذا الخط لو تم بناؤه، حقوق هذه الإمارة العربية في استثمار حقل الغاز. ونظراً لاضطرار طهران تحت ضغط العقوبات المفروضة عليها الى ايقاف العمل بتطوير استثمار الجزء الخاص بها من حقل الغاز، فان قطر قد تسبقها الى ذلك. وساهمت أحداث الشرق الأوسط وما يحدث هناك من تغيرات، بجعل خطة بناء خط أنابيب الغاز من الخليج الى شواطئ البحر المتوسط تبدو أقل خيالية. وفي هذه الحال تحتاج قطر الى موافقة ثلاثة بلدان فقط هي السعودية، الأردن، وسورية. وتبدو موافقة السعودية على بناء خط أنابيب نقل الغاز عبر أراضيها ممكنة، رغم خلافاتها الحدودية مع قطر. كما يمكن للغرب أن يلعب دوراً مهماً في حل هذه المسألة. وفي الواقع تحتاج السعودية دائماً الى ضمانات خارجية لأمنها الداخلي. فالوضع الداخلي في المملكة متوتر للغاية، رغم ما يضخ من أموال كبيرة في البرامج الاجتماعية. فالملك السعودي عبد الله، هرمٌ للغاية ويبلغ من العمر 88 عاماً، وخلفاؤه المتوقعون هم أيضاً مسنون ومرضى، ولا يتمتعون بثقة السكان.
كانت المملكة السعودية في الماضي تضع ثقتها الكاملة على الحلف مع واشنطن، ولكن السياسة الأمريكية في الوقت الراهن تسبب للمملكة قلقاً كبيراً. فادارة الرئيس اوباما تقوم بسحب قواتها من المناطق الساخنة، حيث انسحبت من العراق في عام 2011، وتخطط للانسحاب من أفغانستان في 2014 ، وتعلن عدم رغبتها بالتدخل في نزاعات جديدة. وهو ما جعل الرياض تدرك أن احتمال شن واشنطن لحملة عسكرية ضد طهران يبدو ضئيلاً للغاية. بالإضافة الى تأثر النظام السعودي الكبير من طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والتي اعتبرها "خيانة". كما لم تبد واشنطن تأييدها لتدخل الرياض العسكري في أحداث البحرين. وكل ذلك جعل السعوديين يشكون في وقوف واشنطن الى جانبهم في حالة حدوث أزمة جدية. وعلى خلفية برود علاقاتها مع واشنطن، تحاول الرياض توطيد صداقتها مع الأوروبيين. والدليل على ذلك أن الاتحاد الأوروبي قفز الى المرتبة الأولى في تصدير السلاح الى العربية السعودية. وفي المقابل أيضاً تبدي اوروبا رغبتها في التقارب مع النظام في السعودية. فقد سمحت برلين للمرة الأولى بتوريد دبابات من نوع "ليوبارد 2" الى السعودية، رغم عدم "ديمقراطية النظام" وامكانية استخدامها في قمع الاحتجاجات، كما حدث في البحرين.
أما الوضع في الأردن بخصوص مد انابيب الغاز، فيتجاوب مع مصالح قطر والاتحاد الأوروبي. الملك الاردني عبد الله الثاني يحصل على مساعدات مالية كبيرة من قطر، والدوحة تملك تأثيراً كبيراً على المعارضة الأردنية المتمثلة في جماعة "الاخوان المسلمين". ورغم عدم استقرار الأوضاع السياسية في البلد، لن يتأثر مشروع أنابيب الغاز حتى ولو تغير النظام في عَمّان. أما العقبة الحقيقية أمام هذا المشروع، فهي سورية التي يحكمها بشار الأسد. وليست الأراضي السورية مهمة فقط لتمرير الغاز القطري، بل حتى للغاز المصري. فالقاهرة مهتمة للغاية أيضاً بتصدير غازها الى الأسواق الأوروبية، حيث تحتاج السلطات الجديدة في القاهرة بشدة لمصادر دخل اضافية. وعندها لن تحتاج القاهرة الى تبريرٍ بيعها الغاز بأسعار مخفضّة الى اسرائيل، التي تعتبر المستهلك الأجنبي الرئيسي للغاز المصري في الوقت الراهن. لهذه الأسباب يلاحظ وجود حلف استراتيجي بخصوص المسألة السورية بين قطر ومصر، فالبلدان ينسقان مواقفهما في الأمم المتحدة، وجامعة البلدان العربية، ومجموعة "أصدقاء سورية". وهذه الأمور كلها جعلت قطر تصبح الملهم الرئيس للثورة السورية. وتقدم السلطات القطرية - حسب المعلومات غيرالرسمية - إضافة الى الجهود الدبلوماسية والدعم الاعلامي، مساعدات مالية مهمة للمعارضة السورية المسلحة. ان سقوط النظام في دمشق، يزيح آخر العوائق من طريق مشروع مد انبوب الغاز من قطر الى شواطئ البحر المتوسط. وهو ما يفسر بشكل منطقي موقف بلدان الاتحاد الأوروبي. ويملك النظام السوري حليفاً قوياً هو إيران. ولايمكن فهم سبب الدعم الإيراني البالغ لدمشق دون فهم مصالح طهران النفطية، التي لا تقل عن مصالح قطر والأوروبيين.
ويجهز الإيرانيون منذ فترة طويلة خططهم لبناء خط أنابيب يوصل غازهم الى شواطئ سوريا الصديقة. وكان نظام صدام حسين السني لوقت طويل عقبة كأداء أمام تنفيذ ذلك المخطط. وبعد تدخل الآلة العسكرية الأمريكية وازاحة ديكتاتور العراق، أصبح الطريق مفتوحاً أمام طهران. فقد صار الحكم في العراق بيد الأغلبية الشيعية بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي، وصار لإيران تأثير وسطوة كبيرة على جارتها العراق. وسيسمح بناء خط أنابيب الغاز الايراني عبر العراق الى سوريا بحل مشكلة تصدير الغاز الإيراني الى الأسواق العالمية. فالعقوبات الدولية المفروضة على ايران بسبب تطويرها لمشروعها النووي جعلت المستثمرين الغربيين يمتنعون عن الاستثمار في قطاع النفط والغاز على الأراضي الإيرانية، وتمتنع بلدان الاتحاد الأوروبي بشكل تام عن شراء الغاز الايراني، رغم ان ايران كانت المصدر الرئيسي المحتمل لمشروع نابوكو. ولذلك فان ايصال الغاز الايراني الى البحر المتوسط قد يحل لها المشكلة. فحتى لو امتنعت شركات الطاقة الغربية عن شراء الغاز الإيراني بشكل مباشر، يمكن ايصاله الى الغرب عن طريق شركات وسيطة ثانية أو ثالثة.
وهذه الأسباب، بالإضافة الى الاستفادة من سورية كفزّاعة ضد اسرائيل، تدعو طهران الى مواصلة دعمها لنظام بشار الأسد، عبر ارسال الأسلحة والمتطوعين. لأن سقوط النظام العلوي في سورية، سيطيح بمخططات انشاء انبوب الغاز. وتلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً في ملف الأزمة السورية. ولاعلاقة لهذا الدور بموضوع الطاقة، فالادارة الأمريكية فضلت التريث في موقفها من تطور الأزمة السورية، بعكس موقفها من أحداث ليبيا ومصر. ويمكن تفسير موقف واشنطن والسياسة الخارجية لادارة اوباما بالحاجة الى خفض شديد للنفقات. ففي هذا الوضع الاقتصادي الحرج، لا يمكن أن يدور الحديث عن المشاركة في أية نزاعات عسكرية جدية ، خاصة في الوقت الراهن حين تحررت الولايات المتحدة من اعتمادها على استيراد النفط والغاز من الخارج. فقد أدى التوسع في استثمار الغاز الصخري الى وصول واشنطن لمرحلة الاكتفاء الذاتي من الغاز. بل ان انتاج النفط الصخري يمكن أن يحول الولايات المتحدة الى مُصّدر للطاقة. ولهذه الأسباب مجتمعة تنازلت ادارة اوباما في التعامل مع ملفات الشرق الأوسط الى الشركاء الأوروبيين. ومن الجدير بالذكر أن واشنطن تملك رؤية مغايرة، لمسار تطور الوضع في المنطقة. وتتمثل رؤيتها في خطة بديلة وطويلة الأمد لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، مع تشكيل نظام جديد من الكوابح والتوازنات، يظل مرتبطاً بشكل أو بآخر بواشنطن.
ومن السيناريوهات الملائمة لواشنطن، تشكيل مثلث يمكن في أي وقت توحيد ضلعين فيه ضد الضلع الأقوى والحفاظ بذلك على التوازن المناسب لواشنطن. وهذا المثلث يمكن انشائه بمشاركة ثلاثة من القوى الرئيسية في المنطقة: ايران ، وتركيا، ومصر. من طرف أول، ايران القوية، الطامحة الى الهيمنة في العالم الشيعي الكبير، من الطرف الثاني: مصر وتركيا المتنافستان فيما بينهما على زعامة العالم السني، واللتان تقفان معاً ضد التوسع الايراني. وتقف الولايات المتحدة في هذه المعركة حول سورية في صف القطريين والأوروبيين. ومن المستبعد أن تنّجر في الوقت الراهن الى عملية عسكرية ضد بشار الأسد. ويبقى الوضع الحالي للأزمة السورية في صالح روسيا، التي يلائمها بقاء الوضع كما هو في حالة لا غالب ولا مغلوب. فما دامت المعارضة غير قادرة على الاطاحة ببشار الأسد، لن يكون هناك أي انبوب لنقل الغاز القطري الى اوروبا. وموسكو ليست معنية كذلك بانتصار ساحق لنظام الأسد على خصومه. ففي ظروف الحرب الأهلية المستمرة، لا يمكن أن يدور الحديث عن بناء خط الأنابيب الايراني الى سوريا. ولعل ذلك يفسر موقف موسكو في مجلس الأمن ودفاعها عن النظام السوري لمنع الغرب من بدأ حملة عسكرية على دمشق، وحتى اعلان منطقة حظر جوي كما جرى في ليبيا.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه قطر ومعها الاتحاد الأوروبي بالموقف من سورية، تتابع شركة "غازبروم" الروسية تطوير مشاريعها العملاقة: السيل الشمالي (حيث يتم بحث بناء المرحلة الثالثة والرابعة)، والسيل الجنوبي (حيث لم تبدأ بعد مرحلة مد الأنابيب تحت قاع البحر). واذا تمكنت روسيا من بناء خطوطها قبل انتهاء الحرب في سورية، فمن الممكن أن تحافظ على مواقعها في سوق الغاز الأوروبي، وهو ما سيأتي بفوائد لا تقدر بثمن للخزينة الروسية.
مصدر