معلقة هي مدن الشمال بين السماء والأرض، فبين الطائرات الفرنسية التي يسقط فيها العشرات من الضحايا، وبين هجوم عسكريين ماليين من المليشيات المسلحة ومرتزقة أوروبيين بيض على السكان، يبقى المدنيون من التوارڤ والعرب يحملون هموم الأمس وأحزان اليوم وينظرون بقلق إلى غد لم تتحدد ملامحه بعد بشكل واضح.
فالحرب والخراب أتيا على شعب أعزل، لا يفقه من تخطيطات الحرب الغربية وحسابات ساستها، ولا يسعى إلا أن يكون آمنا في مدنه وقراه، إنهم الأزواديون من العرب والتوارف والزنوج من السونغاي والهوسا، أصبحوا يبادون في صمت .
قد يظن البعض أن ما سيقفون عليه في هذا التحقيق الميداني هو من المزايدات الإعلامية التي تنتهجها بعض الوسائل في تغطية الحملة العسكرية للقوات الفرنسية وحلفائها من الجنود الإفريقيين، ضد ما يطلقون عليه تحرير شمال مالي من سيطرة جماعة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا.
.
بداية الرحلة من النيجر
كانت بداية الرحلة إنطلاقا من مطار هواري بومدين عبر الخطوط الجوية الجزائرية في الثالث عشر من شهر جانفي الفارط الذي صادف اليوم الثالث للهجوم الفرنسي على مدن كونا وسيفاري بالشمال المالي، في رحلة باتجاه العاصمة النيجرية نيامي، يخيل للإنسان وهو ينزل أول مرة للمطار الدولي بنيامي، أن الوضع على غير ما يرام، فالحراسة كانت مشددة ويدققون في كل المعطيات، وعن سبب القدوم إلى النيجر، وطبيعة العمل الذي سأقوم به في العاصمة، وبحكم أن التأشيرة المسلمة لي تمنحني الحق في التجول في كل النيجر، فقد قررت العمل والقيام باتصالات مع قياديين في جماعة أنصار الدين كأبو عمر سيدي محمد ولد أحمد الملقب بـ"بوعمامة" لتأمين المرور والطريق إلى شمال مالي المشتعل في معارك بين القوات الفرنسية ومقاتلي جماعة أنصار الدين.
لم يتسن لي في أول يوم في نيامي العثور على شخص عربي أو تارقي يمكنه نقلي عبر الصحراء إلى مناطق شمال مالي التي لا تبعد عنا إلا بأقل من 400 كلم، المشكل الكبير الذي يمكن لأي صحفي أن يواجهه في مثل هذه المهام هو الخيانة أو الغدر من المرافق أو سائق السيارة، خاصة ونحن في الصحراء القاحلة، إضافة إلى التوتر العسكري الحاصل بين الفرنسيين والجماعات الجهادية، لذلك حرصت على أن أسعى قدر الإمكان للوصول إلى سائق سيارة يعرف المنطقة الحدودية جيدا بين النيجر ومالي، إضافة إلى كونه ثقة أستطيع التعامل معه، وكذا إتقانه للفرنسية أو العربية أو الأمازيغية، لأني كنت ساعات قبلها عثرت على سائق من الهوسا لا يتكلم إلا لغته المحلية.
.
أبو الفضل إياد أغالي شارك في معارك كونا وسيفاري
في الساعات الأولى من اليوم الثاني في نيامي، قررت رفقة "عبد الكريم موفق" صاحب سيارة التويوتا التي استأجرتها أن ننطلق باكرا وسلوك طرق فرعية بعيدة عن أعين القوات العسكرية النيجرية والتشادية التي انتشرت على طول الطرق والنقاط الحدودية في الصحراء، تمكن عبد الكريم من العبور على نقطة التفتيش التابعة للشرطة، بعد أن دفعنا للمفتش ما يقارب 100 يورو ليسمح لنا بسلوك طريق صحراء "فلينقي" القريبة نسبيا من مدينة مينكا بالجانب المالي.
كان مرافقي طوال الطريق يستعمل هاتفه الثريا للإتصال ببعض معارفه والتأكد من خلو الطريق والممرات الصحراوية، خاصة وأنه كان لا يستعمل إنارة السيارة حتى لا يستطيعون تحديد مكاننا أو استهدافنا برصاص القوات العسكرية المتواجدة في الحدود.
لم تكد تبلغ الساعة السابعة صباحا حتى كنا في إقليم مدينة منكا، التي كان يسيطر عليها مقاتلو حركة التوحيد والجهاد، غير أنهم بدأوا يختفون عن الأنظار وينسحبون تدريجيا حسب من قابلناهم من السكان المحليين، الذين بدورهم بدأوا يحملون أمتعتهم وما يمكنهم حمله للجوء إلى المدن المجاورة كالنيجر والجزائر أو الذهاب حتى إلى بوركينا فاسو.
في خضم حديثنا مع الفارين من مدينة "منكا"، أعلمونا أن الجهاديين نصحوهم بعدم استعمال هواتف الأقمار الصناعية، لأنه يتم تحديدها بسرعة واحتمال القصف وارد جدا من الطائرات العسكرية الفرنسية، خاصة وأن المعارك في هذه الفترة كانت على أشدها في مناطق كونا وسيفاري، التي أخبرنا أحد المقاتلين الجهاديين أن أمير جماعة أنصار الدين الشيخ أبو الفضل إياد آغالي شارك بنفسه في معارك ضد القوات الفرنسية والمالية التي أرادت طرد مقاتلي الجماعة من كونا وسيفاري.
ويضيف المتحدث "لقد أشرف أبو الفضل على تأطير الشباب هناك وتوزيعهم في مواقع جيدة، يالتنسيق مع بقية الجماعات الأخرى التي شاركت في إسقاط طائرتين مروحيتين عسكريتين فرنسيتين، قتل أكثر من 10 من الجنود الماليين وإصابة غيرهم".
.
السكان في رحلة الفرار عبر طريق 400 كلم
البقاء في مكان واحد يحمل الكثير من الأخطار، خاصة مع ما بلغنا من سكان الصحراء أن القوات النيجرية والتشادية قد تقدمت بضع كيلومترات في العمق المالي، دفعنا هذا الخبر إلى التنقل جنوبا هذه المرة إلى مدينة أنسونغوا التي كانت تحت سيطرة مقاتلي حركة التوحيد والجهاد.
على مدار الطريق بين "منكا" و"أنسونغوا" لم نلمح أي شخص أو سيارة باستثناء أزيز الطائرات الحربية التي كانت تأتي من النيجر باتجاه عمق الأراضي المالية في إقليم الأزواد، اكتشفنا بعدها أنها كانت تحلق فوق مدينة غاو، لرصد تحركات المقاتلين الإسلاميين، واستعداداهم لقتال الفرنسيين أو ما يطلقون عليه الغزو الصليبي، أجبرني مرافقي أنه عندما نسمع أزيز الطائرات نطفئ محرك السيارة ونخرج بعيدا عنها خوفا من استهدافها بقذيفة ما.
ما إن وصلنا "أنسونغوا" ، حتى بادرنا مجموعة من المسلحين الملثمين لتوقيف السيارة، وأخرجونا منها وفتشونا جيدا وأعلمتهم أني صحفي جئت لتغطية أحداث الحرب، كما أنني زرت في فترت ماضية غاو وتومبكتو، والتقيت العديد من المقاتلين الإسلاميين، بعدها طلبوا مني تسليمهم هاتف الثريا بدعوى أن عددا من الناس أصبحوا يتعاملون مع العدو الفرنسي والمالي بإعطائهم إحداثيات مكان تواجد الإسلاميين، لكني رفضت ذلك رفضا قاطعا، بحجة أنها وسيلة الاتصال الوحيدة بيني وبين العالم الخارجي، لنقل حقيقة ما يقع من أحداث ومجريات.
بعد أخذ ورد، قبل المقاتلون أن أبقي أجهزتي معي شرط أن لا استعملها في كل وقت وأن أنزع البطارية منها حتى لا تكون في الجهاز حرارة، لإفشال أي محاولة قد تحدد مكاني عبر القمر الصناعي.
في تلك اللحظات، كان شخص قادم من طريق مدينة "غاو" على متن دراجة نارية باتجاه "يازي" النيجرية، يقول مصطفى أمادي "أغلب سكان المسلمين اليوم فروا من المدينة، في الوقت الذي التحق العشرات من المدنيين الشباب الآخرين بالمجموعات الجهادية، خاصة العرب منهم للدفاع عن مدينتهم من وحشية واعتداء الماليين تحت الرعاية الفرنسية"، يستأذن مصطفى ليكمل رحلته في الفرار من القصف العشوائي للطائرات الفرنسية قاطعا مسافة أكثر من 400 كلم للوصول إلى أقرباء له في العاصمة نيامي .
.
"غاو" بين صمود الجهاديين وفرار المدنيين العرب والتوارق
أن تكون في منطقة الحروب والنزاعات محايدا تماما دون أن تتأثر بحالة الضعفاء من المدنيين والعائلات المغلوبة على أمرها، أمر يكاد يكون مستحيلا، خاصة مع مشاهد البؤس وعلامات الحيرة التي ميزت وجوه البراءة من الأطفال والشيوخ العاجزين عن امتطاء أي مركوب للخروج من مدينة غاو باتجاه الصحراء والبادية.
"غاو" أو المدينة التي أعلنت حركة التوحيد والجهاد تطبيق الشريعة فيها، والحكم بين الناس بتعاليم الإسلام، كانت قبل أسبوعين من الآن عامرة بالوافدين والتجار والإسلاميين معا، أما اليوم فأصبحت شبه خالية، عدد الصحافيين لا يتجاوز الاثنين، موفد قناة خليجية، وفريق الشروق، دوريات للمقاتلين الإسلاميين تحث الناس عبر مكبرات الصوت على الصمود وحمل السلاح لقتال الفرنسيين، أو اللجوء إلى منازلهم وإغلاق الأبواب على أنفسهم، أو عند اشتداد القصف والغارات الجوية الخروج إلى ضواحي المدينة في الصحراء.
الحياة في المدينة، تكاد تكون عادية، حيث تصل المياه إلى حنفيات المنازل ويتم تزويد السكان بالكهرباء بدءا من الساعة السادسة مساء إلى غاية الحادية عشرة ليلا، غير أن الجهاديين قاموا بقطع شبكة الاتصالات عبر الهاتف الخلوي لقطع أي معلومات تصل إلى الفرنسيين عبر المخبرين، أما الشارع الرئيسي للمدينة بالقرب من السوق المركزي ومقر الحكومة المحلية، كان شبه خال باعتبار أن السوق أغلب تجاره من العرب أو التوارق، الذين قاموا بنقل سلعهم وترحيل عائلاتهم إلى مناطق أكثر أمنا، يقول محمد الباقي "لم يبق لنا شيء في هذه المدينة إلا الجدران والأبواب الحديدية، فقد نقلنا كل ما نملك وأولادنا إلى برج باجي مختار أو موريتانيا".
في الساعة العاشرة من الليل سمعنا أزيزا قويا لطائرات وقصفا مدويا، آت من جهة المطار على بعد ستة كيلومترات، اعتقد مرافقي أنه ربما يكون الاجتياح البري للمدينة، وأننا في خطر كبير، خاصة وأنه من التوارق، وأنا عربي جزائري، وهذا قد يحمل إلينا أخطارا كبيرة بسبب لون بشرتينا، كما أخبرني "عبد الكريم" أنه لم يلمح أي سيارة للجهاديين في الشوارع، وأن العديد من السكان الذين عرفوا بتأييدهم لتطبيق الشريعة يخرجون من المدينة، حيث يعتقدون أن الفرنسيين يقومون بإنزال جوي على مستوى المطار.
.
السكان يقولون: "إنها حرب صليبية على الإسلام"
قررنا بعدها حمل أمتعتنا وامتطاء السيارة، للتوجه في ظلمة الليل إلى ضواحي تمبكتو، أين كنا نبتعد عن المدينة وأصوات الطائرات العسكرية النفاثة تنبعث فوق رؤوسنا، كنت أفكر حينها أنني ربما أقبر اليوم في رمال الصحراء في ظلمة الليل، لا لسبب سوى أننا نقوم بنقل حقيقة ما يقع لهاته المدينة في قلب الصحراء.
طيلة مسيرة يومين كاملين من الحرارة التي بلغت 38 درجة، وصلنا مدينة "قوسي"، أين كنا على موعد مع التاريخ لمحاكمة من يقف على مجازر وانتهاكات في حق المدنيين العزل، لا ذنب لهم سوى أنهم سمحوا يوما ما لمقاتلي الجماعات الإسلامية الدخول إلى مدنهم وقراهم، تحدثنا إلى قريب العائلة الذي كان يتحسر على ما أصابهم من قتل وتشريد، يقول "لقد ارتكب الماليون ومعهم أشخاص بيض أوروبيون، هذه المجزرة، اين أنتم يا مسلمون، أين أنتم يا عالم، لماذا هذا الصمت المطبق على إزهاق أرواح المسلمين، ألسنا بشر، ألا تخافون الله رب العالمين، إنها حرب صليبية على الإسلام، أيها العالم الحر أوقفوا فرنسا ومن معها من الأفارقة الذين يريدون تذبيح كل مسلم أو عربي يشهد أن لا إله إلا الله".
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/155948.html