وراء انتصار أكتوبر المجيد أبطال عظام، لكنهم مجهولون. أبطال وضعوا الوطن مكان قلوبهم، حملوا رايته فى أحلك الظروف، تركوا أولادهم الصغار وأسرهم وهم يدركون أن الموت قريب منهم فى كل عملية يقومون بها فى الضفة الشرقية لقناة السويس. أبطال اقسموا على تحرير أرضهم وهم لا يدركون، أنه سيأتى اليوم الذى تتنكر الحكومة لنضالهم الوطنى الكبير ودورهم الرئيسى فى قيادة حرب الاستنزاف، ومهاجمة قواعد العدو ومخازن ذخيرته وقواته بسيناء، وهو الدور الذى ساهم فى الانتصار الكبير، أنهم أبطال منظمة سيناء العربية من محافظات القناة.
آلاف الأبطال المدنيين يعيشون الآن فى صمت ويكتفون بضمائرهم المرتاحة وذكرياتهم عن النضال، اليوم السابع يلقى الضوء على مجموعة منهم، عرفوا باسم "
الأشباح" فى منظمة سيناء العربية.
بعد نكسة 5 يونيو 1967، قامت
المخابرات المصرية بالاستعانة بقرابة 1100 بطل مدنى، أغلبهم من بدو سيناء ومن محافظات بورسعيد والإسماعيلية والسويس وسيناء، وتم تدريبهم على استخدام الألغام والمتفجرات والقنابل وأعمال الهجوم ضد إسرائيل هؤلاء الأبطال الذين أطلقت عليهم إسرائيل لقب "الأشباح"، كبدوا إسرائيل خسائر كبيرة فى الجنود وفى المعدات.
تم تأسيس جمعية باسم هؤلاء الأبطال ، أطلق عليها جمعية "
مجاهدى سيناء" لم تحصل على أى مميزات، لا أراضٍ فى سيناء ولا معاشات مناسبة، رغم أن المئات منهم حاصلون على أنواط الامتياز من الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، ومنهم من حصل على نوط نجمة سيناء، ومنهم من عبر قناة السويس أكثر من 150 مرة، ومنهم من توغل فى عمق إسرائيل، ومنهم من تعرض للأسر لسنوات طويلة وفى النهاية، لم يلق "الأشباح" التكريم اللائق، ومعظمهم يتقاضون معاشات شهرية، تتراوح من
45 إلى 100 جنيه مصرى فقط، مما دفع رئيس الجمعية
عيسى الخرافين عضو مجلس الشعب المصرى إلى رفع مذكرة لرئيس الوزراء وإلى الأمانة المركزية للحزب الوطنى لرفع المعاش إلى 500 جنيه شهريا، وحتى الآن لم تتم الاستجابة لهذه المذكرة.
قصة الأشباح
ومن هؤلاء الأبطال الشيخ
سالم الهرش شيخ مشايخ
قبائل سيناء الذي رشح للمخابرات المصرية ستة من شباب بدو سيناء وتم
تدريبهم وتحققت علي أيديهم نجاحات كبيرة في مهام كلفوا بها داخل إسرائيل
في فترة ما بعد 1956 وقد قام هؤلاء الشباب بجمع المعلومات وتحديد المواقع
الإسرائيلية ورصد التحركات العسكرية داخل الكيان الصهيوني وبسبب هذه
المعلومات أرسلت مخابرات سيناء بإشارة لوزارة الحربية في 2 يونيو 1967
بتوقع هجوم إسرائيلي يوم 4 أو 5 يونيو وإشارة أخري يوم 5 يونيو 1967 بتوقع
هجوم إسرائيلي خلال ساعات.
وهو الذي
رفض تدويل سيناء وفضح اليهود والأمريكان أمام وسائل الإعلامالغربية في مؤتمر الحسنة الذي عقد عام 1969 والذي كانت تطلب فيه إسرائيل
وأمريكا فصل سيناء عن مصر واعتبارها منطقة مستقلة.
ولهذا الشيخ قصة مع الفريق أول محمد أحمد صادق رئيس أركان حرب القوات
المسلحة في صيف 1970، وقتها كان الفريق صادق في زيارة لمنطقة القناة
وبورسعيد يتفقد القوات واستمع لتقرير عن عملية ناجحة لمنظمة سيناء العربية
تصادف عودة أفرادها يوم زيارته للمنطقة واستفسر الفريق صادق عن سلامة
الرجال وعلم أنهم جميعهم موجودون في جزيرة سعود بالشرفية في رحاب الشيخ
عيد أبو جرير، وطلب رئيس الأركان ترتيب زيارة في نفس الليلة للشيخ ليشكره
علي موقفه الوطني، كما يريد أن يلمس بنفسه مشاعر أبناء المنطقة.
وما أن غابت الشمس حتي تحرك الفريق صادق من بورسعيد يرافقه أحد قيادات
المنظمة إلي جزيرة سعود واستمر لقاء رئيس الأركان بالشيخ عيد حوالي الساعة
ووقتها تقدم الشيخ أبو جرير بعدة مقترحات لدعم عناصر منظمة سيناء وافق
عليها الفريق صادق الذي غادر المكان وهو يوصي بتأمين الشيخ وتأمين جزيرة
سعود باعتبارها إحدي قواعد انطلاق عناصر منظمة سيناء العربية.
وإذا تحدثنا عن منظمة سيناء العربية فلابد من ذكر
اللواء عادل فؤاد الذي
يعد بحق أحد أبطال التاريخ المصري وذاكرته تختزن أسرارا مهولة عن المقاومة
داخل سيناء في زمن الاحتلال ويعتبر
القائد الفعلي لمنظمة سيناء العربية.
يقول اللواء عادل فؤاد: لابد من ترسيخ الحقائق والمفاهيم التي قد تكون
غائبة عن ابنائنا من شباب مصر الذين لم يعاصروا تلك الفترة ولابد من تسجيل
شهادة للتاريخ في حق أبناء سيناء تنصفهم أمام التاريخ وأمام أبنائهم
وأحفادهم وأمام مواطنيهم من أبناء مصر.
ويضيف اللواء : كان لي شرف تكليفي في أوائل الستينيات بإعداد وتجهيز مسرح
سيناء لصالح القوات المسلحة ومن هنا كانت بداية تعارف حقيقي بيني وبين
أبناء سيناء كمعدن ثمين.
والحقيقة كان الوضع للوهلة الأولي لا يبشر بالخير وكانت الصورة قاتمة بل
أقول صراحة إن اليأس كاد يتسرب إلي نفسي بعد أيام من بدء دراستي لأوضاع
الطاقة البشرية في سيناء بعد عام 1956 مواطنون موارد رزقهم محدودة جدا،
وبلا خطة تنمية، مواطنون تأصل في نفوسهم أنهم من الدرجة الثانية أو
الثالثة، أو أقل من ذلك، متهمون جزافا بعمالتهم لإسرائيل أو بممارستهم
لتجارة المخدرات، الغالبية العظمي منهم مسجلة في سجلات اطلق عليها القوائم
السوداء.
ويضيف اللواء : لولا فضل الله وإيماني العميق ولولا احساسي الداخلي بأن
هناك مؤامرة ضد شعب سيناء أطرافها الموساد وظروف جغرافية وبيئة صعبة من
جهة وقصور من بعض أجهزة الأمن في ذلك الوقت في دراسة الأسس التي بنوا
عليها اتهاماتهم لمواطني سيناء بالعمالة، لذا فقد وفقني الله في الاهتداء
إلي أن القوائم السوداء قد تم اعدادها بعد إزالة آثار عدوان 1956 اعتمادا
علي سيناريوهات ووثائق اتضح أن ما يسمي ب
المكتب الخامس في جهاز المخابرات
الإسرائيلي كان وراءها جميعا وأحب هنا أن أذكر حقيقة تذاع لأول مرة وهي أن
ما يسمي بالمكتب الخامس في جهاز المخابرات الإسرائيلية كانت مهمته
الأساسية منذ انشائه هي
تلطيخ سمعة أبناء سيناء وإلحاق العار بكل مواطنيها
والتركيز علي خلق فجوة نفسية بين أبناء سيناء وقواتهم المسلحة من ناحية
وبينهم وبين مواطنيهم من سكان غرب القناة من ناحية أخري.
وقد هداني الله إلي أن كل الشوائب التي علقت بأبناء سيناء وظروفهم النفسية
السيئة كان وراءها الموساد، ثم بدأت في تنقية القوائم السوداء وإزالة
الفجوة النفسية وبذلك تم اعداد الأرضية الصالحة للاستفادة من أبناء سيناء
واكتشاف معدنهم الاصيل.
ويؤكد اللواء: لقد كان للأعمال الايجابية والنجاحات التي تحققت علي أيدي
بعض شباب سيناء في مهام كلفوا بها داخل اسرائيل في هذه الفترة أثر كبير في
تغيير المفاهيم الباطلة عنهم وتشجيع اجهزة الأمن علي محو الشوائب التي
علقت بأسمائهم.
المجاهد
نصر المسعودى يقيم فى عشة بدوية على بعد 30 كيلو متراً فى سيناء شرق قناة السويس بقرية جلبانة، أحد شباب المنطقة أشار لنا إلى عشته، لم أصدق الأمر فى البداية معقول هذا الرجل الذى عبر قناة السويس 150 مرة، وحصل على نوط الشجاعة من الرئيس عبد الناصر ونوط الامتياز من الرئيس السادات يقيم فى هذا المكان، لكن الرجل فاجأنا بقوله إنه ليس وحده فى هذا المصير، وأن هناك 45 بطلا آخر يعيشون نفس عيشته فى القرية ذاتها، وأضاف:
أن ما قام به من أعمال نضالية هو لوجه لله لا يريد عليه تكريما ولا مالا من الحكومة، فالمال إلى زوال، على حد قوله، وأضاف البطل نصر المسعودى: "أحتفظ بكل الأنواط التى حصلت عليها على ما قمت به مع أعضاء منظمة سيناء العربية، وبالتنسيق مع المخابرات المصرية من تدمير لمواقع إسرائيل فى سيناء، من خلال حمل الصواريخ على الجمال وعبور قناة السويس، والتخفى فى الصحراء وتنفيذ مئات العمليات التى أقلقت إسرائيل".
وقال نصر، إن منظمة سيناء العربية كان لها 3 فروع، فى بورسعيد وفى الإسماعيلية وفى السويس، ويقود كل فرع منها مجموعة من ضباط القوات المسلحة، ويتم تزويد أفرادها بالأسلحة والألغام، ولدى كل فرع عناصر بدوية تنقل المعلومات من سيناء، ويضيف: تمكنا من أسر العديد من الجنود الإسرائيليين، وعدد من الجواسيس المصريين الذين كانوا يتعاونون معهم.
بطولات عديدة
البطل الثانى،
عودة المسعودى، تم أسره فى منطقة ممرات متلا عام 1968، وتم الإفراج عنه مع الأسرى فى 1974، قال إنه كان
يوصل تحركات إسرائيل لمصر عبر جهاز لا سلكى وكان فى النهار يختبيء فى بئر صغيرة، وظل عدة أشهر على هذا الوضع يرصد التحركات، ويبلغها ويساعد منظمة سيناء فى تنفيذ التفجيرات، خاصة مطار المليز ومطار العريش.
قال عودة المسعودى، إن منظمة سيناء قامت بالمئات من العمليات الفدائية ضد العدو فى شرق القناة وكبدته الكثير من الخسائر فى المعدات والأرواح طوال حرب الاستنزاف، ويكفى أن أبطال منظمة سيناء العربية كانوا أصحاب أول هجوم فى وضح النهار ضد الصهاينة، وأثبتوا بهذه المهمة كذب الادعاء الصهيونى حول الجندى الإسرائيلى الذى لا يهزم، وأن موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلى هو من أطلق عليهم وصف "الأشباح" لتخفيهم، وكانوا مطلوبين للإعدام فى إسرائيل، ولكن العدو فشل فى التصدى لهم.
وأضاف: هؤلاء الأبطال الذين أطاروا النوم من عيون الإسرائيليين، ونفذوا عمليات فدائية ضد جيش الاحتلال وساهموا فى تحقيق نصر أكتوبر المجيد، وكانوا يتعاونون مع الجيش المصرى وبعد أكتوبر 1973 كرمتهم الدولة، ومنحهم الرئيس محمد أنور السادات نوط الامتياز من الدرجة الأولى، وفى عام 1987 تم إشهار جمعية تمثلهم باسم جمعية مجاهدى سيناء .
أول شهيد
محمد حسين مسلم ابن أول شهيد مصرى للمنظمة قال، إن معاش الوالد 100 جنيه، وأنه استشهد خلال تنفيذ المنظمة لعملية بسيناء، حيث فوجئوا بوجود جنود إسرائيليين أمام الموقع، فاضطر إلى التصدى لهم وحده على أن ينفذ الآخرون العملية وتفجير مستودعات الذخيرة فى أبو عروق ونجحت العملية واستشهد أبوه، وقال إن تدريبهم كان يتم فى الصالحية بواسطة المخابرات، وكانت الجمال وسيلة النقل للصواريخ.
السيد عبد الكريم لافى ابن البطل عبد الكريم لافى، الذى اشتهر بلقب
الدكتور فى المنظمة قال، إن والده قاد عشرات العمليات مع أعضاء المنظمة، وتمكن من القبض على جاسوس شهير يدعى الموجي وغيره من الجواسيس الذين تم جلبهم فى أجولة على الجمال، وتم عبور ملاحات بور فؤاد بهم وتسليمهم لمصر، ويضيف: المنظمة قامت بدور آخر مهم، وهو إرجاع الجنود المصريين من سيناء لغرب قناة السويس، ومساعدتهم.
ومن الأحداث التى يرويها السيد لافى، أن إصبع والده قطعه أحد الجواسيس لكن والده رجع بهذا الجاسوس حياً، وظل فى جهاده حتى أسرته إسرائيل وحكم عليه بـ140 سنة سجنا، وظل فى سجن عتليت 4 سنوات حتى تم تبادله مع جنود إسرائيليين بعد انتصار أكتوبر.
"ديب سينا"
المجاهد
عمران سالم عمران المعروف بلقب "
ديب سينا"، نفذ العديد من العمليات الكبيرة مع أصحابه، ودمروا دفاعات العدو فى رمانة وبالوظة ومطار العريش وقطعوا خطوط الإمداد، وقاموا بنسف مستعمرة "نحال سيناى" التى كانت مقر قوات الهليكوبتر التى أغارت على جزيرة شدوان، وبالتنسيق مع المخابرات نقل الصواريخ بواسطة الجمال وسيارة نصف نقل قرب المستعمرة، بمعاونة شيخ بدوى من المنطقة، وتم إطلاق 24 صاروخا على المستعمرة أدت لقتل 21 ضابطا وجنديا إسرائيليا وتدمير 11 طائرة، علاوة على تدمير مستعمرة الشيخ زويد بصواريخ الكاتيوشا وتدمير محطة رادار، وبلغت عملياته الجهادية قرابة 150 عملية، ومع ذلك لا حس ولا خبر ولا تكريم، وكأن لم يقدم شيئا لمصر.
بحثا عن التقدير
التقينا المجاهد
عيسى الخرافين عضو مجلس الشعب، ورئيس جمعية المجاهدين والمحاربين القدماء فى منزله برفح المصرية، الذى قال إن دور المجاهدين من البدو لا يقل عن دور القوات المسلحة، وأضاف: المخابرات المصرية تعرف دور المجاهدين والمحافظ اللواء محمد شوشة يعرفه، والتقيت به مؤخرا فى جلسة بالجمعية، وطلبت منه التحرك لرفع معاش المجاهد من 45 جنيها إلى 500، تقديرا لمن ضحوا بأنفسهم من أجل الوطن، ولولاهم ما تحقق نصر أكتوبر المجيد.
قال الخرافين، إنه قدم مذكرتين لرئيس الوزراء الحالى الدكتور أحمد نظيف لرفع المعاشات ووعده بالاستجابة، ولم يتم التنفيذ، مضيفا: "كتبت مذكرة للأمانة المركزية للحزب الوطنى، ولم يتم التنفيذ وطلبت قطعة أرض فى سيناء 5 أفدنة لكل مجاهد، ولم يتم التنفيذ، لكن الحمد لله المجاهدين الأحياء منهم أو الأموات فى غنى عن الأموال أو الأراضى التى لا تسمن ولا تغنى".
قال عيسى الخرافين، إننى لن أمل من تكرار طلبى، حتى تتم الاستجابة له، ويتم تكريم المجاهدين الأبطال بصورة لائقة ورد اعتبارهم الوطنى، ونحن نشد على يده ونتمنى من المسئولين، تكريم صانعى نصر أكتوبر.
المصدر
جريدة اليوم السابع تحقيق عبد الحليم سالم
جوجل