"كل و اشرب فغداً نموت"
الحرب في لبنان المسمّاة "سلامة الجليل" لم تكن مفاجئة لجهاز الأمن العام "الشين بيت" . لقد تم إطلاع رئيس الجهاز و كبار العاملين فيه على الاستعدادات التي اتخذت للحرب و لكن لم يطلب منهم تقديم خطة عمل من إعدادهم . كلّ ما طُلب منا عشية قيام الحرب هو إلغاء الإجازات في المنطقة الشمالية و إعلان حالة الاستعداد في صفوف العاملين في جهاز الأمن العام خاصة في تلك المنطقة . حتى قيام الحرب تجمّعت لدينا خبرة في مجال إحباط الفعاليات العدائية في القطاع الأمني داخل لبنان ، و خلال فترة عملي قائداً لهيئة الاستخبارات الشمالية (خلال العامين 1979 - 1980) ، حاولنا إدخال أحد عناصرنا للعمل في وحدة الارتباط التابعة للجيش (الإسرائيلي) في لبنان . عدا ذلك لم يكن لجهاز الأمن العام أي نشاط فيما يجري في المنطقة.
بعد خمسة أيام على اجتياح الجيش (الإسرائيلي) للبنان ، أي في الحادي عشر من حزيران 1982 ، طالبت جهات عسكرية كبيرة من جهاز الأمن العام "الشين بيت" أن يبدأ في ممارسة نشاطاته في لبنان . و قد استنفدت الحاجة ذلك نظراً لأن الجيش (الإسرائيلي) لم يكن يمتلك الخبرة الكافية في مجال إحباط الفعاليات العدائية . و هكذا توجّه رئيس الجهاز ، أبراهام شالوم للمستوى السياسي و طلب التعرّف على رأيه في هذا الموضوع . و تمّ الحصول على الردّ بعد مضيّ يومين حيث رحب المستوى السياسي لعمل الجهاز في لبنان ، بهدف إحباط أعمال (تخريبية) . و بعد مضيّ عدة أيام جرى خلالها اتخاذ الاستعدادات اللازمة ، شملت جولات ميدانية قام بها قادة الجهاز و إجراء مناقشات عند رئيس الجهاز ، و في العشرين من حزيران بدأ جهاز الأمن العام (الشين بيت) في ممارسة فعالياته في الأراضي اللبنانية .
لم يكن باستطاعة اللواء الشمالي في الجهاز قادراً وحده على توفير القوة البشرية اللازمة التي تطلّبها العمل في لبنان . لذلك تم تعزيز القوة العاملة في لبنان من بين جميع العاملين في صفوف الجهاز بما في ذلك العاملون معي في قيادة منطقة القدس و الضفة الغربية ، و العاملون في اللواء الجنوبي و حتى العاملين في القيادة العامة للجهاز ، و في نهاية الأمر ، استأثرت العناصر التابعة لي بنصف عدد العاملين في لبنان ، لأن معظمهم حصلوا على تجربة واسعة أثناء عملهم في المناطق الفلسطينية المحتلة تؤهلهم للقيام بالعمل الاستخباري في لبنان .
و قد شرعت عناصرنا بالعمل في لبنان اعتباراً من العشرين من حزيران ، قبل أن يتمّ إدخال المعدّات اللازمة إلى الغرف التي خصّصت لنا في إحدى المدارس في مدينة صور . و كان أولٍ عمل قمنا به هو التحقيق مع أحد السكان العرب في تلك المنطقة بهدف الحصول منه على معلومات عن (المخرّبين) و نشاطاتهم في لبنان .
كانت الأراضي اللبنانية مليئة بكبار (المخرّبين) ، و لم يكن يمرّ يوم دون الحصول على معلومات عن تحركات أحد عناصر فتح . و قد ركّزت عناصر الجهاز جهدها في هذا المجال و حاولوا الحصول على جميع المعلومات المتعلّقة بنشاطات فتح في لبنان . و بالفعل قمنا باعتقال عددٍ كبيرٍ من (المخرّبين) من أفراد المنظمات (التخريبية) على اختلاف قياداتهم . و من العمليات الناجحة ، التي تجدر الإشارة إليها بصفة خاصة ، كانت عملية اغتيال عزمي الصغير و الضابط المرافق له زكي الواسط . كان اسم عزمي معروفاً لدينا جميعاً . و من المؤكد أن جميع أجهزة الأمن المختارة التابعة للجيش (الإسرائيلي) ، لم توفّر جهداً في التخطيط - حتى قبل حرب لبنان - للقضاء على هذا الشخص ، الذي شارك في أعمال (إرهابية) متعدّدة داخل (إسرائيل) و في المناطق المحتلة .
و قد تمّ الحصول على معلومات استخبارية عن المكان الذي كان الصغير و الضابط المرافق له فيه قبل أسبوع من دخول جهاز الأمن العام "الشين بيت" إلى الأراضي اللبنانية . و علم أن الإثنين يقيمان في فيلا فاخرة على شاطئ البحر ، على بعد ثمانية كيلو مترات من مدينة صور ، و بعدما تأكّد رجالنا من صحة هذه المعلومات خرجت في ساعة متأخرة من الليل مجموعة من القوات الخاصة - إحدى الوحدات المختارة التابعة لحرس الحدود - يرافقها أحد رجال جهاز الأمن العام و أحد القرويين اللبنانيين كان على اتصال مع المطلوبين و يعرفهم شخصياً . و كما هو معروف ، قاموا بوقف السيارات بعيداً عن البيت ، و نزلت القوة و استمر في طريقه مشياً على الأقدام داخل البيّارات . و قد أحاطت القوة بالمنزل دون أن يعلم أحد سكانه ما يجري ، و لدى صدور الأمر اقتحمت القوة المنزل و خلال المعركة التي دارت قتِل الإثنان . و قد أثارت الحملة صدى واسعاً و ساهمت في رفع معنويات جهاز الأمن العام في المنطقة و حظيت بمدحٍ من كبار قادة الجيش (الإسرائيلي) .
حتى منتصف العام 1983 ، بعد مضيّ سنة على دخول الجيش (الإسرائيلي) الأراضي اللبنانية ، تم اكتشاف 106 من التنظيمات المعادية ، و تم اعتقال 5300 شخص و جرى إبطال مفعول 92 حادث اعتداء . و بعد اعتقال آلاف المشبوهين بالقيام بأعمال (تخريبية) في لبنان انضم إلى الجهاز عددٌ كبير من المتقاعدين ذوي الخبرة بالوسط العربي .
و أحد المصادر الناجعة التي لجأ إليها جهاز الأمن العام في بيروت كان حارساً عربياً يقوم بحراسة المقبرة اليهودية في بيروت . و اتضح أن الحراسة لم تكن هي شغله الوحيد . ففي أوقات الفراغ كان يشتغل في إعداد المتفجّرات . و قد تمكّنا من اكتشافه و تحوّل إلى عميلٍ يعمل لصالحنا ، و بالفعل قام هذا العميل بتزويد معلومات قيمة عن (المخرّبين) المطلوبين . و طيلة الوقت لم يترك عمله كحارسٍ للمقبرة .
و بعد دخول لبنان اقترح جهاز المخابرات الخارجي (الموساد) على رئيس جهاز الأمن العام "الشين بيت" ، أبراهام شالوم الشروع في حوارٍ مع الكتائب اللبنانية المسيحية . و بالفعل توجّه رئيس الجهاز و مساعده رئوفين حازاك إلى بيروت بعد دخول الجيش (الإسرائيلي) المدينة ، كي يجتمع مع رئيس الأجهزة الأمنية و الاستخبارية التابعة للكتائب زاهي البستاني . و هناك التقيا مع قائد القوات المسيحية بشير الجميل ، و تحدّث بشير الذي كان مرشّحاً لرئاسة لبنان في العام 1982 عن استعداد الكتائب لشن حربٍ ضد الفلسطينيين و أبدى استعداداً للتعاون مع جهاز الأمن العام (الإسرائيلي) في جنوب لبنان . و على الرغم من الشكوك في مدى صحة نوايا الجميّل ، خرج رئيس جهاز الأمن العام ، أبراهام شالوم بانطباع بأنه من الجدير دراسة هذه الفكرة .
و بعد يومين أو ثلاثة عقد لقاء عمل عند مصب نهر الزهراني شارك فيه البستاني و تم الاتفاق على خطوات العمل و التنسيق و هكذا بدأت العلاقة بين أجهزة الأمن التابعة للكتائب اللبنانية و جهاز الأمن العام "الشين بيت" .
و خلال فترة طويلة تلقّى جهاز الأمن العام فيضاً من المعلومات الزائفة حتى أنه في نهاية تموز من العام 1982 اضطر رئيس إحدى وحدات جهاز الأمن العام إلى طرد أحد العملاء بعدما قام بإبلاغنا معلومات زائفة عن ملجأ تحت الأرض تختبىء فيه مجموعة كبيرة من (المخرّبين) ، و في آب من العام 1982 حاولنا الحصول على معلومات استخبارية من الكتائب و لكن نتبيّن أنها زائفة ، و اتضح لنا أن الكتائب تسعى إلى توريط (إسرائيل) في حربٍ ضد خصومهم لأسبابٍ دينية أو سياسية . و في نهاية هذا العام تم قطع العلاقات مع الكتائب و على الرغم من ذلك حاول بعض أفراد أجهزة الأمن التابعة لهم التوجّه إلى قيادة جهاز الأمن العام في صور بهدف الحصول على منافع أو الإدلاء بمعلومات كاذبة .
و من ناحيته امتنع جهاز الأمن العام عن نقل معلوماتٍ إلى الكتائب . و بعد أحداث صبرا و شاتيلا و الأعمال الشاذة التي ارتكبها المسيحيون في جنوب لبنان بدون تنسيقٍ مع الجيش (الإسرائيلي) أو مع جهاز الأمن العام - توقّف الجهاز عن تقديم معلومات للمسيحيين .