حلقات مشروع صهيونى لتفتيت الوطن العربى للكاتب حسن نافعة ا
مشروع صهيونى لتفتيت الوطن العربى «١- ٥» بقلم د. حسن نافعة ١٣/ ١/ ٢٠١٣
١- مقدمة:
لم تكن أحوال الوطن العربى قبل اندلاع الثورات العربية على
ما يرام، فقد كانت ملايين المواطنين فى العراق وفلسطين ولبنان والصومال
والسودان تتعرض يومياً للقتل والتنكيل، أو للسجن والتعذيب، أو للطرد
والتهجير، أو للقمع والترحيل، أو للجوع والتشريد. ورغم مضى أكثر من عامين
على انطلاق قطار الثورات العربية، إلا أن هذه الثورات لم تحقق أهدافها
الرئيسية ولم يصل قطارها بعد إلى محطته النهائية، ومازال الطريق أمامها
طويلاً وشاقاً.
يدرك كثيرون أن التدهور الذى أصاب الوطن العربى يعود إلى
عوامل داخلية فى الأساس، غير أن التحديات الخارجية التى تحول دون انطلاق
الشعوب العربية نحو التقدم والرقى كثيرة، ومن ثم لا يجوز التقليل من شأنها
أبداً. وفى تقديرى أن المخططات التى تستهدف تفتيت العالم العربى وإعادة
رسم خريطة المنطقة على أسس طائفية هى أخطر هذه التحديات على الإطلاق. ولأن
قوى إقليمية ودولية معادية تحاول استثمار بعض التفاعلات المرتبطة بالثورات
العربية لوضع هذه المخططات موضع التنفيذ، فقد رأينا أن نعيد تذكير شبابنا،
من خلال هذه السلسلة من المقالات، ببعض ما يحاك لهذه المنطقة.
فى فبراير عام ١٩٨٢ نشرت مجلة «كيفونيم» الإسرائيلية دراسة
بعنوان «استراتيجية لإسرائيل فى الثمانينيات» كتبها دبلوماسى إسرائيلى
سابق يدعى أوديد ينون Oded Yinon. وحين تنبهت رابطة الخريجين الأمريكيين
العرب لخطورة هذه الدراسة قامت بتكليف الناشط الحقوقى الإسرائيلى المعروف
وأستاذ الكيمياء العضوية، إسرائيل شاهاك، بترجمتها إلى الإنجليزية ونشرت
تحت عنوان: «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط – The Zionist Plan for the
Middle East»، مصحوبة بمقدمة وخاتمة. وقد أكد شاهاك فى تقديمه لهذه
الدراسة أنها أشمل ما كُتب فى إسرائيل حول هذا الموضوع وتعكس حقيقة ما
يجول بالعقل الصهيونى. أما فى الخاتمة فقد حاول التعرف على الأسباب التى
تدفع بمجلة إسرائيلية لنشر دراسة كاشفة لنوايا ومخططات الحركة الصهيونية،
وطرح تفسيرين مقنعين إلى حد كبير. الأول: يتعلق برغبة الحركة الصهيونية فى
تثقيف الأجيال الجديدة فى النخبة الإسرائيلية، خاصة العسكرية، وتوعيتها
بما يدور فى عقل الآباء المؤسسين حول أمور خطيرة كان تداولها يقتصر حتى
وقت قريب على تلقين شفهى تبين أن به عيوبا كثيرة، وهو ما يفسر الاكتفاء
بنشر هذه الدراسة بالعبرية فقط. والثانى: استهانة الحركة الصهيونية بقدرة
العقل العربى على التعامل الواعى مع ما تضمنته هذه الدراسة من خطط تهدد
مصالحه الاستراتيجية بسبب افتقاره للنهج العلمى وغياب آليات فعالة لصنع
القرار الجماعى على مستوى العالم العربى ككل.
تطرح دراسة «ينون» رؤية لما يتعين أن تكون عليه استراتيجية الحركة الصهيونية فى التعامل مع العالم العربى، ودارت حول محورين:
الأول: يتعلق بالبنية الديموغرافية والاجتماعية والثقافية للمنطقة.
المحور الثانى: يتعلق السبل الكفيلة بتحقيق أمن الدولة اليهودية بمعناه المطلق.
وفيما يتعلق بالمحور الأول، تؤكد الدراسة أن العالم العربى
ليس كتلة واحدة متجانسة، إثنيا أو دينياً أو اجتماعياً، وإنما يضم تشكيلة
أو خلطة غير متجانسة «موزاييك» تتصارع داخلها قبائل وطوائف وأقليات قومية
وعرقية ودينية ومذهبية وغيرها، وأن «الدول العربية» القائمة حاليا صنعتها
مصادفات تاريخية كمحصلة للتفاعل بين أطماع قوى خارجية (الاستعمار التقليدى
ثم الحديث) وطموحات داخلية (جسدها قبائل وعشائر وحركات سياسية واجتماعية
متنوعة). ولأنها دول لا تقوم على أسس راسخة وقابلة للدوام، فمن السهل
تفكيكها وإعادة تركيبها على أسس جديدة، وهو ما يتعين على إسرائيل، من وجهة
نظر «ينون»، أن تعمل عليه بكل طاقتها.
أما فيما يتعلق بالمحور الثانى فتؤكد الدراسة أن أمن إسرائيل
لا يتحقق بالتفوق العسكرى وحده، رغم أهميته القصوى، ومن ثم تبدو الحاجة
ماسة لتفكير استراتيجى من نوع جديد ومختلف يرتكز على عدم السماح بوجود دول
مركزية كبرى فى المنطقة، والعمل على تفتيت ما هو قائم منها وتحويله إلى
كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية. فإذا نجحت الحركة الصهيونية
فى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجى فإنها تكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد:
تحويل إسرائيل إلى دولة طبيعية فى محيطها تقوم على نفس الأسس التى تقوم
عليها الدول المجاورة، ولأنها ستكون الدولة الأكبر والأقوى والأكثر تقدما
فى المنطقة، فسوف تصبح مؤهلة طبيعيا لقيادتها والتحكم فى تفاعلاتها
والقيام بدور ضابط الإيقاع فى صراعاتها.
ولفهم ما انطوت عليه هذه الدراسة «الوثيقة» من خطورة، والدلالات المتعلقة بتوقيت نشرها، يتعين أن نأخذ فى الاعتبار:
١- أنها نُشرت بعد أقل من ثلاثة أعوام من إبرام معاهدة
السلام بين مصر وإسرائيل، وبعد حوالى ثلاثة أشهر فقط من اغتيال السادات،
وقبل إتمام الانسحاب الإسرائيلى من سيناء (٢٥ نيسان – إبريل ١٩٨٢).
٢- أن إسرائيل أقدمت على غزو شامل للبنان بعد أقل من أربعة
أشهر على نشرها، وبدا سلوكها آنذاك وكأنه تطبيق حرفى لما ورد فى هذه
الوثيقة. وربما كان هذا هو السبب الذى دفع برابطة العرب الأمريكيين إلى
الاهتمام بها وترجمتها ونشرها فى ذات العام.
٣- تبين لاحقاً، وبما لا يقبل أى مجال للشك، أن إسرائيل لعبت
دورا محوريا فى إقناع الإدارة الأمريكية فى عهد بوش الابن بأهمية غزو
واحتلال العراق، كما تبين أن سلوك الاحتلال الأمريكى تجاوب تماما مع أهداف
الحركة الصهيونية التى تضع تقسيم العراق على رأس أولوياتها.
كنت قد كتبت عن هذه الدراسة الخطيرة سلسلة من المقالات نشرت
فى عدد من الصحف العربية عام ٢٠٠٧، غير أن ما يجرى فى العالم العربى منذ
انطلاق قطار الثورات العربية حتى الآن يثير المخاوف من جديد ويحث على
ضرورة إعادة تذكير الأجيال الشابة بما يحاك لها من مؤامرات خارجية، خاصة
من جانب الحركة الصهيونية. لذا أستأذن القراء الكرام فى إعادة تلخيص نشر
هذه السلسلة من المقالات، والتى ربما لم يطلع عليها الكثيرون، وذلك بعد
تحديثها وربطها بالأحداث الجارية حاليا فى العالم العربى.
وسوف أخصص مقال الأسبوع القادم للحديث عن مخطط تقسيم مصر، ثم
سأتناول تباعا مخططات تقسيم المشرق العربى، ثم منطقة الخليج وشمال
أفريقيا، وسوف أنهى هذه السلسلة بمقال ختامى يستهدف وضع دراسة «ينون» فى
سياق التطورات التى طرأت على المنطقة منذ نشر هذه الدراسة حتى الآن
واستخلاص الدروس المستفادة.
مشروع صهيونى لتفتيت الوطن العربى «٢-٥»
بقلم د. حسن نافعة ٢٠/ ١/ ٢٠١٣
٢ – مصر فى مخطط التفتيت:
تحتل مصر موقعا مركزيا فى استراتيجية الحركة الصهيونية
لتفتيت العالم العربى. فرغم قيام «ينون» بكتابة دراسته بعد حوالى خمس
سنوات من زيارة الرئيس السادات للقدس، وأربع سنوات من توقيع مصر على
اتفاقيتى كامب ديفيد وثلاث سنوات من دخول معاهدة السلام المصرية
الإسرائيلية حيز التنفيذ، ورغم علمه التام بأن التوقيع على معاهدة سلام
منفردة مع إسرائيل كلف مصر تضحيات هائلة وتسبب فى عزلتها عن العالم العربى
وفقدانها جزءاً كبيراً من هيبتها الدولية ومن مكانتها بين الأمم، إلا أن
ذلك كله لم يشفع لمصر عند الحركة الصهيونية أو يجنبها شر ما كانت تحيكه
لها من مخططات. ويبدو واضحا تماما من هذه الدراسة أن صورة مصر لدى الحركة
الصهيونية لم تتغير بعد معاهدة السلام عما كانت عليه قبلها.
أدرك ينون أن أى استراتيجية لتفتيت العالم العربى لن تنجح
إلا إذا كانت قادرة على إضعاف الدولة التى تضم ثلث سكانه والمرشحة
الطبيعية لزعامته، لذا كان من الطبيعى أن يحاول إثبات أن مصر دولة ضعيفة
وقابلة للتفكيك وعاجزة بالتالى عن حماية العالم العربى من التفكك والسقوط.
ولإثبات نظريته قدم ينون ثلاث أطروحات:
الأولى: تتعلق بطبيعة النظام السياسى المصرى. فقد حاول إثبات
أنه نظام عقيم، ومفلس، ويتمتع بدرجة عالية من عدم الكفاءة، وأن
البيروقراطية تمكنت من جهاز الدولة فى مصر إلى درجة جعلته يبدو عاجزا
تماما عن القيام بأى مبادرة أو تحقيق إنجاز يذكر فى أى مجال. ورغم تسليم
«ينون» بأن الجيش المصرى يمثل حالة استثنائية، وأن بمقدوره الإفلات من
قبضة البيروقراطية الرهيبة مثلما حدث فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، إلا أنه أصر على
أن بقية قطاعات الدولة المصرية أصبحت فى حالة يرثى لها ولم يعد يشغلها سوى
المحافظة على بقائها وإعادة إنتاج نفسها.
الثانية: تتعلق بطبيعة النظام الاقتصادى والاجتماعى. فقد
ادعى أن مصر دولة غزيرة السكان، شحيحة الموارد، متخلفة علمياً
وتكنولوجياً، وتكاد لا تجد ما يسد رمق سكان مازالوا يعيشون بأعداد هائلة
على رقعة محدودة من الأرض الزراعية لا تتجاوز سوى نسبة ضئيلة جداً من
إجمالى المساحة الكلية للبلاد. صحيح أن المعونة الأمريكية تساعد مصر على
التخفف من أعبائها، لكنها معونة ترتبط عضوياً بعملية السلام، وبالتالى فهى
مؤقتة بطبيعتها ومن الصعب ضمان استمرار بقائها طويلا. على صعيد آخر، اعتبر
أن النظام الاجتماعى فى مصر يقوم على أسس طبقية وينطوى على مظاهر تمييز
عديدة تمكن شريحة محدودة جدا من السكان من مضاعفة ثرواتها بسرعة
والاستحواذ على النسبة الأكبر من إجمالى الدخل القومى فى الوقت الذى يزداد
فيه فقر الأغلبية الساحقة من السكان يوما بعد يوم! ولأن النظام الخدمى،
خصوصا التعليمى والصحى يبدو متهالكا بدوره، فليس من المتوقع أن يتيح لمصر
انطلاقة تنموية فى المدى المنظور.
الثالثة: تتعلق بحال الاستقرار والتعايش الطائفى، والتى ادعى
ينون أنها سيئة بسبب وجود أقلية قبطية كبيرة العدد مضطهدة أو مهمشة
ومستبعدة من المشاركة فى العمل العام. ولأنها تبلغ فى تقديره ما يقارب ١٠%
من إجمالى السكان وتشكل أغلبية فى جنوب البلاد، فقد أصبحت أكثر ميلا
للعزلة وعدم الرغبة فى التعايش مع الأغلبية، خصوصاً فى ظل تنامى تيارات
أصولية إسلامية، وربما أصبحت جاهزة للانسلاخ عن الوطن الأم والتفكير فى
الاستقلال.
واستناداً إلى هذه الأطروحات الثلاث، والتى تعامل معها
بوصفها حقائق لا تقبل الجدل، توصل ينون إلى نتيجة مفادها أن مصر تبدو فى
ظاهرها دولة قوية، لكنها فى حقيقتها ليست سوى دولة هشة، وهى حقيقة راحت
تتكشف منذ عام ١٩٥٦ وتأكدت عقب هزيمة ١٩٦٧ التى أدت إلى خفض قدرات مصر
الحقيقية بمقدار النصف على الأقل. وأن استعادة مصر لسيناء، بما تحتوى عليه
من ثروات طبيعية خصوصاً فى مجال الطاقة والغاز، تمكن مصر من استعادة بعض
عافيتها، يرى «ينون» أن على إسرائيل أن تحول دون ذلك وألا تسمح لمصر
بالتقاط أنفاسها من جديد. فى سياق كهذا، لم يكن من المستغرب أن يقترح
«ينون» أن تتبنى إسرائيل استراتيجية للتعامل مع مصر تقوم على خطين
متوازيين: الأول يستهدف استعادة سيناء، والثانى يستهدف تشجيع قيام دولة
ذات أغلبية قبطية فى صعيد مصر. وفيما يتعلق بالخط الأول، حذر «ينون»
إسرائيل من تبنى سياسة تقوم على حلول وسط، خصوصاً إذا تضمنت انسحابا من
أراض تحتلها، ويلاحظ هنا حرصه على تجنب اللجوء إلى حجج تاريخية واستبدالها
بحجج ذات طابع اقتصادى تركز على ضرورة تأمين احتياجات إسرائيل المتزايدة
من مصادر الطاقة المختلفة، خاصة النفط والغاز والمعادن الكثيرة التى تحتوى
عليها سيناء. غير أنه بدا واضحا من تحليل «ينون» أنه يرمى إلى ما هو أبعد
وينظر إلى سيناء باعتبارها منطقة خفيفة السكان وقابلة لتوسع وامتداد
عمرانى يصلح لاستيعاب فلسطينيين قد يضيق بهم قطاع غزة المكتظ، أو
باعتبارها منطقة صالحة لتوطين نسبة من اللاجئين الفلسطينيين فى إطار حل
دائم لمشكلتهم، أو حتى لاستيعاب المزيد من المهاجرين اليهود المتوقع
تدفقهم على إسرائيل من مختلف أنحاء العالم، خصوصاً فى ظل التحول التدريجى
المتوقع لإسرائيل كقوة عظمى مهيمنة فى المنطقة.
أما فيما يتعلق بالخط الثانى الذى يستهدف تعميق الخلافات بين
المسلمين والأقباط والدفع فى اتجاه قيام دولة ذات أغلبية سنية فى الشمال
وأخرى ذات أغلبية قبطية فى الجنوب، فيلاحظ أن ينون يؤسس قناعته بأهمية
تحقيق هذا الهدف على أمرين على جانب كبير من الأهمية، الأول: أنه يمثل أحد
أقصر الطرق وأضمنها لإضعاف الدولة المركزية فى مصر وحرمان العالم العربى
من قوة كانت ولاتزال مرشحة دائما لقيادة المنطقة نحو التكامل أو الوحدة،
والثانى: أنه أحد أقصر الطرق وأضمنها لخلق أجواء مواتية لتفتت الدولتين
المجاورتين لمصر، وهما ليبيا والسودان، لأنهما «لن يصمدا أبداً إذا تفتتت
مصر».
فى سياق كهذا، يمكن القول إن خريطة الدولة المصرية بحدودها
الحالية مرشحة للتغير، إذا ما نجحت إسرائيل فى تحويل استراتيجيتها لتفتيت
العالم العربى إلى حقيقة واقعة، وذلك على النحو التالى:
■ فصل سيناء عن مصر ووضعها من جديد تحت الهيمنة الإسرائيلية.
■ دولة ذات أغلبية سنية فى شمال الدلتا.
■ دولة ذات أغلبية مسيحية فى صعيد مصر.
ورغم أن «ينون» لم يطالب صراحة باستخدام القوة المسلحة،
خصوصاً لتحقيق الهدف المتعلق بفصل سيناء عن مصر، إلا أنه يبدو على ثقة من
أن السياسة المصرية سترتكب ما يكفى من الأخطاء لتمكين إسرائيل من
استغلالها كأعذار تسمح لها بتحقيق أهدافها.
مشروع صهيونى لتفتيت الوطن العربى (٣- ٥)
بقلم د. حسن نافعة ١٧/ ٢/ ٢٠١٣
المشرق العربى فى مخطط التفتيت
كنت قد بدأت سلسلة من خمسة مقالات تحت عنوان «مشروع صهيونى
لتفتيت الوطن العربى». فى أول مقال، نشر فى ١٣/١، قدمت لهذه السلسلة،
موضحاً أنها محاولة لتقديم قراءة جديدة لما ورد فى دراسة قديمة كان أحد
الدبلوماسيين الإسرائيليين السابقين، يدعى أوديد ينون Oded Yinon، قد
نشرها بالعبرية فى مجلة «كيفونيم» فى فبراير عام ١٩٨٢، تحت عنوان
«استراتيجية لإسرائيل فى الثمانينيات»، ثم قامت رابطة الخريجين العرب فى
الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل شاهاك بترجمتها إلى الإنجليزية، ونشرت
تحت عنوان: «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط «The Zionist Plan for the
Middle East»، مصحوبة بمقدمة وخاتمة، كما شرحت الأسباب التى تجعلنى أعتقد
أنها دراسة تعبر بدقة عن حقيقة ما يدور داخل العقل الصهيونى حول مستقبل
المنطقة. وفى مقال ثان، نشر فى ٢٠/١ عرضت لخطة تفتيت مصر كما وردت فى هذه
الدراسة، التى تضمنت فصل سيناء عن مصر ووضعها من جديد تحت الهيمنة
الإسرائيلية، وقيام دولة ذات أغلبية سنية فى شمال الدلتا، وأخرى ذات
أغلبية مسيحية فى صعيد مصر. غير أن الأحداث التى شهدتها مصر، خلال
الأسابيع الماضية، أدت إلى قطع هذه السلسلة، التى نستأنفها اليوم بمقال
نخصصه لخطة تفتيت المشرق العربى، يليه مقال ثان عن خطة تفتيت منطقتى
المغرب العربى والخليج، ثم نختتم هذه السلسلة بمقال يحاول استخلاص الدروس
المستفادة فى ضوء ما يجرى اليوم فى المنطقة.
يقصد بالمشرق العربى هنا المنطقة التى تضم ما تبقى من أراض
فلسطينية والأردن ولبنان وسوريا والعراق. وإذا كان اهتمام الحركة
الصهيونية بتفتيت الدول أو المناطق العربية الأخرى يعود إلى اعتبارات يغلب
عليها الطابع الأمنى أو الاقتصادى، فإن اهتمامها بتفتيت دول المشرق العربى
يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الوجودى والحيوى. لذا لا تكتفى
المخططات الصهيونية هنا بالتطلع إلى التفتيت وإعادة رسم الحدود، لكنها
تشمل التمدد الجغرافى والاستيلاء على أراض جديدة واستيطانها تمهيدا لضمها،
كما تشمل القيام بتغييرات ديموغرافية واسعة النطاق، بما فى ذلك التهجير
القسرى للسكان. ومن الواضح أن رؤية ينون للمشرق العربى فى الاستراتيجية
التى يقترحها ترتبط ارتباطاً عضوياً برؤيته لطبيعة الدولة اليهودية
وحدودها، وفى سياق هذه الرؤية يعتقد ينون أنه لا مجال للتمييز بين حدود
١٩٤٨ وحدود ١٩٦٧، لأن المهم بالنسبة لإسرائيل هو أن تكون حدودها آمنة،
بصرف النظر عن موقع هذه الحدود على الخريطة.
الحدود الآمنة فى مفهوم ينون هى تلك التى تمكن إسرائيل من
السيطرة على كل المنطقة الواقعة «بين النهر والبحر». والمقصود هنا ليس
مجرد السيطرة العسكرية أو الهيمنة السياسية والاقتصادية، وإنما التجذر
الديموغرافى، أى من خلال التواجد السكانى لليهود والذى بدونه لن يكون
لإسرائيل أى مستقبل من المنظور الاستراتيجى. هذا الفهم الخاص جدا للحدود
الآمنة هو الذى يحدد موقف ينون من قضية التسوية مع العرب. فهو يرفض تماما
أى تقسيم للأرض أو حتى منح الفلسطينيين حكماً ذاتى، لأنه يرفض وجودهم
أصلًا على أى شبر من أرض إسرائيل. من هنا معارضته التامة لاتفاقيات كامب
ديفيد ولكل المشروعات الإسرائيلية التى تتحدث عن التقسيم أو الحكم الذاتى.
ولأنه يعتقد أن التركز السكانى لليهود فى المناطق الساحلية، التى يقطنها
حاليا حوالى ٧٥ فى المائة من إجمالى السكان، يشكل خطرا استراتيجيا كبيرا
على أمن إسرائيل، يطالب بتبنى سياسة سكانية تركز على السيطرة على المصادر
المائية الممتدة من بئر سبع حتى الجليل الأعلى واتخاذ الاجراءات الضرورية
لتأهيل المناطق الجبلية لتصبح قابلة للاستيطان تمهيدا للقيام بعملية هندسة
ديموغرافية واسعة النطاق لإعادة توزيع السكان بما يتناسب مع متطلبات الأمن
للدولة اليهودية على المدى الطويل. ويبدو واضحا تماما من هذا الطرح أن
متطلبات أمن إسرائيل، وفقا لهذا التصور، لا تعنى سوى شىء واحد، وهو إخلاء
المنطقة الممتدة من البحر إلى النهر من السكان العرب، بمن فيهم عرب ١٩٤٨.
هل معنى ذلك أن ينون لا يعترف بوجود شعب فلسطينى أو بحقه فى
تشكيل دولته المستقلة؟ لا، على العكس، فهو يعترف بوجوده وبحقه فى إقامة
دولته المستقلة لكن خارج نطاق حدود إسرائيل الآمنة، أى فى المنطقة الواقعة
وراء الضفة الأخرى لنهر الأردن!.. لذا لم يكن من المستغرب أن يدعى ينون أن
الأردن هو فلسطين وفلسطين هى الأردن، وأن عمان لا تقل فلسطينية عن نابلس.
يكفى إذن تمكين الأغلبية الفلسطينية من السيطرة على مقاليد الحكم فى
الأردن لتصبح هناك دولة فلسطينية وتحل «القضية» التى فشلت حكومات إسرائيل
المتعاقبة فى التعاطى معها! وبهذه البساطة الفجة لا يتردد ينون فى التضحية
بأكثر الأنظمة العربية اعتدالًا فى المنطقة، لا حباً فى الفلسطينيين، لكن
اعتقاداً منه أن تمكينهم من السيطرة على الدولة الأردنية يحل مشكلتهم
ويحملهم على القبول بالأردن وطناً بديلاً لكل الفلسطينيين بمن فيهم «عرب
٤٨»!.. ومن المنظور العربى قد يبدو مثل هذا الطرح نوعا من الهرطقة لكنه
يعكس، من المنظور الصهيونى، رؤية التيار الأكثر عمقاً وتأثيراً فى الفكر
وفى تاريخ الحركة الصهيونية فى الواقع.
ولأن ينون يدرك إدراكاً واعياً أن هذا «الحلم الصهيونى» غير
قابل للتحقيق إلا على جثة الدول العربية القوية أو المركزية، فقد كان من
الطبيعى أن يحاول الإيحاء بأن جميع الدول العربية، التى تبدو فى ظاهرها
كبيرة أو قوية عسكريا، بما فى ذلك مصر، قابلة للانهيار والتحلل إلى مكونات
صغيرة وضعيفة، وبالتالى لا يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل على المدى الطويل.
مشروع صهيونى لتفتيت الوطن العربى (٤-٥)
بقلم د. حسن نافعة ٢٤/ ٢/ ٢٠١٣
أواصل فى هذا المقال ما بدأته فى المقالات السابقة، بإعادة
قراءة دراسة الدبلوماسى الإسرائيلى السابق، أوديد ينون، التى تعبر بدقة
عما يدور داخل العقل الصهيونى بشأن منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص الدول
المحيطة بإسرائيل، والمنطقة الممتدة من المغرب شرقاً حتى أفغانستان غرباً
ومن تركيا شمالاً حتى باب المندب جنوباً.
ويبدو أن ما جرى للبنان جعله مطمئناً تماماً إلى هذه
النتيجة. فلبنان كان فى ذلك الوقت (١٩٨٢) دولة منهارة اقتصادياً ومقسمة،
بفعل الحرب الأهلية المستعرة فيه منذ منتصف السبعينيات، إلى خمس مناطق،
تقف على رأس كل منها سلطة شبه سيادية، الأولى: مسيحية فى الشمال، وتتزعمها
أسرة فرنجية، التى تؤيدها سوريا، والثانية: فى الشرق وتقع تحت الاحتلال
السورى المباشر، والثالثة: مسيحية فى الوسط تسيطر عليها «القوات
اللبنانية» المسيحية، والرابعة: بمحاذاة نهر الليطانى وتسيطر عليها منظمة
التحرير الفلسطينية، والخامسة: فى الجنوب المحاذى لإسرائيل ويسيطر عليها
الرائد سعد حداد، رغم أغلبيتها الشيعية.
ومن الواضح أن ينون كان على قناعة تامة بأنه بوسع إسرائيل
تحويل لبنان إلى خمس دويلات طائفية إذا نجحت فى كسر منظمة التحرير
الفلسطينية عسكرياً، وفى إضعاف الوجود السورى هناك «وهو ما جرت محاولته
فعلًا عندما أقدمت إسرائيل على غزو لبنان بعد أشهر قليلة من نشر الدراسة».
وإذا كان لبنان يبدو دولة منتهية فى ذلك الوقت، فإن سوريا
والعراق كانتا تثيران القلق بسبب قوتهما العسكرية، ومع ذلك فقد بدا ينون
مطمئناً تماماً إلى أنهما مرشحتان بدورهما للانهيار بسبب عوامل التحلل
والتفتت الكامنة فى بنيتهما السياسية والاجتماعية. فقد اعتقد أن سوريا لا
تختلف، من المنظور الطائفى، كثيراً عن لبنان، رغم وجود نظام عسكرى قوى
فيها لأنه نظام تسيطر عليه أقلية لا تتجاوز ١٢ فى المائة من السكان،
وبالتالى لن يكون باستطاعته أن يحتوى المعارضة السنية القوية. ولأنه اعتقد
أن لبنان سيتفكك رسمياً لا محالة خلال فترة قصيرة، ربما لا تتجاوز شهوراً
عدة، توقع ينون أن سوريا ستتبعه حتما على الطريق نفسه، ولن يكون بوسعها أن
تقاوم طويلا تلك العملية التاريخية الحتمية.
أما فيما يتعلق بالعراق، فقد اعتقد ينون أن تركيبته الطائفية
لا تختلف كثيرا عن الدول المحيطة به: أقلية سنية تسيطر على النظام السياسى
وتوجهه إلى حيث تريد، وهو أمر لن يكون بوسع الأغلبية الشيعية أو الأقلية
الكردية أن تقبل به على الدوام، ولولا ما يتمتع به النظام الحاكم من قوة
عسكرية وموارد نفطية كبيرة لما أصبح حال العراق أفضل كثيرا من حال لبنان
من قبل أو حال سوريا. ومع ذلك اعتقد ينون أن المستجدات التى طرأت على
الوضع الإقليمى، خصوصاً بعد اندلاع الثورة الإسلامية فى إيران ونشوب الحرب
العراقية- الإيرانية، تدفع فى اتجاه تعميق التناقضات الطائفية، وربما تؤدى
إلى اندلاع حرب أهلية، وبدا واضحاً أن ينون يتمنى اندلاعها فى أقرب وقت بل
ويستعجلها. ولأنه كان يدرك أن قوة العراق العسكرية تشكل تهديداً
استراتيجياً خطيراً على أمن إسرائيل، فلم يكن على استعداد لقبول تسامح
إسرائيل مع استمرار وضع كهذا، لكنه بدا مطمئناً وعلى ثقة تامة من أن
العراق لن يخرج من حربه مع إيران معافى، وأن ضعفه المحتمل سينتهى به فى
الأحوال كافة إلى التفتت إلى ثلاث دويلات، على الأقل، إحداها سنية فى
الوسط والأخرى شيعية فى الجنوب والثالثة كردية فى الشمال.
١- المغرب والخليج العربى فى مخطط التفتيت
يبدو للوهلة الأولى أن الاستراتيجية التى اقترحها ينون ركزت
جل اهتمامها على الدول المجاورة لإسرائيل، خصوصاً مصر ودول المشرق العربى.
غير أن هذا الانطباع السريع سرعان ما يتبدد عند أى قراءة متأنية لدراسة
ينون. فالواقع أن الاستراتيجية التى طرحها فى هذه الدراسة شملت منطقة تمتد
من المغرب شرقاً حتى أفغانستان غرباً، ومن تركيا شمالاً حتى باب المندب
جنوباً. صحيح أنه أولى اهتمامه الأكبر لمصر ودول المشرق العربى، غير أن
هذا الاهتمام يعود إلى أسباب أمنية واستراتيجية تبدو بديهية. فاستمرار
وجود مصر كدولة مركزية متماسكة اجتماعياً ومتطورة اقتصادياً يشكل، فى رؤية
ينون، تهديداً مباشراً على أمن إسرائيل فى الأجلين القصير والمتوسط، كما
أن تماسك المشرق العربى ووحدته يمكن أن يعوقا مخططات إسرائيل فى التوسع
جغرافياً وديموجرافياً فى منطقة تعتبرها امتداداً عضوياً لها وجزءاً من
مجالها الحيوى.
وإذا كانت بقية الدول العربية والإسلامية لا تشكل، من وجهة
نظر ينون، تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل على الأمدين القريب والمتوسط،
بسبب بعدها الجغرافى واحتوائها على تناقضات داخلية تضمن انهيارها الذاتى
على المدى الطويل، فإن ذلك لا يتعين، من وجهة نظره، أن يكون مبرراً لكى
تهمل إسرائيل هذه الدول أو تغض الطرف عما يجرى فيها وحولها من صراعات. ولا
جدال عندى فى أن عين إسرائيل الساهرة كانت ولاتزال مثبتة على منطقة الخليج
العربى بالذات، وترى فيها ما تعتبره جائزة كبرى تنتظر أن تسقط فى حجرها فى
نهاية المطاف.
فمنطقة الخليج العربى هى، على حد تعبير ينون، «بناء هش ليس
فيه سوى النفط». ورغم أن هذه المنطقة تحتوى على «أكبر مستودع للنفط
والمال»، فإن المستفيد منه، كما يقول بالحرف الواحد «أقليات محدودة لا
تستند إلى قاعد شعبية عريضة وأمن داخلى». وانطلاقاً من هذه الرؤية المحددة
يميز ينون بين ثلاثة أنواع مختلفة من التناقضات يقول إنها كامنة فى
بنيتها، فهناك:
أ- أقليات مذهبية، سنية فى أغلبها، تتحكم فى أغلبية من مذاهب
أخرى، شيعية فى المقام الأول أو مختلطة، كما هو الحال فى البحرين
والإمارات وعمان وغيرها.
ب- أقليات من السكان الأصليين تتحكم فى أغلبية ضخمة من
مهاجرين أجانب يبلغ تعدادهم فى بعض بلدان الخليج العربى ما يقرب أو يزيد
أحياناً على ٨٠ فى المئة من إجمالى السكان.
ج- جيوش وطنية ضعيفة لا تستطيع تأمين أنظمة الحكم القائمة ضد
أخطار كثيرة تحدق بها من الداخل ومن الخارج على السواء، رغم كميات الأسلحة
الهائلة التى تحصل عليها سنوياً من الغرب.
يعتقد ينون أن وجود هذا الكم الكبير من التناقضات الرئيسية
فى دول الخليج العربى ليس له سوى معنى واحد، هو أن تكوين هذه الدول قائم
على غير أساس، وأنها معرضة بالكامل لخطر الانهيار تحت وطأة الضغوط
والأخطار الداخلية والخارجية، وأن هذا الانهيار قادم لا محالة، سواء استمر
الازدهار الاقتصادى الناجم عن النفط أم لم يستمر، وذلك لسبب بسيط هو أن
الجيوش القائمة فى هذه الدول الهشة لا تستطيع أن تضمن بقاءها واستمرارها.
أما منطقة المغرب العربى فتعج، فى رأى ينون، بمتناقضات من نوع مختلف نسبياً، فهناك:
أ- تناقضات عرقية بين العرب والبربر فى معظم دول المغرب
العربى، وصلت أحياناً إلى حد الحرب الأهلية، كما كان الحال فى الجزائر،
على سبيل المثال.
ب- تحديات عويصة يطرحها تطرف إسلامى بدا واضحاً أنه يهدد
عدداً من أنظمة الحكم القائمة فى هذه البلاد «مثل تونس، التى كانت فى ذلك
الوقت تبدو أكثر بلدان المغرب العربى عرضة لتهديد التطرف الإسلامى».
ج- صراعات بينية تتخذ من الخلافات حول ترسيم الحدود بين
الدول أو من المشاكل الناجمة عن الإرث الاستعمارى «مثل مشكلة الصحراء
الغربية» وسيلة أو ذريعة للاقتتال، وهو ما حدث فعلاً بين المغرب والجزائر.
فإذا أضيفت إلى هذه الأنواع المختلفة من التناقضات تناقضات
أخرى تتعلق بما تعانيه دول المغرب العربى من مشاكل تقليدية تجتاح دول
العالم الثالث ككل، فالأرجح، كما يؤكد ينون، ألا تتمكن هذه الدول من
الصمود وأن تنهار وتتفتت بدورها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن استراتيجية التفتيت، التى طرحها
ينون فى دراسته عام ١٩٨٢، لا تبدو معنية «بالعالم العربى» فقط، أى بالدول
الأعضاء فى جامعة الدول العربية، أو حتى بمنطقة «الشرق الأوسط» بمعناها
الجغرافى الضيق، وإنما اهتمت بمجموعة هائلة من الدول تشمل، إضافة إلى
الدول العربية، جميع الدول الإسلامية فى المنطقة، منها إيران وتركيا
وباكستان وأفغانستان، وذلك لسبب بسيط هو أن إسرائيل تعتقد أن كل دولة
عربية أو إسلامية تعد تهديداً فعلياً أو محتملاً لها، ومن ثم يتعين عليها
أن تواجهه. لذا فإن استراتيجية إسرائيل لتفتيت المنطقة لا تقتصر على الدول
العربية فقط وإنما تشمل الدول الإسلامية أيضاً.
بقى أن نستخلص فى مقالة أخيرة الدروس المستفادة من هذه الدراسة بعد أكثر من ثلاثين عاماً على نشرها، وفى ضوء «ثورات الربيع العربى».
المصري اليوم