من المؤكد أنه لم يخطر ببال بناة معبد ديبود الفرعوني على أرض جنوب مصر بجوار النيل أن هذا الصرح سيستقر يوما ما على الأراضي الأوروبية، فالمعبد يقوم الآن على ربوة في قلب مدريد تقع بجوار القصر الملكي وخلف "ساحة إسبانيا"، أحد أكبر ميادين العاصمة الإسبانية، ولكن كيف وصل المعبد الفرعوني إلى هذا المكان؟
كان المعبد يقع في الأصل بمنطقة النوبة السفلى قرب الشلال الأول بالنيل في أسوان وكذلك من المركز الديني المكرس لعبادة الإلهة إيزيس بجزيرة فيلة، وبدأ بناؤه في القرن الثاني قبل الميلاد على يدي الملك أدخاليماني من مملكة مروي -التي تنافست مع الحكام الفراعنة على سيادة تلك المنطقة- عندما أقام معبدا صغيرا مخصصا للإله آمون والإلهة إيزيس.
ثم قام الملوك البطالمة بتوسيع المعبد حتى وصوله إلى ما يقارب شكله الحالي، وبعد ضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية أنهى الإمبراطوران أوغسطس وطيباريوس أعمال بناء وتزيين المعبد.
وأهدت الحكومة المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هذا المعبد لإسبانيا تقديرا لجهودها في الحفاظ على الآثار المصرية، بعد النداء العالمي الذي أطلقته منظمة "اليونسكو" لإنقاذ معابد النوبة من الاندثار نتيجة لارتفاع منسوب مياه النيل في منطقة أسوان بعد بناء السد العالي.
المعبد ديبود الذي اعتاد شمس جنوب مصر لمئات السنين تحت الغيوم الأوروبية الآن(الجزيرة نت)
الهواء الطلق
وتقول لورديس ناربايث، عضو معهد دراسات مصر القديمة بمدريد واختصاصية تدريس علم المصريات للأطفال، إن هذا المعبد هو أكبر المعابد الموجودة خارج مصر والوحيد من بينها المقام في الهواء الطلق.
وأوضحت نارفايث أن عملية نقل المعبد من منطقة أسوان إلى مدريد كانت طويلة و"ملحمية"، فقد فككت أحجار المعبد في موقعها الأصلي ووضعت في صناديق ظلت تسع سنوات على جزيرة وسط النيل ثم جرى نقلها بالمراكب في رحلة تحاكي الطقوس القديمة بطول نهر النيل إلى مدينة الإسكندرية لتنقل بالبواخر حتى ميناء فالنسيا ومنه إلى مدريد، وهو ما يضفي على معبد ديبود خصوصية هامة للإسبان.
وأضافت أن عملية إعادة بناء المعبد لم تكن سهلة، فالمعبد قد تأثر في القرن التاسع عشر بزلزال قوي أدى إلى تهدم بعض أجزائه، وقد كانت للمعبد ثلاث بوابات لا اثنتان كما نرى الآن، وكانت تنقصه بعض الأحجار، فاستكملت بأحجار رملية إسبانية مشابهة، من نوع الأحجار التي شيدت بها كاتدرائية سلمنقة (غرب البلاد).
وأشارت إلى وجود عدد من الأنشطة التعريفية والتعليمية بالمعبد، منها ما تقوم به بلدية مدريد وأخرى يجريها معهد دراسات مصر القديمة من بينها أنشطة للأطفال، الذي يأتون متنكرين بملابس فرعونية ليعيشوا أجواء التاريخ عند زيارة المعبد.
لورديس ناربايث ترى أن زائر المعبد لا يفهم ما يراه وأنه يحتاج لتعريف وحماية (الجزيرة نت)
تعريف وحماية
ومع ذلك، ارتأت خبيرة علم المصريات أن زائر معبد ديبود لا يزال لا يفهم جيدا ما يراه، وأن هذا المعبد الرائع يحتاج إلى تعريف وحماية أكبر مما يتمتع بهما الآن، وأن هذا يتطلب معاملته متحفا لا مكانا للزيارات السياحية المجانية.
وأضافت أنه رغم تمتع المدريديين برؤيته في الهواء الطلق فقد عانى كثيرا من هذا الوضع نظرا لاختلاف مناخ جنوب مصر عن المناخ الأوروبي، فالمعابد التي أهدتها مصر لدول أخرى وضعت داخل متاحف، باستثناء متحف ديبود، وهذا يعرض جدرانه ونقوشه للخطر، ولذلك لا بد من توفير غطاء له يتناسب مع طبيعته الفرعونية.
ودعت السلطات الحكومية إلى اتخاذ ما يلزم لحمايته، رغم الأزمة الاقتصادية، وإن لم تفعل فيجب على المواطنين الإسبان أن يقوموا بمبادرات لحماية هذا التراث الهام الذي أصبح ملكا لهم.
ولم تنقطع زيارات السياح عن المعبد منذ افتتاحه أمام الزوار في مدريد في أغسطس/آب 1972، وكانت تقدر بعشرات الآلاف من الزوار سنويا، إلا أن تلك الأعداد شهدت تزايدا مطردا منذ بداية القرن الواحد والعشرين وتجاوزت المائة ألف زائر عام 2003 ووصلت إلى ما يناهز 300 ألف زائر في العام 2012، ليصبح بذلك أحد أبرز مراكز الجذب السياحي بالعاصمة الإسبانية، وفقا لإحصائيات بلدية مدريد.
وتفتخر مدريد بأنها من أربع مدن في العالم فقط تمتلك معبدا فرعونيا كاملا، ولا ينافسها في ذلك إلا لايدن الهولندية التي يوجد بها معبد طافا، وتورين الإيطالية (معبد تحتمس الثالث)، ونيويورك الأميركية (معبد دندور).
المصدر:الجزيرة