حزب الله.. شبكة قومية من المدارس لإعداد جيل جهادي والنساء فيها رأس الحربة
في ملعب بسهل البقاع، زينته أشعة الشمس الساقطة نهاية فترة الظهيرة باللون
الذهبي، تجمع المئات من الشباب الذين يرتدون ملابس فرق الكشافة، وتلتف حول
أعناقهم أوشحة الكشافة المميزة، كانوا واقفين في انتباه في الوقت الذي
تُعزف فيه الموسيقى العسكرية، وتقدم البعض الآخر يرفعون عاليا اللواء
الأصفر المميز لحزب الله. ورغم كونهم جميعًا من المراهقين – إذ تبلغ
أعمارهم 17 أو 18 عامًا ـ إلا أن قسمات وجوههم تحمل الملامح الصارمة
للرجال البالغين، حيث ينبت فيها شعر خفيف، وفي جبهة البعض منهم نقطة سوداء
من أثر السجود خلال الصلوات. ويرتدي كل منهم على صدره صورة صغيرة للغاية
لآية الله روح الله الخميني، الذي قاد الثورة الإيرانية.
وفي الوقت الذي كان يتقدم فيه أحد مسؤولي حزب الله إلى المنصة تاليًا
عليهم بعض الآيات القرآنية، كان الشباب ينشدون في تناغم: «أنت قائدنا،
ونحن رجالك». وتعد كشافة المهدي طليعة حركة شباب حزب الله. وسينضم بعض
المتخرجين المتجمعين في هذا الاحتفال إلى جيش مقاتلي حزب الله، ليقاتلوا
ضد إسرائيل في هضاب وتلال الجنوب اللبناني، فيما سيعمل الآخرون في دواوين
ومكاتب الحزب. ومن المحتمل أن ينضم الباقون إلى القاعدة المتقدمة سريعة
النمو للدعم والمساندة، والتي جعلت من حزب الله أقوى الكيانات السياسية،
والعسكرية، والاجتماعية في لبنان. وفي الوقت الذي يشهد فيه العالم
الإسلامي موجة من الإحياء الديني، يكون من الطبيعي أن يظهر الورع بين
الشباب. أما في لبنان، فقد تمكن حزب الله من تعبئة تلك الطاقات في مشروع
سياسي مهم: إذ يدرب الحزب جيل الشباب الجديد على الاستمرار في كفاحهم
المسلح ضد إسرائيل. لقد جعلت مرونة حزب الله في أرض المعركة من التنظيم
نموذجًا تحتذي به الجماعات المسلحة الأخرى في الشرق الأوسط، ومنها حماس.
كما يرجع النجاح الذي حققه الحزب ـ والذي ليس بالقليل ـ إلى برامج التجنيد
الشاملة غير المعتادة التي يتبعها الحزب، والأعداد الغفيرة من الشباب
الذين يقودهم الفكر الديني. وتوجد شبكة كبيرة من المدارس ـ يدير حزب الله
بعضها، أما المدارس الأخرى فإما أنها تنتسب إليها، أو يسيطر الحزب عليها ـ
وهي محمية بصورة كبيرة من تسرب الدخلاء. كما تتوفر أيضا شبكة من العلماء
والأئمة يعمدون إلى تقديم الدروس الدينية للشباب كل في منطقة معينة. وهناك
أيضا مجموعة من التلاميذ والطلاب في المدارس والكليات غير المنتسبة إلى
الحزب يقومون بتقديم فكر الحزب إلى الجماهير العريضة. وينظم الحزب أيضا
معسكرات صيفية لا تتبع الكشافة، ورحلات ميدانية، وخلال العطلات الدينية
الإسلامية، يقوم الحزب بتنظيم أعمال تحفز الشباب على إظهار ولائهم له علنا
مع القيام بالأعمال الخيرية.
يقول طلال عتريسي، المحلل السياسي بجامعة لبنان والذي عكف على دراسة حزب
الله منذ عقود: «إنه يشبه نظاما متكاملا، من المدرسة التمهيدية وحتى
الجامعة. والهدف منه إعداد جيل راسخ لديه عقيدة قوية، وقريب من حزب الله».
وتغذي الصحوة الشيعية التي تتمتع بانتشار واسع في لبنان الكثير من هذه
النشاطات. جدير بالذكر أن هذه الصحوة الدينية الشيعية قد بدأت بعد الثورة
الإيرانية عام 1979، إلا أن حزب الله تجاوز ما قام به أي تنظيم آخر، إذ
اتجه الى تعبئة هذه القوة، من خلال بناء قاعدته الشخصية، وتحصين شباب
الشيعة من إغراءات المجتمع اللبناني المتنوعة. ومن العسير للغاية قياس مدى
تأثير ونفوذ حزب الله على الشباب اللبناني، وهذا مرده إلى التكتم الشديد
للحزب، وغياب الإحصاءات التي يمكن التعويل عليها بالبلاد. ومن الواضح أن
تلك المدارس الدينية الشيعية – والتي يمارس حزب الله هيمنته عليها ـ قد
كثرت على مدار العقدين المنصرمين من مجرد عدد ضئيل منها حتى أصبحت شبكة
قومية كبرى. كما أن هناك سبلا أخرى غير ملفتة للنظر، رغم أهميتها البالغة،
تتمثل في العدد المتزايد من العلماء المنتسبين إلى تلك الحركة. وأعد حزب
الله وحلفاؤه أيضا طقوسا دينية يؤديها الأطفال، منذ نعومة أظافرهم. كما
تُعد النساء أيضا من الكوادر بالغة الأهمية على وجه الخصوص في خلق ما يسمى
«الجو الجهادي» بين الأطفال؛ وهن يلعبن دورا بارزا داخل حزب الله أكثر مما
تعلم نظرائهن في أغلب الجماعات الإسلامية الراديكالية الأخرى. مع حلول
الظلام في مدينة جبشيت بالجنوب اللبناني، اتجهت امرأة ترتدي عباءة سوداء
بخطى واسعة قاصدة دائرة للضوء على خشبة المسرح. كان أمامها المئات من آباء
كشافة المهدي، جاءوا لمشاهدة أحد الأحداث المحورية في حياة بناتهم الصغار.
وقالت مضيفتهم عبر مكبر للصوت: «مرحبا، مرحبا، إننا ممتنون لوجودكم هنا
الليلة، إن بناتكم يرتدين حاليا الزي الملائكي للمرة الأولى». هذه
المتحدثة هي منيرة حلاوي – شابة نحيلة تبلغ من العمر 23 عاما، وعضو بحزب
الله ـ مدرسة الطقوس الشرعية المعروفة باسم تكليف شرعي، وفيها ترتدي حوالي
300 فتاة تتراوح أعمارهن ما بين 8-9 سنوات الحجاب. وبالنسبة للفتيات،
يعتبر هذا الطقس الديني لحظة ذا أهمية رمزية كبرى، إذ يومئ ببداية التزام
ديني أكثر تعمقًا. وأصبحت تلك الطقوس الدينية أمرا شائعا خلال السنوات
الأخيرة رغم ندرتها في السابق. كما كان هذا الحدث الهام أمرا بالغ الأهمية
بالنسبة لحلاوي أيضا، والتي كانت تمارس هذه الطقوس مع الفتيات الصغيرات
لأسابيع، أما الآن فهي القائدة التي تساعد في الإشراف على تعليم الفتيات
الصغيرات. وتعتبر حلاوي – المولودة عام 1985- نموذجا لجيل حزب الله من
الشابات، فقد نشأت بعد أن بدأ حزب الله وحلفاؤه في تأسيس «الهالة
الإسلامية» بين شيعة لبنان. وسرعان ما أصبحت تلك الفتاة أكثر ورعا وتقوى
من والديها – واللذين شبا في وقت كانت الأيديولوجيات العلمانية هي السائدة
في لبنان من أمثال القومية العربية والشيوعية. وقد تزوجت مبكرا للغاية
وأنجبت أول طفليها قبل أن تبلغ السابعة عشر. وبعدما أتمت حلاوي مقدمتها
على المسرح، تقدمت الفتيات على الممشى نحو المسرح ـ مرتديات عباءات بيضاء
حريرية، وأغطية رأس من الفرو ـ في مشهد تتساقط فيه الفقاقيع من على جانبي
المسرح، وصعود الدخان الأبيض من أجهزة الدخان. في هذا الوقت، كانت أجهزة
الصوت تردد أنشودة حزب الله، وهي عبارة عن أصوات رجال تنشد على إيقاع
موسيقى عسكرية. وحينها تعالت أصوات التصفيق الحاد من الآباء، وأطلقت
الأمهات الزغاريد. توضح حلاوي أن التعليم الديني بات الآن يبدأ من سن
مبكرة للغاية عما كان عليه الحال في عهد أبويها، حيث تشرع المدارس، التي
يدير حزب الله بعضا منها، في تقديم دروس القرآن للأطفال في سن الرابعة،
وعادة ما تبدأ الفتيات في الصوم وارتداء الحجاب في الثامنة. وفي كل ذلك،
تلعب توجيهات الأم دوراً محورياً. وتقول حلاوي: «هذا جهاد المرأة». من
بعيد، بدا مثل أي معسكر لفتيان الكشافة على مستوى العالم. يحمل المعسكر
اسم طير بلسية ويقع على ضفاف نهر الليطاني بجنوب لبنان. وداخل المعسكر،
توجد ملصقات عملاقة تحمل صور كل من آية الله الخميني والشيخ حسن نصر الله،
زعيم حزب الله. يقول محمد الأخضر، قائد كشفي يبلغ من العمر 25 عاماً: «منذ
عام 1985 نجحنا في تنشئة جيل صالح. كان لدينا 850 طفلاً هنا هذا الصيف،
تتراوح أعمارهم بين 9 و15 عاماً». ويعد المعسكر واحداً من المواقع التي
تتدرب بها كشافة المهدي. وتتشابه الكثير من النشاطات التي يقوم بها أعضاء
المعسكر مع تلك التي تقوم بها الكشافة بشتى أنحاء العالم، حيث يتعلمون
السباحة وبناء المخيمات وربط العقد وممارسة ألعاب رياضية. ووصف الأخضر بعض
هذه الألعاب ومنها أنه يجري تقسيم الكشافة الصغار إلى فريقين ـ أميركيين
ومقاومة ـ ويحاولون إلقاء بعضهم البعض في النهر. كما يتلقى أعضاء كشافة
المهدي زيارات من مقاتلين بحزب الله، يتحدثون عن قتال إسرائيل. وداخل
المعسكر، كان هناك قبر تم بناؤه بعناية فائقة، وبدلا من شاهد الضريح، تم
وضع صورة عماد مغنية، أحد قيادات حزب الله والذي لقي مصرعه في فبراير
(شباط)، وينظر إليه على نطاق واسع داخل الدوائر الغربية على أنه العقل
المدبر للكثير من التفجيرات وعمليات الاختطاف لأفراد وطائرات على مدار
عقود عدة. ويذكر أن كشافة المهدي تأسست عام 1985، في أعقاب إنشاء حزب الله
ذاته بفترة قصيرة. ورسمياً، تعد كشافة المهدي مثل أي من جماعات الكشافة
الـ29 الأخرى داخل لبنان، التي ينتمي الكثير منها إلى أحزاب سياسية. إلا
أن كشافة المهدي تتسم بطابع مختلف، ذلك أنها أكبر حجماً بكثير، حيث تضم ما
يقدر بـ60 ألفا من أطفال وقادة كشافة، ما يعني أنها أكبر بمقدار ستة أضعاف
عن أي جماعة كشافة أخرى بلبنان. بل إن خطوات كشافة المهدي أثناء المسيرات
تحمل طابعا أكثر عسكرية، حسبما أشار مصطفى محمد عبد الرسول، رئيس اتحاد
الكشافة اللبناني. وبينما تقع كشافة المهدي تحت مظلة الاتحاد اللبناني،
فإنه لا توجد صلة مباشرة بالكيان الكشفي الدولي الذي يتخذ من سويسرا مقراً
له. ونظراً لاكتساب كشافة المهدي شهرة باعتبارها مصدر إمداد بالكوادر
الجديدة للقوة المسلحة التابعة لحزب الله، أصبح الحزب يفرض حماية بالغة
عليهم ونادراً ما يمنح أشخاصا من الخارج تصريحاً بالدخول إلى معسكراتهم.
وكثيراً ما ينوه مسؤولو الجماعة بالصلة القائمة بين الكشافة والقوة
المسلحة. وعلى سبيل المثال، قال بلال نديم، الذي كان مديراً لشؤون كشافة
المهدي لدى حزب الله حتى العام السابق، إنه: «بعد سن الـ16 ينضم معظم
الفتية إلى المقاومة أو النشاطات العسكرية». ويتمثل عنصر اختلاف آخر عن
غالبية جماعات الكشافة الأخرى في البرنامج، حيث يحتل التوجيه الأخلاقي
والديني ـ بدلا من النشاطات البدنية ـ النصيب الأكبر من المقررات الدراسية
لكشافة المهدي، ويلتزم القادة الكشفيون بالدروس الموجودة في كتب كل مرحلة.
وتولي هذه الكتب اهتماماً غير عادي بالموضوعات الدينية وصراع حزب الله
العسكري ضد إسرائيل. وتصف الكتب اليهود بأنهم قساة، فاسدون، مخادعون
وجبناء، وتم نعتهم بقتلة الأنبياء. كما يجري تعليم الأطفال تبجيل آية الله
الخميني، وقادة الجماعة. ويتربوا على كراهية إسرائيل وتجنب الأشخاص غير
المتدينين. في الغرب، غالباً ما تتمثل الصورة المرتبطة بحزب الله في
الأذهان في المقاتلين الشباب ذوي اللحى. بيد أن مقاتلي وموظفي الحزب أقل
بكثير في أعدادهم عن مؤيديه. وتتضمن هذه الفئة الأوسع مقاتلي الاحتياط،
الذين سيقاتلون إذا ما اقتضت الضرورة، وأطباء ومهندسين ومتعاطفين. وعليه،
يمكن النظر إلى شخص مثل علي السيد باعتباره رمزا أكثر تعبيراً عن الجماعة.
ترعرع السيد، 24 عاماً، بجنوب لبنان ويعمل حالياً محاسبا في بيروت. ورغم
أن حزب الله عرض عليه وظيفة عمل، لكنه فضل المحافظة على استقلاليته. إلا
أنه على امتداد عمره، عاش في ظل حزب الله، حيث تخرج في مدرسة ثانوية على
صلة بالحزب، حيث كان يقضي عدة ساعات يومياً في دراسة الدين والاستماع إلى
المدرسين وهم يدعون لمقاتلي حزب الله وآية الله الخميني. وأثناء العطلة
الصيفية، كان يشارك في كشافة المهدي. ويبدي السيد ورعاً بدرجة كبيرة، حيث
يرفض مصافحة النساء، ويؤكد على استعداده للقتال والموت من أجل حزب الله
باعتبار ذلك واحدة من المسلمات في حياته. ومع ذلك، فإن جيل السيد يعد من
نواحي عدة أكثر عرضة لإغراءات المجتمع العلماني اللبناني عن سابقيه، مما
يتضح حتى في الضاحية التي تقطنها غالبية الشيعة في بيروت، وتضم المقر
الرئيس لحزب الله. بعد أن كانت الضاحية أشبه بجيتو مغلق حيث يجري تطبيق
قواعد دينية بالغة الصرامة ويوبخ الرجال أي امرأة تجرؤ على الخروج من دون
ارتداء غطاء الرأس الإسلامي، أصبحت المنطقة أكثر انفتاحاً الآن، وأصبحت
تضم مقاهي انترنت ومحالا لبيع شرائط الموسيقى والـ«دي في دي» ومطاعم صينية
ومتنزها عاما للترفيه يحمل اسم فانتازي وورلد. ولا يمكن بيع الكحوليات
علنا، ولكن تمتلئ الشوارع بأطباق استقبال الأقمار الصناعية. وتبدو المقهى
التي كان يجلس عليها السيد في الضاحية نموذجية، حيث تظهر أعلام حزب الله
في الشارع الجانبي، ولكن داخلها يجلس الشباب يشربون الكابتشينو ويتناولون
الكعك المحلى ويستمعون إلى أجهزة أي بود الخاصة بهم.