جاسوس مجّاني ساعد إسرائيل في الحصول على المستحيل ..."موساد" يسرق الـ"ميغ – 21" (الحلقة الاولى).
في بداية الستينات من القرن الماضي، وبينما كانت الحرب الباردة بين
القوتين الأعظم على أشدّها، فاجأ السوفيات العالم بالطائرة المقاتلة «ميغ
ـ21», التي كانت حديث الأوساط العسكرية كافة بسبب تفوُّقها على نظيراتها
في دول حلف الأطلنطي، وكانت تتميز بسرعة 2062 كلم/ ساعة في دائرة مغلقة
طولها 500 كلم، وبسرعة 1298 كلم/ساعة في دائرة مغلقة طولها 100 كلم، وبلغت
أقصى سرعة مستوية للطائرة 2375 كلم/ساعة، في حين كانت السرعة بمقدار النصف
عند الطائرة سكاي هووك في ذلك الوقت، و1400 للفانتوم و1500 للميراج، وكانت
أبعاد ومقاسات الطائرة محيّرة، إذ بلغ عرض أجنحتها 760 سم، وطول جسمها
16.75مترًا، وذلك ما لم يتوافر للطائرات الأميركية والفرنسية أو
الإنكليزية. تحولت الطائرة بالنسبة الى دول حلف الأطلنطي إلى كابوس مزعج
ولغز محيّر يسعون بشتى الطرق الى فك طلاسمه، والأهم من ذلك كله أن الميزات
كلها كانت موضوعة بين أيدي الطيارين العرب في مصر وسورية والعراق، تفتقد
إليها إسرائيل، فكانت الرغبة عارمة في كشف أسرارها عن قرب، وصار الحصول
عليها بأي ثمن هدفًا أميركيا ـ إسرائيليا مشتركًا للوقوف على خفايا قوتها
وأسرارها.
في تلك الفترة، من نهاية عام 1961، ألقت المخابرات المصرية القبض على
الجاسوس المصري، الأرمني الأصل، جان ليون توماس، واعترف خلال التحقيق أن
الإسرائيليين أغروه بمبلغ ضخم إذا استطاع تجنيد طيار مصري يقبل الهروب
بطائرة ميغ ـ 21 إلى إسرائيل مقابل مليون دولار، فبات الأمر بعد انكشافه
وإعدامه أكثر صعوبة.
اتجه تفكير الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية إلى اعتراض طائرة مصرية
أو سوريّة وإجبارها على الهبوط في إسرائيل، لكن الفكرة رُفضت، لأن إسرائيل
لا تمتلك طائرة تماثلها قوة تستطيع الدخول معها في اشتباك وإجبارها على
الهبوط في أحد مطاراتها، وبالتالي فاعتراض الميج 21 بدا مغامرة فاشلة،
ففكروا في زرع عميل طيار في أحد أسلحة الجو العربية، لكن رُفض الاقتراح
لأنه يستلزم فترة طويلة ليست في مصلحتهم ونسبة نجاحه لا تتعدى الواحد في
المائة، من هنا اعتمد الخيار الأخير وهو تجنيد طيار عربي وإغراؤه بمبلغ
كبير للهروب بطائرته إلى إسرائيل وكان الأمر يحتمل النجاح بنسبة 25%، لذا
بدأ التنسيق المخابراتي لمعرفة أية معلومة ولو كانت تافهة عن طياري مصر
وسورية والعراق من خلال العملاء في العواصم العربية وما تنشره الصحافة
العربية في صفحات النعي والاجتماعيات، وبدأت الخطوات التنفيذية لخطتهم
الشيطانية.
ليلة «أنس» في باريس
ذات ليلة من ليالي باريس الصاخبة في أواخر صيف عام 1964، كان في أحد
ملاهيها ضيف عراقي غدا محط أنظار، إنه سائح أتى من بلاد الرافدين ليستمتع
بكل لحظة في رحلته إلى باريس، وشدّت انتباهه فتاة تبدو متحررة تمامًا،
ومنجذبة إليه من النظرة الأولى.
كان يركّز عينيه عليها يتأمل جسدها، وهي أيضا تركز عينيها عليه، لكن
لأسباب مختلفة، فهي تعمل ملحقة ثانية في سفارة إسرائيل في باريس، لكنها،
وكان ذلك عرفا سائدا وقتها، كانت إذا قابلت عربًا تخفي جنسيتها
الإسرائيلية، وتقدم نفسها على أنها مواطنة فرنسية تريد أن تستمتع بوقتها،
لكنها بعد قليل تحرّك دفة الحديث بحرفية شديدة نحو السياسة.
اكتشفت الإسرائيلية أن المواطن العراقي ساخط على نظام الحكم في بلاده،
وعلى حزب البعث الذي كان ممسكا بزمام الأمور، واستفزته قائلة: «يبدو أنك
تبالغ في تضخيم الأمور».
لكن السائح العراقي كمن ألقى بقنبلة رهيبة أمامها، قال: «إطلاقا لا
أبالغ، إن لي مثلا صديقا أعرفه في بغداد، يستطيع بمفرده أن يعطي لإسرائيل
أحدث طائرات الجيش العراقي، وهي الطائرة السوفياتية الميغ-21»، فغرقت
محدِّثته في الدهشة والذهول وهي تقول له: «معقولي؟! هذا جنون مطبق».
قال لها: «أبدا ، لأن صديقي هذا كرر لي كثيرا أنه لو وجد الطريقة
المناسبة فإنه سينتقم من هؤلاء الأوغاد في السلطة بتسليمه طائرة ميغ-21
لإسرائيل». ردت بحرفية وبعفوية: «تعرف أنني كنت أفكر مع صديقة لي بزيارة
العراق، إن جو الشرق يسحرني، ولا شك في أننا سنكون أكثر متعة لو قضينا معا
نحن الأربعة، أنا وأنت وصديقك وصديقتي، أسبوعين أو ثلاثة معا في بغداد
الساحرة، بلد علاء الدين والمصباح السحري».
قال لها وبكل زهو: «بكل سرور، عليك الاتصال بنا فحسب قبل مجيئك من
باريس، لا أقيم في مدينة بغداد ذاتها، لذلك سأعطيك رقم تلفون صديقي في
بغداد وهو سيدبر كل شيء فورا». أعطاها رقم هاتف صديقه، واسمه جوزيف، ثم
غيرت دفة الحديث الى موضوع آخر بعيدا عن السياسة كي لا تلفت انتباهه.
في اليوم التالي، اتجهت الفتاة الإسرائيلية الى مقر عملها في سفارة
بلدها في باريس، والتقت بزميلها مندوب الموساد، وقصت عليه ما حدث، فطلب
منها فورا أن تتابع العلاقة، لكنها أصيبت بخيبة أمل حينما اتصلت به في
الفندق ووجدت أنه غادره صباحًا، ربما إلى فندق آخر أو ربما عاد إلى بغداد،
فأرسل مندوب الموساد تقريرا عاجلا بالموضوع إلى قيادته في تل أبيب.
مجازفة
في تل أبيب توقّف مائير أميت (أو عاميت)، رئيس الموساد، أمام كلمة
«الميغ ـ 21»، فهو تقرير روتيني، لكن تلك الكلمة بدت مثيرة تمامًا،
فالطائرة هي حلمهم وشغلهم الشاغل منذ فترة.
كانت المشكلة أنه حينما عيِّن أميت رئيسًا للمخابرات الإسرائيلية في 25
مارس (آذار) عام 1963، أي قبل عام ونصف، عقد اجتماعات متتالية مع كبار
المسؤولين في وزارات الحكومة الإسرائيلية كافة بهدف التوصل إلى مزيد من
التنسيق بين كل منها وبين الموساد.
حينما جاء الدور على أميت كي يجتمع مع موردخاي هود، رئيس سلاح الطيران
الإسرائيلي، سأله: «ما هي الأولويات التي تتصدر طلبات سلاح الطيران
الموساد؟»، فرد عليه هود بكلمات حزينة: «لدينا طلبات عدة، لكن أخطرها هو
ما يبدو لي كالحلم المستحيل، إننا نريد أن نعرف على وجه الدقة أسرار تلك
الطائرة السوفياتية الجديدة التي حصل عليها العرب، الطائرة ميغ-21».
كانت الأخيرة حصلت عليها كل من مصر وسورية والعراق، وأصبحت تشكّل
العمود الفقري لسلاح الجو في تلك البلاد، وأصبح على إسرائيل أن تعرف أسرار
السلاح الذي ستواجه به في أي حرب محتملة مع العرب.
كانت المشكلة أن السوفياتيين متيقظون تمامًا على أسرار الميغ -21، وكان
إقدامهم على بيع هذا الطراز للمرة الأولى لدول خارج كتلة حلف وارسو يمثل
مجازفة كبرى، لذلك، قبل أن يوافقوا على بيعها لمصر وسورية والعراق اشترطوا
الحصول على تعهدات باتخاذ أكثر الإجراءات صرامة لحماية أسرار الطائرة
الميغ-21 من التسرب إلى أية دولة.
هكذا أصبحت كل واحدة من الدول العربية الثلاث تتخذ إجراءات مشددة
لاختيار نوعية الطيارين الذين يُسمح لهم بقيادة طائرات الميغ-21، فيراعى
في شخصية من يتم اختياره أن يكون محصنًا ضد أي اختراق، لا يقبل الرشوة، لا
يثرثر خارج قاعدته الجوية عن أي شيء يتعلق بالطائرة، ولا يضعف أمام النساء.
من هنا عندما ورد ذكر الميغ في تقرير مندوب الموساد في السفارة
الإسرائيلية في باريس، أضاءت مصابيح الخطر في عقل أميت، صحيح أن كلام
السائح العراقي قد يكون مجرد ثرثرة أو نوع من المزاح، وقد يكون مجرد طُعم
يقدم الى المخابرات الإسرائيلية لتقع في الفخ، فجهاز المخابرات يواجه
يوميًا عشرات الأفخاخ المزيفة والإغراءات غير الحقيقية، وكلما زاد بريق
هذه الإغراءات وجاذبيتها كانت أدعى الى الشك، وفحصها يكلّف وقتا طويلا
ومالا كثيرا، لكن... إنها الميغ-21، إنها حلمنا الكبير... المستحيل.
طلب أميت تقريرا عاجلا خلال 24 ساعة بالتقييم المحتمل لإمكانات
المجازفة، ومن خلاله تبين أن الخطر الأكبر بشأن الشخص العراقي الغامض في
باريس ليس قصته الملفقة، بل أن يكون مجرد أداة لتقديم الطعم للإيقاع
بالمخابرات الإسرائيلية.
المطلوب الآن هو متابعة المخاطرة، والتأكُّد من هوية الإسم، في بغداد
اسم جوزيف ورقم هاتفه، فإذا أوكلت الموساد المهمة الى أحد أفراد شبكتها
الخاصة من الجواسيس السريين في بغداد، فإن أي خطأ سيؤدي إلى الإيقاع
بالشبكة الإسرائيلية كلها. من ناحية أخرى، فإن فحص أحد عملاء إسرائيل
السريين في بغداد رقم الهاتف من خلال مصلحة التلفونات العراقية معناه
المجازفة بانكشافه، لأن ثمة احتمالا قويًا بأن السلطات العراقية تراقب
الهواتف.
مهمّة انتحاريّة في بغداد
هكذا أصبح من الضروري وضع خطة أخرى تنفّذها المخابرات الإسرائيلية،
وتسريب عميل إسرائيلي إلى بغداد، تكون لديه التجربة والخبرة الكافيتان
لعمل تقييم ميداني سريع للموقف من داخل بغداد، وفي الوقت نفسه لا تكون
لديه أية معلومات ذات قيمة عن جهاز المخابرات الإسرائيلية من الداخل، كي
لا يضطر إلى إفشائها في حالة نجاح العراقيين في كشفه والقبض عليه.
قال ميشيل شارون رئيس العمليات في الموساد: «الاحتمال الأكبر لمثل هذا
العميل الذي سنرسله إلى العراق هو أنه سيلقى حتفه، فاحتمال انكشافه أكبر
من احتمال نجاحه، فما رأيك؟»، فرد أميت: «حصولنا على أسرار الميغ ـ 21 أهم
من حياة شخص أو مائة شخص، فإذا كان الذي سنختاره كي يلقى حتفه هناك...
فليكن».
استقر الأمر في النهاية على اختيار الشخص المطلوب، والذي ستقوم إسرائيل
بإرساله سرا الى بغداد، اسمه يوسف منشو (منصور)، يهودي إسرائيلي من أصل
عربي، سبق له التدريب بسلاح المظلات، حاصل على شهادة في الدراسات العربية
من جامعة القدس، وبحكم أصله ودراسته ولغته كان مناسبا جدا للمهمة، فضلا عن
أنه لا يعرف أي شيء عن جهاز المخابرات الإسرائيلية من الداخل، وبالتالي
ليست ثمة خطورة على الموساد في ما لو قبض عليه.
في مكان خاص في تل أبيب بعيدًا عن مبنى الموساد، اجتمع أميت، رئيس
الجهاز، مع يوسف منصور، ليشرح له طبيعة مهمته، فقال له: «تشير المعلومات
التي أدلى بها العراقي الغامض عن جوزيف إلى أنه شخص متعصّب بشدة ضد
الحكومة العراقية القائمة، ومن هنا يمكن أن تأتي خطورته، فمثل هذا النوع
من الأشخاص يمكن أن يتحول من النقيض إلى النقيض في لحظة واحدة، فمثلا
بمجرد أن يتم الاتصال التلفوني بينك وبينه ثمة احتمال أن يبادر هو
بالإتصال بسلطات الأمن العراقية كي يثبت لهم ولاءه، لكن عليك ألا تشغل
بالك بشيء، لأننا نرتب للأمر بتفاصيله كلها».
كان الترتيب الذي أشار إليه رئيس الموساد متميزا، فأمام خطورة المهمة
واحتمالاتها المتأرجحة في بغداد، رفض أميت أن يضحّي بأي احتمال لانكشاف
شبكة جواسيسه السرية في بغداد، في حال القبض على يوسف منصور، لكن في الوقت
نفسه أخذ التفكير اتجاهًا آخر.
قبلها بسنوات قليلة، كان جهاز الموساد أقام في أوروبا شركة لصناعة
الأجهزة الكهربائية والطبية وبيعها، وأُنشأها خصيصا، كي تبرم أكبر عدد من
الصفقات التجارية مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية، وبينما كانت هذه
الشركة تحقق أرباحا لا بأس بها كل سنة، فإنها كانت غطاء كافيا لعملاء
المخابرات الإسرائيلية، الذين تريد إسرائيل تسريبهم بين وقت وآخر إلى
الدول العربية على أساس أن العميل المخابراتي هنا سيدخل على أنه بريطاني
أو ألماني أو فرنسي الجنسية، وباعتباره ممثل مبيعات لشركة أوروبية كبرى،
وتحت الستار التجاري يجمع المعلومات لحساب إسرائيل، من دون أن تعرف الدولة
أنها تتعامل مع جهاز المخابرات الإسرائيلي.
أدرك أميت، رئيس المخابرات الإسرائيلية، أنه لو نجح العراقيون في كشف
الشخصية الحقيقية ليوسف منصور، فإن القبض عليه سيقودهم بالضرورة إلى الكشف
عن حقيقة تلك الشركة ودورها السري، ومن ثم ثمة احتمال أن تضطر المخابرات
الإسرائيلية إلى إيقاف نشاطها والتضحية به، لكن يقابل ذلك أن الصيد
المطلوب الآن هو أسرار الطائرة الميغ ـ 21 ، وذلك يكفي للمغامرة بأي شيء.
قضى العميل الإسرائيلي يوسف منصور أربعة أسابيع في التدريب المكثّف على
معدات أشعة إكس، لأنه سيسافر الى بغداد باعتباره مواطنا إنكليزيا خبيرا في
تلك المعدات، وممثلا عن الشركة المشار إليها في الترويج لمبيعاتها
المختلفة في العراق، وبعدما أتقن حفظ دوره تماما، تقرَّر أن يسافر فورا
إلى بغداد.
ماذا فعل منصور في بغداد؟ هل نجح في مهمته الخطيرة؟ ذلك موضوع حلقتنا المقبلة... انتظرونا.
غداً