كان ضمن ثلاثي طبي منح فرنسا نوبل حول السيدا، البروفيسور كمال صنهاجي، لـ"الشروق"/ الجزء الثاني والأخير
علماء الجزائر لا يطلبون أكثر من الاحترام ولا تهمهم أموال لاعبي الكرة
يواصل البروفيسور كمال صنهاجي، أحد المعول عليهم في العالم للقضاء على داء السيدا، حديثه بوجهيه العلمي والسياسي مع كثير من الألم على واقع الجزائر الراهن، هذه المرة، في الجزء الثاني من الحوار الصريح الذي أجرته معه "الشروق اليومي"، وبقدر ما يكرّر من لحظة إلى أخرى استعداده لوضع خبرته تحت تصرّف الطلبة الجزائريين والجامعات الجزائرية، بقدر ما يتشاءم من مستقبل علمي وحتى سياسي يراه غامضا، وفي كل الأحوال يقدّم البروفيسور صنهاجي صورة عن وطنية عالم جزائري، لا نفهم لماذا لا تستغل الجزائر علمه ووطنيته في طبق فضي للبلاد التي يعتز بانتمائه إليها، في الوقت الذي لايكاد الرجل ينزل من طائرة بمطار دولي حتى يركب أخرى بمطار آخر، ولا يكاد ينتهي من محاضرة حتى يباشر أخرى.
كيف تفسر عودة بعض الأمراض البدائية انقرضت في معظم دول العالم بقوة إلى الجزائر وتقتل الناس أيضا؟
هذا مؤشر خطير عندما نرى أمراضا منقرضة تعود وتفتك بأبنائنا مثل السل والكوليرا والأمراض المتنقلة عبر المياه، والمرتبطة بنقص النظافة، الأزمة ليست تكوين فقط، وإنما أخلاق أيضا، يجب دفع المواطنين نحو التربية والتكوين من أجل وقاية أنفسنا من مثل هذه الأمراض التي انقرضت في غالبية دول المعمورة، هذا الإهمال تدفع الدولة ثمنه غاليا، وكما يقال يمكننا دفع دينار واحد للوقاية لنتفادى دفع الملايير وأرواح الناس في العلاج.
.
الجزائر تمكّنت في السنوات الأخيرة من استرجاع لاعبي كرة من أصول جزائرية، ومنهم من لعب تحت الراية الفرنسية، ومع ذلك هم حاليا يمثلون الجزائر، لماذا لا تقوم الجزائر بنفس المحاولة مع الكفاءات المتواجدة في أوربا وأمريكا بالخصوص؟
هو خطأ كبير أن نُفرش الورود للاعبي كرة القدم فقط، مع احترامي للرياضة وكوني أمارسها وألعب الكرة أيضا، وأشجع المنتخب الجزئري، ولكن أن نهمل بالمقابل الكفاءات العلمية فذاك ما يحز في نفسي، رجل العلم الجزائري لا يطلب مثل لاعب الكرة المال، ولا تكاد تزيد مطالبه عن توفير إمكانات البحث بقدر المستطاع، ويمكن استدراج أي رجل علم جزائري بإشارة احترام .. وفقط.
صدقني، أحاضر أحيانا في بعض الجامعات من الطارف إلى تلمسان، وكلما لقيت اهتمام الطلبة والباحثين وتلهفهم على البحث العلمي، أشعر بأنني أسعد إنسان في العالم، وأتلهف إلى بريدي الإلكتروني انتظر دعوة من أي مكان في الجزائر لأستجيب لها، بالرغم من أعمالي الكثيرة في مخابر فرنسا وجامعاتها وغيرها من البلدان.
.
هل يمكن أن نحلم بأن تحصل الجزائر يوما على جائزة نوبل في الطب أو في غيره من العلوم؟
ثقافة البحث العلمي هي الشرط الأهم للحصول على جائزة نوبل، هذه الثقافة غائبة في كل البلدان العربية، ومنها الجزائر على وجه التحديد، عكس الهند وباكستان اللتين حصلتا عليها وهما مرشحتان لمزيد من الفتوحات العلمية، مثلا فرنسا حصلت على 55 جائزة نوبل في الطب والفيزياء، هم يشجعون البحث العلمي، والتقشف يمسّ كل القطاعات إلا البحث العلمي، بل إنه خيار سياسي مهما تغيرت الأحزاب الحاكمة والرؤساء، لا يمكن أن يتراجعوا عن هذا الخيار، الجزائر يمكنها الحصول على جائزة نوبل في الطب عندما تهتدي إلى ثقافة البحث في أقرب وقت، وسر النجاح يبدأ بالاستثمار في المدرسة، لأن الاستثمار في المدرسة هو الاستثمار في الإنسان.
.
لكن هذه الثقافة غائبة، فكيف نحرّك جمود المسؤولين ومسيّري المستشفيات؟
أنا أؤمن بأن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وأؤمن بأن الجهل والتخلف لا يمكن أن يكون قدر أمة دون غيرها من الأمم، الأهم هو العمل والكفاح لأجل الوصول، في 2010 صرفت الجزائر 178 دولار على كل مواطن في الصحة، وهذا رقم أقرب للفضيحة، وتونس صرفت 238 دولار وليبيا 484 دولار، المؤلم أن بلدانا أفقر من الجزائر تاريخا ومالا وعلما تنفق على البحث العلمي وعلى صحة مواطنيها أكثر مما تنفقه الجزائر، وأنا لا أتحدث عن بلدان بحجم الجزائر مثل الشيلي وإيران وتركيا التي تصرف سبعة أضعاف ما تنفقه الجزائر على الفرد الواحد .. للأسف الجزائر دولة غنية وبلد فقير، وأقول لك هذا وأنا أتعذب من هذا التناقض الغريب.
.
نترك البحث العلمي، وهذا الألم وننتقل إلى ألم آخر وهو عالم السياسة، كيف انضممت إلى جبهة التحرير الوطني وأنت من العلماء الكبار؟
عندما كنت طالبا في الطب في جامعة ليون كنت أنشط ضمن ودادية الطلبة الجزائريين في أوربا، وكانت الودادية تابعة لجبهة التحرير الوطني، الانتماء للوطن في السبعينيات من خلال الجمعيات كان يمر عبر جبهة التحرير الوطني، الطلبة الجزائريون كانوا من ذوي المستويات العليا والطموح اللامحدود لنقل بلدهم إلى مصاف الكبار، وحصلت على أول بطاقة انتماء للحزب العتيد عام 1979، مستوى الجبهة في الخارج كان عال جدا في ذلك الوقت، الطلبة كانوا مرآة ناصعة، وتحوّلوا إلى خطر على المستفيدين من الحزب الوحيد، كنا جميعا مثقفين ومتعلمين ومتحررين، حاولنا أن نقود القافلة وكنا نختلف عن رجالات الأفالان في الداخل، كنا نقدم وجها مختلفا عن أداء الحزب الواحد، هم كانوا يقولون عنا أننا خطر على الأحادية السياسية في الجزائر، لكن بعد هذا المشوار اقتنعت أنه بإمكاني أن أعطي لبلدي في ميدان العلم أكثر، كنا نؤدي عملا وطنيا قاعديا وكانوا يهدمون ما نقوم به، فعدت إلى الأبحاث العلمية واعتكفت بين المخابر والجامعات واقتنعت بتقديم العون العلمي لبلدي كلما سنحت لي الفرصة، إلى أن اتصل بي السيد علي بن فليس عام 2002 واقترح علي المشاركة في الانتخابات التشريعية.
.
هذا يعني أن الفرصة سنحت لك لتقول كلمتك من منبر تشريعي؟
فعلا، كنت مترددا، بل رافضا للفكرة، اقترحوا علي الترشح في جنوب فرنسا، رفضت في البداية، وقلت لهم أن وقتي لا يسمح بممارسة الأبحاث العلمية والسياسة معا، لكن عندما علمت ما يمكن أن أقدمه وإمكانية التوفيق بين المجالين، قبلت وفزت بأصوات مريحة من الناخبين، تحت مظلة الحزب العتيد، وصرت نائبا عن الجالية الجزائرية القاطنة في جنوب فرنسا.
.
هناك من يقول أن مشكلة الأفالان أنها انتقلت الآن من المستويات المتواضعة لطاقمها إلى اعتمادها على أصحاب النفوذ، أو كما تسمى محليا الشكارة؟
الأفالان انحرف عن وظيفته الهامة، وهي تطوير المستوى الإجتماعي والاقتصادي والثقافي للمواطنين، من المفروض وضع خارطة طريق أو ورقة عمل يسير عليها الحزب ولا تتزعزع مهما تغيّر الرجال، قيادة الحزب الآن هي لأناس من عالم آخر، وظهور الانتهازيين وأصحاب الشكارة الذين لا مبادئ لهم ولا أهداف هو نتاج هذا الضياع.
.
لماذا دخلت البرلمان؟
أنا رجل علم، ولست الوحيد في ميدان العلم ولست الأحسن، لم أدخل البرلمان لآخذ، وإنما لأقدم بطريقة رسمية لبلدي، كنت أقترح فقط برامج نقل التكنولوجيا إلى بلدي، ولكني للأسف كنت أغرد خارج السرب، وأسبح عكس التيار.
.
كيف تلخص حالة الحزب العتيد الآن، وهو الذي اكتسح الساحة في كل الانتخابات المحلية والبرلمانية الأخيرة؟
دعنا نقدم صورة يمكن للكفيف رؤيتها، من خلال التشريعيات إلى مجلس الأمة مرورا بالمحليات، ونحن على بعد سنة واحدة من الانتخابات الرئاسية، أنا أرى الأفالان يمشي على رأسه، هو حزب ينتحر، يجمع حاليا أسوأ الناس، لم يعد حزبا محترما من طرف المواطنين كما كان في السابق، إنه كمن يقطع الغصن الذي يجلس عليه، كمن يغرق باخرته ويُقطّع شرايينه، حزب يتعرض لنزيف قاتل، الأفضل أن يوضع في المتحف، صرت أتمنى أن يرحل الحزب عن الدنيا محتفظا بما تبقى له من شرف وكرامة، وألا يمرغوه في التراب.
.
ما الذي قدمته في سنواتك البرلمانية للوطن؟
لكل مسار مساوئ، لكن برغم قصر الفترة الانتخابية التي قضيتها في بداية الألفية، إلا أنني تمكنت من وضع حجر الأساس لمخبر أبحاث عن السيدا ولزرع الأعضاء، وتمكين بعض المرضى من العلاج بأقل التكاليف في أكبر المستشفيات الأوروبية، كما عملت لصالح الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، وتمكنا من حل مشاكل الميراث والطلاق، هناك رجال سياسة وظيفتهم أن يشكروا كبار الدولة وخدمة الأمير فقط، وأظن أني بكل تواضع نجحت في عملي، لأنني تميزت بصبر الباحثين الذين يفنون العمر من أجل العطاء ولا يهمهم ان وصلوا إلى الهدف الآن أو غد أو لم يبلغوه، من الصدف التي لا أنساها أنه في اليوم الذي تم ترشيحي للبرلمان عام 2002 دعاني الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، ومنحني وسام فارس العلم الذي لا يسلم إلا لكبار الباحثين نظير أبحاثي في مرض السيدا، كنت وأنا أدخل قصر الإليزي والصحافة العالمية تتابع المشهد، وأتسلم التكريم أشعر وكأن الجزائر بأكملها من تُكرّم.
.
لو طلبوا منك اقتراح حل لإخراج الحزب العتيد والسياسة ككل من أزمتها، ماذا تقول؟
للأسف كلما ظهرت بوادر عمل قاعدي ورجال أكفاء وشرفاء، إلا وجمع الإنتهازيون قواهم وسارعوا للانقلاب، كما حدث لعبد الحميد مهري وبوعلام بن حمودة وعلي بن فليس، فبعد سنة 1988 أصبح الأفالان حزبا معارضا بسبب ما قدّمه مهري وبن حمودة من استقلالية واضحة عن النظام، كانت لهما برامج ورؤى جديدة بعدية عن التصفيق والتبعية، كما أن علي بن فليس باشر عملية التشبيب واستقدام الكفاءات، الحالة التي بلغها الحزب العتيد تتطلب ما نقوم به طبيا وهو الصدمة العلاجية التي تنسف الفيروس نهائيا، يجب تغيير الرجال.
.
تعرفت على رجالات الأفالان، كيف تقيّم المرشحين للقيادة حاليا؟
للأسف، ثقافة الدولة ليست في متناول غالبيتهم، سبق لي وأن تبادلت الأفكار في جلسة مطولة مع الراحل عبد الرزاق بوحارة، كان رجلا ذكيا وقادرا على جمع الفرقاء، أنا لا أفهم كيف لبرلماني انتخب الشعب عليه، ينسى الشعب، ويخدم السلطة، وهو حال رجالات الأفالان حاليا. الأفالان عليه أن يولد من جديد، أن يكون حزبا مستقلا عن النظام، ببرنامج سياسي خاص، وليس لتدعيم برامج غيره، عليه أن يكون متفتح على الآخرين وعلى العصر، عليه استجماع الكفاءات وليس أهل المال كما يحصل الآن، أن يقدم مشروع مجتمع، بالنسبة للأسماء يوجد الكثير من الكفاءات في شتى المجالات، من أصحاب الخبرة والشهادات العلمية الرفيعة.
.
أذكر لنا بعض الأسماء؟
أنت تصرّ على الأسماء، رغم أن الحلول ليست أسماء، وإنما منظومة كاملة، وأنا أقدم لك بعضها لأجل تأطير الشباب وبعث الحزب من جديد دون السيطرة عليه، مثل كمال بوشامة وعبد الرشيد بوكرزازة ومولود حمروش وعلي بن فليس وزهور ونيسي، وغيرهم كثيرون، أعلم أن الافالان يعلم طريق الخلاص ويدركها، وأرجو أن يسلكه حتى لا نحضر جنازته.
مصدر