بين الرابع والسابع من شهر حزيران/ يونيو المقبل، يكون قد مضى 75 عامًا على معركة ميدواي، وهي المعركة التي انتصرت فيها الولايات المتحدة في الحرب في المحيط الهادي، وحالت دون هزيمة بريطانيا وروسيا. وجرت معارك جزيرة غوادل كانال، والتي تبعت معركتي العلمين وستالينغراد، في النصف الثاني من عام 1942. وبعد عامين مليئين بالرعب – حيث لم تبدي اليابان وألمانيا أي استعدادٍ للتنازل – انتهت الحرب مع بداية عام 1943.
وكانت هذه معارك استثنائية ضمن حرب استثنائية. وأريد أن أكرِّس بعضًا من وقتي في هذا العام للحديث عن كل معركة في تاريخ ذكراها، كما سأحاول أن أوضح مدى ارتباط هذه المعارك ببعضها البعض، باعتبارها معارك منفردة لكن ذات نتائج متراكمة وشاملة كان لها دور في تحديد نتيجة الحرب. وهدفي في نهاية هذا العام هو أن أشير إلى أن قتالًا واحدًا منفردًا، والذي بدأ بمعركة ميدواي وانتهى بمعركة ستالينغراد، قد حدد مصير البشرية.
الحروب الشاملةإن الاهتمام بهذا الموضوع ليس مجرد ترف. وينبغي أن لا ننسى أن المعارك التي استمرت من حزيران/ يونيو 1942 وحتى شباط/ فبراير 1943 قد توِّجت بمعركة سلاميس، عندما كبح اليونانيون اندفاع الفرس نحو أوروبا؛ بالإضافة لمعركة غابة تويتوبروغ، عندما أعاق الألمان تقدم الجيش الروماني؛ أو معركة ليبانتو، عندما وقف مسيحيو أوروبا في وجه توسع المسلمين العثمانيين. لقد حددت هذه المعارك مستقبل الحضارة، فالمعارك التي دارت بين حزيران/ يونيو 1942 وشباط/ فبراير 1943 قد حددت مستقبل العالم بأجمعه.
لقد حددت الحرب العالمية الثانية معالم الحضارة الدولية التي نعيش ضمنها اليوم. حيث أنهت مشروع أوروبا الاستعماري، وفتحت الباب أمام صعود أميركا كقوة دولية، وصنعت ما يسمى بالعالم الثالث وهيئَّت الفرصة لبروز الآسيويين كلاعبين أساسيين في الساحة الدولية. كما ولَّدت الحرب حالةً من عدم الثقة بالقومية، وهو ما أدى لصعود المؤسسات متعددة الجنسيات وحوَّلت الاهتمام بالتكنولوجيا إلى هوسٍ بقوتها الفدائية. نحن نعيش في ظلال الحرب العالمية الثانية وضمن الثورة العالمية الحالية ضد العالم الذي خلَّفته.
ومن المهم نقاش كل ذلك، ولكن حتى نفهم الحرب، فينبغي لنا أن نفهم شروطها الداخلية وقوانينها الخاصة. يتحدث الكثيرون عن الحرب من دون إبداء الرغبة بفهم منطقها، ابتداءً من حمولتها العسكرية وانتهاءً بمخزون المؤن الذي يجب أن يتدفق إلى أرض المعركة. فالحرب هي لعبة التفاصيل، وينبغي أن تُقرأ هذه التفاصيل ضمن منطق الحرب وأهدافها.
تمتلك الحرب العالمية الثانية منطقًا خاصًا تستفرد به. فيترحُّم الكثير من الأميركيين على أيام اتحادهم تحت راية الحرب، وهو يسيئون فهم الحرب العالمية الثانية بظنهم أن الأميركيين قد انخرطوا وللمرة الأولى في حرب تحمل قيمًا مشتركة. ولكن هذا يختلف عن واقع الحال، فالثورة الأميركية والحرب المكسيكية الأميركية والحرب الأهلية والحرب الإسبانية الأميركية كانت تعبِّر جميعها عن صوت وغضب فصيل اجتماعي على هذه الحرب وفي وقت حدوثها.
إن معارضة الحرب الفيتنامية أو العراقية كانت هي معيار معارك الأميركيين، ولكن تمتلك الحرب العالمية الثانية (والحرب العالمية الأولى بدرجة أقل) فرادة من ناحية وحدتها، وذلك لكونها حربًا فريدة.
أفرِّق بين نوعين من الحروب: الحروب السياسية، والتاريخ مليء بهذا النوع من الحروب؛ والحروب الشاملة، وهي حروب نادرة في التاريخ.
الحروب السياسية هي الحروب التي تهدف لتحقيق غايات محددة، هذه الغايات مهمة ولكنها ليست مصيرية، بمعنى أن خسارة هذه الحرب لا يؤدي لكارثة للدولة، وهذا ينطبق على معظم الحروب، وقد تؤدي لنتائج واحدة أو متعددة. فالحرب الكورية كانت تهدف لإظهار سعي الولايات المتحدة لمقاومة الشيوعية، وهدفت الحرب الفيتنامية لتعزيز موقع الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا – إنه هدف محدد ولكنه ليس حاسمًا – بالإضافة للمحافظة على مصداقية التزام الولايات المتحدة لنظام التحالف الذي تعتمد عليه. وتنتشر الحروب السياسية عبر تاريخ جميع القوى الدولية، حيث لا تهدف بالضرورة لتحقيق الفوز بالمعنى التقليدي بقدر ما تهدف لحل أو تحقيق مجموعة محددة من الأهداف السياسية، حيث يمكن المفاوضة على آلية الهزيمة. تبدو هذه الحروب أمرًا تافهًا وغير ضروري بالنسبة لبعض القطاعات في المجتمع التي تعمل على معارضتها، وهو ما يتم التغاضي عنه بحكم أن نتيجة هذه الحروب لا تستلزم ضرورة إخماد المعارضين.
في حين تختلف الحروب الشاملة عن النوع الأول في أمرين أساسيين، الأول هو أنها حتمية ولا يعد تجنُّبها خيارًا ممكنًا، والثاني هو أن خسارتها ستؤدي إلى نتائج كارثية. فهي لا ترتبط بمصالح سياسية عابرة بقدر ما ترتبط بتحولات بنيوية في النظام العالمي.
ولا تحدث هذه التحولات بشكل مقصود من دولة ما، بل هي تعبِّر عن الصعود والهبوط المحتوم للدول، وما يترتب عليه ذلك من اختلال في التوازن وعدم القدرة المحتومة على العودة لحالة الاستقرار، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان لنشوب الحروب. وهذه الحروب نادرة الحدوث بحكم التباعد الزمني بين حدوث التحولات البنيوية وبطء نضجها والمدة الزمنية التي تحتاجها لتغيير القوى السائدة إلى حين أن تؤدي في النهاية إلى إعلان الحرب.
يمكن اعتبار الحروب النابليونية في أوروبا، القرن التاسع عشر، كحروب شاملة، وهو ما ينطبق أيضًا على حرب السبعين عامًا في القرن الثامن عشر، بالإضافة للغزو المغولي والاستعمار الأوروبي، فجميعها حروبٌ شاملة كانت ذات نتائج حاسمة. والحرب العالمية الثاني هي حرب شاملة، يجادل البعض بأنها كانت مجرَّد استمرار للحرب العالمية الأولى، وهذا صحيح بالنسبة لأوروبا، ولكن تختلف الحرب العالمية الثانية عن الأولى في أمر جوهري والذي يتمثَّل في حرب المحيط الهادي بين اليابان وأميركا والتي أضافت بعدًا جديدًا لها.
إعادة التوازن للنظامنشبت كلا الحربين العالميتين كنتيجة لصعود وهبوط موازين القوى. ففي القرن التاسع عشر، بدأت ثلاثة قوى سياسية بالبروز، وهي ألمانيا واليابان والولايات المتحدة. حيث أدت ألمانيا إلى زعزعة استقرار أوروبا، بينما أدت اليابان إلى زعزعة استقرار شرق آسيا، في حين أدت الولايات المتحدة إلى زعزعة استقرار العالم.
فقد عمل توحيد ألمانية في عام 1871 على تشكيل قوة هائلة من الديناميات الاقتصادية، ولكنها كانت ضعيفة أمام الضربات العسكرية الروسية والفرنسية والحصار البريطاني. وكانت اليابان أيضًا مولدًا اقتصاديًا فعالًا، ولكن بحكم افتقادها للموارد الطبيعية فقد كانت غير قادرة على الحفاظ على قاعدتها الصناعية من دون واردات النفط والمعادن الصناعية الأخرى، حيث كان وصولها لهذه المصادر مرهونًا برغبة المورِّدين بالبيع وقدرتهم على نقلها عبر المياه الواقعة تحت سيطرة القوات البحرية الأميركية والبريطانية. كانت القوتين الاقتصاديتين البارزتين غير مؤمَّنتين عسكريًا، وهو ما أجبرهم على السعي لعمل تعديلات على موازين القوى ضد القوى القديمة والضعيفة.
في حين مثَّل صعود الولايات المتحدة التحول الجذري الأكبر. فقد أصبحت الولايات المتحدة القوة الاقتصادية الرائدة في العالم وخلال مدة قصيرة. وكانت نقطة ضعف الولايات المتحدة الوحيدة هي البحر، بينما القوى البحرية الأساسية هي بريطانيا واليابان، ولذلك عملت الولايات المتحدة على بناء أسطول بحري هائل، وهو ما زعزع اليابان وأقلق البريطان.
ولكن كانت هناك حقيقة تتخفى وراء ذلك. فقد بنيت الإمبراطورية الأوروبية، وبريطانيا تحديدًا، على توازن من القوى قد أصبح غائبًا الآن. فالنظام القائم لم يترك مساحة للألمانيين واليابانيين، كما أنه لم يكن هناك مكان للأميركيين. ولم يسعى الأميركيون لبناء إمبراطورية، ولكنهم رفضوا فكرة أن يتم إقصاءهم عن النشاطات الاقتصادية التي تشغلها الإمراطوريتين البريطانية والفرنسية. وقد كان هذا النظام الذي همِّش الولايات المتحدة واليابان وألمانية، غير قابل للاستمرار.
تتسم الحروب الشاملة بالتعقيد، حيث تتغير التحالفات وتتنافر دوافع الحلفاء. فاليابانيون كانوا يخشون من أن يؤدي الهجوم على بيرل هاربر إلى قيام الولايات المتحدة بشن حملة حصار، وكان اتفاق الولايات المتحدة مع بريطانيا مشروطًا بسحب البريطانيين لقواعدهم البحرية المتمركزة في الشق الغربي القريب من الولايات المتحدة، في حين قاتل البريطانيون من أجل المحافظة على إمبراطوريتهم، بينما فرحت الولايات المتحدة عند انهيار الإمبراطورية البريطانية، ومع ذلك دعم كلاهما عمليات القوات السوفيتية ضد ألمانية. لا أسعى هنا لكتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية بقدر ما أود الإشارة إلى أن الحروب الشاملة تتضمن العديد من الدول، أي أنها تميل لأن تكون حربًا دولية ومعقَّدة. كما تحدد نتائجها مصير الدول والعالم أيضًا.
يمكن قياس الحرب الشاملة من خلال درجة تغير الأنظمة الجيوسياسية. كان التغير الأول في حصلية الحرب العالمية الثانية هو انهيار جميع الإمبراطوريات الأوروبية خلال العشرين سنة من بعد نهاية الحرب. أما التغير الثاني فقد تمثَّل في صعود الولايات المتحدة، ليس باعتبارها قوة اقتصادية فحسب بل باعتبارها قوة عسكرية مسيطرة أيضًا. كما انهارت اليابان وألمانيا – وهما دولتان برزتا مع صعود الولايات المتحدة – بعد الحرب، ثم ظهرتا مرة أخرى كقوى اقتصادية بالدرجة الأولى وبقوة محدودة في العالم. وفتحت هزمية اليابان الباب أمام صعود نظام شيوعي في الصين، والذي نجح من خلال نظام معقَّد مكَّن الصين من أن تبرز كقوة اقتصادية رئيسية.
وكانت المرحلة الثانية من التاريخ عبارة عن صراع دولي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. تضمنت هذه المواجهة عملية تطويق إستراتيجي حول الاتحاد السوفيتي ومنافسة بين الطرفين على السيطرة على بقايا الإمبراطورية الأوروبية. كما تألفت أيضًا من صدام القوى النووية، وهي الأسلحة التي برزت من الحرب العالمية الثانية.
قوة الفرصة والإرادةتصعد القوى وتسقط، ولكن هذا لا يحدث بسرعة، إنما يحدث بتحولات عميقة في بنى المجتمعات. وتستلزم مرور أجيالٍ وقرونٍ حتى، بمعنى أنها فترة أطول من أن يحددها قائد ما أو أن تتحدد بالانتخابات.
والأمر الحاسم في هذه القصة هو الحروب. فالحرب، والحروب الحديثة تحديدًا، تنبع من ضرورتها. إن الحروب الحديثة هي حروب الإنتاج الصناعي، حيث يشكِّل حجم وإنتاجية المصنع نتائج الحروب، بالإضافة لدور القدرة على تحطيم الإمكانيات الصناعية للعدو. وفي نفس الوقت، هناك لحظات في الحروب الشاملة لا تُظهِر وجود علاقة مع طبيعة تشكل الحرب، بقدر ما ترتبط بمتانة النظام الاجتماعي، أي التزام المقاتلين والفرص التي تبرز أثناء الحرب.
تتسم الجغرافية السياسية – كما بينت – بقدرتها على التنبؤ. فإذا أخذت في عين الاعتبار البنى العميقة والحاجات الملحة والمعيقات المحيقة بالدولة - الأمة، وتجاهلت البعد الشخصي والرأي العام الحالي، فسيكون بإمكانك إدراك مسار العملية لتتنبأ بمجرى الأمور. فأنت تستطيع التنبؤ بالأطراف التي ستكون فاعلةً في الحرب ومن سينتصر فيها أيضًا. ولكن في الحرب يبرز أثر القوى الجانبية التي تتمثل في الإرادة والفرصة والتي تتكامل مع بعضها لتشكِّل نتيجة الحرب، وهو ما يضيف لها بعد المفاجئة إذا ما خرقت التوقعات.
لقد تجلَّت هذه الإمكانيات الجانبية بين شهر حزيران/ يونيو 1942 وحتى شباط/ فبراير 1943، فقد جعلونا نتفاجئ، خاصة في ما يتعلق بنتائج الحرب، وأيضًا بالنتائج غير المتوقعة التي يمكن أن تؤول إليها. وبعد 75 سنة من معركة ميداوي وغوادل كانال والعلمين وستالينغراد، لا يوجد إلا قلة قليلة من الأشخاص ممن شاركوا في هذه الحروب وما زالوا على قيد الحياة. وهذه نقطة مهمة علينا أن نأخذها في عين الاعتبار خلال الأشهر القادمة، حيث يتوجب علينا أن نشكِّل منظورًا – من خلال استذكار الأحداث الماضية – يقدم صورة أوسع عن الثمانية أشهر هذه التي أعادت تشكيل العالم.
ما يتوجب التركيز عليه هو البنية العميقة للأشياء، ولكن في الحروب الشاملة ينبغي أن تُفهم طبيعة المعارك، وضمن القوانين الخاصة بالحرب. ففي مقابل التاريخ الذي يسير ببطء من وجهة نظر الإنسان، فإن الحروب تُحسب بالثواني والدقائق والساعات والأيام.
إن الحروب الطويلة التي نتحدث عنها اليوم هي حروب سياسية، في حين تقوم الحروب الشاملة بتمزيق العالم إربًا لتعيد صياغته في ظروف سنوات، حيث تتحدد المسألة في غضون دقائق. وخلال أسبوعين من الآن، سوف نبدأ بالحديث عما أعتبره المعركة الحاسمة في الحرب العالمية الثانية وجميع القوى المقاتلة، وهي معركة ميدواي، عندما وقف الحلفاء على حافة الهزيمة قبل أن ينتصروا، وكل ذلك بفضل الأحداث الذي حصلت في غضون دقائق.
المصدر هنا