عبد ضعيف
مســـاعد أول
الـبلد : التسجيل : 16/07/2011 عدد المساهمات : 513 معدل النشاط : 716 التقييم : 21 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: دراسة جيوسياسية تاريخية متميزة: مآلات الثورات الشعبية وخلفيات الثورة المضادة د.أكرم حجازي الإثنين 15 أبريل 2013 - 1:04 | | | [center]مآلات الثورات الشعبية وخلفيات الثورة المضادة
قراءة موضوعية وعقدية
دراسة أعدت لمؤتمر منتدى المفكرين المسلمين
بعنوان:
الرؤية الفكرية للأمة بعد الثورة العربية: دراسة للواقع واستشراف المستقبل
القاهرة
13 - 14 / 4 / 2013 م - الموافق 3 و 4 جمادي الآخر 1434 هـ
د. أكرم حجازي
تساؤلات ملحة
رغم مرور أكثر من سنتين على انطلاقة الثورات العربية، بدءً من تونس، إلا أن المؤشرات المنفرة منها، لدى عامة الناس، وكثير من النخب، غدت أكثر من المؤشرات المبشرة. فالثورات الشعبية باتت محاصرة بـ »ثورات مضادة « تنتظم وتنشط في (1) صيغ قوى محلية، أو (2) تدخلات إقليمية، سياسيا وماليا وأمنيا، أو(3) محاولات احتواء دولية، بدءً من الضغوط الاقتصادية، مرورا بالضغوط السياسية، وبالتأكيد ليس انتهاء بالضغوط الاجتماعية والمطالب القانونية والحقوقية وغيرها.
في محصلة الأحداث التي خلفت الكثير من القلق والمخاوف والتشكيك وسوء الظن بالنظر إلى ثقل الحصيلة التي أنتجتها الثورات، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، ثمة من يتساءل: عما إذا كانت الثورات قد حققت أهدافها؟ فيما يراقب آخرون: ما يعتقدون أنها حالة احتضار تشهدها الثورات، وثالث: يتهم قوى مضادة أو متسلقة بسرقتها، ورابع: يشكك في الجدوى من ثورات لم يتمخض عنها إلا شلالات من الدماء ودمار في البنى التحتية ومؤشرات على انهيارات اقتصادية وغياب للأمن وشيوع للفوضى والفتن بدلا من الاستقرار.
وفي مثل هذه الأحوال يميل الناس إلى مفاضلة يائسة بين ماض مستبد، ثاروا عليه وعلى رموزه، لكنه آمن، وحاضر، قانوني أو قيمي أو حتى شرعي، تستنزفه الفوضى بلا رحمة. وفي مثل هذه الأحوال، أيضا، تصاعدت نبرة شريحة من الناس ترى في الثورات العربية مجرد تعبير عن » فوضى خلاقة«، صنعتها الولايات المتحدة .. هذا المفهوم الذي ظهر سنة 1992 وجرى ترويجه على نطاق واسع بعد غزو العراق في20/3/2003 .. ولا هدف منه إلا تدمير الدول وتخريب النسيج الاجتماعي وإعادة رسم جغرافيا المكان عبر» سايكس – بيكو« جديد.
باختصار: إذا كان الإسلاميون الذين وصلوا إلى قمة السلطة يخسرون لصالح الخصوم، سواء كانوا من اللبراليين والعلمانيين أو من رموز » الثورة المضادة«، فكيف يمكن الركون إلى القول بأن الثورات حركة اجتماعية تدفع بالأمة نحو التحرر من » الاستبداد« و » التبعية« و » الهيمنة«؟ وكيف يمكن الثقة بأن الثورات الشعبية هي الوسيلة المناسبة لإحداث التغيير؟ والأهم: هل التغيير » خيار طوعي« للأمة أم » خيار حتمي«؟
أولا: المشهد العام في دول الثورات
لعل أبرز ما يميز الثورات العربية أنها خلت من أي أطر فكرية حتى هذه اللحظة. بل أن القوى التقليدية هي التي تسلقت على ظهورها، وحولتها إلى ميادين لصراعات سياسية، وقبلت مجتمعةً بالعمل وفق الأطر السياسية والفلسفية الموروثة. وأسوأ من هذا أنها توجهت نحو » المركز«، بشقه الغربي، أملا في انتزاع »شرعية« العمل السياسي أو لتقديم » ضمانات« سياسية وأمنية، تبدد مخاوفه من الإسلام، إما بادعاء »الوسطية« و » الاعتدال« وإما القبول بصيغة » الدولة القومية« و » النظام الدولي« وشروطه التاريخية التي لم تغادر ساحات » الأمن، و » إسرائيل«، و » مكافحة الإرهاب«، و » حقوق المرأة«، و »الأقليات«، و » المدنية«، و » الديمقراطية«، و » التعددية«، و » التسامح«، وغيرها من الشروط التي تجرد الأمة من أي تاريخ أو هوية، إلا من وقائع المائة سنة الماضية!! وكأنها الرصيد التاريخي والشرعي الوحيد، والمقبول دوليا، فلا رصيد قبله ولا مستقبل بعده. ويكفي النظر إلى دول الثورات لنكتشف أن ما يجري أشبه ما يكون بالفوضى العارمة، التي تنذر بخراب لا مثيل له.
فالإسلاميون، مثلا، في مصر فازوا بأكثر من ثلثي المقاعد، وتبوؤوا منصب الرئاسة، لكنهم في الواقع عاجزون عن ممارسة الحكم، وعاجزون عن الدفاع عن أنفسهم، وعاجزون عن رد الاتهامات. بل أن » الثورة المضادة« بدت شديدة البأس إلى الحد الذي تجرأت فيه، منذ الأيام الأولى للثورة، على الله سبحانه وتعالى، وعلى » الشريعة« و » السلفيين«(1)، ثم ما لبثت أن قدمت لائحة دستورية ملغومة بالمادة 28، أزاحت بموجبها مرشحين للرئاسة عن المنافسة كالشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، وقدمت، عبر المجلس العسكري أطروحة » المبادئ الحاكمة للدستور« التي حملت لاحقا اسم » وثيقة السلمي«، ونجحت في » إتلاف«الأدلة الجنائية و » تبرئة« القتلة من دماء ضحايا الثورة قبل الثورة وخلالها وبعدها.
أما بعد الانتخابات البرلمانية فقد نجحت، عبر أدواتها في سلك القضاء والأمن، في » حل« مجلس الشعب المنتخب، ونافست على الرئاسة بفارق ضئيل جدا، و » أبطلت« إعلانات دستورية للرئيس وسلسلة من القرارات الرئاسية لمعالجة الوضع الأمني والسياسي، وهددت بحل مجلس الشورى، وطعنت بالانتخابات الرئاسية، وطالبت بـ » إسقاط« الرئيس، وارتكبت » مجزرة بورسعيد«، ثم انتفضت على أحكام قضائية ضد القتلة، فهاجمت مقار الرئاسة، واستولت على » ميدان التحرير«، ووظفت القضاء وفلول أجهزة الأمن والشرطة في خدمة أجندتها، و » أحرقت« عشرات المقار لأكبر الجماعات السياسية » الإخوان المسلمين«، وشنت حملات إعلامية طاحنة ضد الثورة والثوار وصلت إلى حد إهانة الرئيس وتجريحه والحط من قدره وكرامته، بينما دافعت بشراسة عن رموز الحكم البائد ورؤوس الفساد، وحرضت مدن بحالها على النظام، وطالبت تارة بـ » التدخل الدولي« وتارة بـ » انقلاب عسكري« يتولى فيه الجيش السلطة، وجندت » مئات آلاف البلطجية« والتنظيمات العدوانية، وهاجمت المؤسسات العامة، وحاصرت » المساجد«، و » اعتدت«على العلماء والمشايخ، وسخرت من » المصلين« و » الدين« و » الشريعة«.
وعلى المستوى الدولي فشل الحكم في مصر في الحصول على قرض صندوق النقد الدولي لـ » إنقاذ«الاقتصاد، أو استعادة » الأموال المنهوبة«، وتراجع التصنيف الائتماني للاقتصاد والبنوك، كما فشل في تحييد دول مناهضة للثورات، وضخها للأموال في مصر، والعبث فيها وبأمنها، فيما التزم، في المقابل، بمطالب الولايات المتحدة و » النظام الدولي« بربط المساعدات الأمريكية بمعاهدة » كامب ديفيد« وأمن »إسرائيل«، وبحقوق الأقليات والطوائف أو حقوق المرأة أو بما يسمى » مكافحة الإرهاب«، وتدخلت كل القوى الدولية والمؤسسات الحقوقية في مضمون » الدستور« المصري لتحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض ... في محاولة محمومة لفرض » الوصاية الدولية« على مصر.
وفي تونس قدمت السلطة الجديدة، أول ما قدمت، استحقاقات سياسية ودستورية وأمنية واقتصادية. واستقبلت المحافل السياسية والبحثية والإعلامية الدولية رموز الحكم في تونس، وقامت باستنطاقهم سياسيا فيما يتعلق بالصراع العربي » الإسرائيلي« و » التطبيع مع إسرائيل«(2)، وحرية المرأة وانتزعت منها التزاما بعدم المساس بـ » حداثة« المجتمع التونسي، وآخر بـ » اقتصاد السوق«، وبحقوق القوى الأيديولوجية من اللبراليين والعلمانيين واليساريين، وبمحتوى » الدستور« لاسيما ما يتعلق منه في » التطبيع مع إسرائيل«أو في مسألة » الشريعة« كمصدر للتشريع. كما انتزعت منها تحالفات في مسائل » الأمن الدولي« والتنسيق في » مكافحة الإرهاب«، بدء من إعادة العمل بقانون 2004 مرورا بمحادثات إقامة » وكالة أمنية «(3) مع الولايات المتحدة مرورا باستفزاز » السلفيين« وجرهم إلى ساحة العنف أو مطاردتهم والزج بهم في المعتقلات والسجون.
وتمخض عن عمليات الاستنزاف والاحتواء وسياسات ما يسمى بـ » التوافق« و » الاعتدال« ظهور حركة» نداء تونس« التي جمعت، بزعامة الباجي قائد السبسي، أحد أساطين النظام البائد، كافة » القوى المضادة للثورة«. بل أن السبسي استقبل في فرنسا كأحد عظماء تونس بالمقارنة حتى مع الرئيس المنصف المرزوقي أو رئيس » حركة النهضة«، راشد الغنوشي. ووصل الأمر بالفرنسيين أن طالبوا بدعم اللبراليين وعدم الثقة بالإسلاميين(4). وغدت القوى الإسلامية بما فيها، القوى السلفية، شديدة الخشية من بطش القوى اللبرالية التي تحظى بكل الدعم الغربي. وبدلا من أن تعيد القوى الإسلامية، وخاصة » حركة النهضة«، النظر في سياساتها، ظلت تتزلف للبراليين(5) ، وتقدم المزيد من التطمينات والضمانات لقوى » المركز« الذي لا يعنيه من أمر تونس شيء بقدر ما يعنيه أمور مثل حرية المرأة والأمن وترك الحبل على الغارب للقوى المناهضة، إلى أن غدت البلاد مرتعا للقوى اللبرالية ولأجهزة الاستخبارات الدولية، وسط أجواء لا تغيب عنها طائرات» بريديتر«(6) ولا تصريحات » التفاخر« بقتل 10 – 15 سلفيا تونسيا(7) أو التهجم عليهم باعتبارهم »سرطان«(8). وهكذا بدت الأمة تخسر من الثورات أكثر مما خسرته في عهود » الاستبداد« و » التوحش الأمني«.
وفي ليبيا التي تعاني من التهرب من إقرار قانون » العزل« السياسي؛ كان أول تصريح للرئيس الفرنسي الأسبق، نيقولا ساركوزي، بعد سقوط القذافي، يتصل بدعوة القادة الجدد إلى فرنسا للتفاوض على إعمار ليبيا واقتصادها ونفطها. أما أول تصريحات أدلت بها المفوضة الأوروبية، كاترين آشتون، بعد محادثات أجرتها مع القادة الجدد لدى زيارتها ليبيا، فكانت تتعلق بما تلقته من ضمانات من القوى السياسية تتعلق بحرية المرأة وحقها في المشاركة في العملية السياسية. أما عمليات النهب والفساد فتجتاح ليبيا بصورة لا مثيل لها حتى في عهد القذافي. ففي عهد حكومة علي الكيب، السابقة على حكومة علي زيدان، تم إنفاق 3.7 مليار دولار على أثاث المكاتب(9)!! وفي آخر ميزانية لليبيا خصصت حكومة زيدان 16 مليار دولار رواتب موظفين(10)!!! في حين أن عدد سكان ليبيا لا يزيد قليلا عن ستة ملايين نسمة.
وعن الارتباطات الدولية للقادة الجدد، فقد هدد أحدهم باستجلاب القوات الدولية لحماية ليبيا، فيما تجوب طائرات » بريديتر« الأجواء ليل نهار، وبدا نفوذ القوى اللبرالية في ليبيا أكثر من نفوذ القوى الإسلامية في بلد يتميز بمليون حافظ للقرآن. لذا كان سهلا البدء بالتلاعب في المناهج التعليمية واستبعاد الشريعة من الحكم، فضلا عن القوى الإسلامية، التي غدت تتوافق مع الأمريكيين على ضرب السلفيين واتهامهم بممارسة »العنف« رغم أنهم أعلنوا، كتونس، عن » نهج سلمي« في العمل إلا أن كتائبهم المسلحة مهددة بالمطاردة والملاحقة والتشويه والحل من بين نحو 1700 ميليشيا مسلحة في ليبيا.
وفي اليمن حدث ولا حرج. فبموجب » المبادرة الخليجية« اسماً والأمريكية رسماً تم احتواء الثورة ووضع اليمن تحت » الوصاية الأمريكية« و » الدولية« المباشرة، حتى خرج الرئيس المخلوع يتندر بالقول أن الثورة اليمنية سرقت من شبابها(11)!!! وهي المهمة التي اضطلعت بها » أحزاب اللقاء المشترك« الذين قبلوا، وفي مقدمتهم الشق السياسي في » حركة الإصلاح«، بتحويل الثورة اليمنية إلى » أزمة سياسية« بين الأحزاب والنظام الحاكم. فكانت النتيجة تقاسم السلطة مع » حزب المؤتمر« بدلا من حله أسوة بما حصل في تونس ومصر، ومنح علي عبد الله صالح الحصانة الدستورية بدلا من محاكمته، وأُفلت الفاسدون والمفسدون، الذين أهلكوا الشعب اليمني طوال 30 عاما، من الملاحقات القضائية، كما أُفلت القتلة من تقديمهم للمحاكمة رغم المجازر التي أوقعوها بحق المتظاهرين في ساحات الثورة خاصة في صنعاء وتعز.
أما » الوصاية الأمريكية« فقد بلغت مداها، وتغلغلت حتى وصلت إلى استباحة الأجواء والدماء اليمنية بطائرات » بريديتر«، وبإقرار شرعي من الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي وصل إلى حد الافتتان بها(12)، ومقاتلة » أنصار الشريعة« وتحديد من يرحل من أساطين النظام والمؤسسة العسكرية ومن يبقى، وكذا الأمر فيما يتعلق بمؤتمر » الحوار الوطني«، ومن يحق له المشاركة ممن لا يحق لهم ذلك(13) والتدخل في مضمون الدستور القادم ذو المواصفات المدنية والتعددية بما يضمن حقوق المرأة والطوائف والاثنيات والأقليات على الطريقة الأمريكية!
وفي ظل » الوصاية « يبدو اليمن أقرب ما يكون إلى التفكك من الاحتفاظ بكيان موحد. فالجنوب يهدد بالانفصال والشيعة يطالبون بحكم ذاتي في الشمال، وآخرون يتحدثون عن تقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم فيدرالية وبعضهم ينادي بإقليمين.
العجيب أن رموز القوى الإسلامية في تونس واليمن والقاهرة يتوافدون على السفارات الأمريكية والغربية وحدانا وزرافات دون حياء أو وجل. بل أن عبد الرحمن با فضل، رئيس الكتلة السياسية لـ » حزب الإصلاح« في البرلمان اليمني طالب على وسائل الإعلام باحتلال اليمن لضرب » القاعدة«(14) وكأنها هي من يهدد بتمزيق البلاد وإفقار العباد. هذا في الوقت الذي لا تزال فيه أدوات الرئيس اليمني السابق تستحوذ على أدوات القوة والدعم الأمريكي، وتمدد للشيعة بلغوا فيه أواسط اليمن كمدينة تعز، ويتحالفون مع الإيرانيين الذين يمدونهم ببواخر الأسلحة، ويدربون مقاتليهم على مرمى حجر من اليمن في أريتريا، وفي الوقت الذي يحرِّضون فيه جنوب البلاد بزعامة حسن باعوم وعلي سالم البيض على » العصيان المدني« بل وفرضه بالقوة، ويتزودون بالسلاح ويشنون هجماتهم هنا وهناك، فضلا عن قبائل تعمل أدوات لهذا الطرف أو ذاك، وعصابات من المجرمين والبلطجية ورموز النظام التي تهاجم أنابيب الغاز ومولدات الكهرباء والخطف والتخريب.
ثانيا: الدولة القومية والثورة المضادة
لا ريب أن أقدم دولة ظهرت بالمحتوى السياسي المؤسسي الراهن هي بريطانيا، التي تشكلت في صيغة اتحاد سياسي في أعقاب الثورة الإنجليزية (1640 - 1660) من إنجلترا وويلز واسكتلندا في 1/5/1707. ولأن بريطانيا بروتستانتية فلم تؤثر الثورة الإنجليزية على أوروبا التي تدين غالبيتها بالمذهب الكاثوليكي، إلا في أعقاب الثورة الفرنسية سنة 1789.
لذا فقد ظلت أوروبا خاضعة إلى السلطة الدينية ممثلة بالكنيسة حتى أوائل القرن الرابع عشر حين انقسمت الكنيسة الأوروبية بين الفاتيكان (روما) وإيفيان (فرنسا)، وظهرت » السلطة الزمنية«، ممثلة بحكم الملوك إلى جانب » السلطة الدينية« ممثلة بالكنيسة. وتَسبب التنافس بين الكنيستين على استرضاء » السلطة الزمنية« بضعف » السلطة الدينية«. ومع ذلك فقد بقيت الكنيسة، بالإجمال، ممسكة بالنظام السياسي والنظام الاجتماعي القائم على النظام » الفيودالي« أو ما أطلق عليه البعض جزافا » النظام الإقطاعي«. وهو نظام مستوحى إلى حد كبير من الفلسفة الإغريقية في تجلياتها » الإفلاطونية« (15) للعلاقة بين الأسياد والعبيد. إذ لا وجود فيه لمجتمع ولا حقوق لمواطن أو إنسان، ولا سلطة إلا للأسياد ( القضاة والفلاسفة والملوك) على العبيد. لذا لم يكن غريبا أن يتمخض عن الثورة الفرنسية، غداة انتصارها سنة 1789، وثيقة فلاسفة التنوير الشهيرة باسم: » حقوق الإنسان والمواطن«! وهي ذات الوثيقة التي أقرتها هيأة الأمم المتحدة في10/1/1948 باسم » الإعلان العالمي لحقوق الإنسان«. وهكذا بدأ العالم يدخل مرحلة » دولة الفلسفة« لا» دولة الحكمة« كما يقول أحد المفكرين العرب أو سليل الدكتور صالح سرية.
المهم أن أوروبا كانت أول ميدان في الصراع على » فكرة القومية« التي بدأت كـ » نزعة« تغزو أوروبا منذ أواخر القرن 18، محملة بإرث الحضارتين اليونانية والرومانية. لكنها » نزعة« أخذت تتبلور وتستقر كمفهوم على وقع الحروب الدموية والحراك السياسي واللغوي والإرادة العامة في العيش المشترك والاقتصاد وحتى الثقافة والقيم والأيديولوجيا وصولا إلى البايولوجيا التي طبعتها بالطابع التنافسي والعنصري الاستعلائي. وفي النهاية أسفرت عن تفكك الصيغة الإمبراطورية في الاجتماع الإنساني الأوروبي إلى صيغة قومية على شاكلة البريطانيين، السلاف، الألمان، اليهود، .... .
ولأنها كانت أشهر ميدان في الصراع بين الفرق الدينية المسيحية التي لعنت بعضها، وكفرت بعضها بعضا، وخاضت حروبا طاحنة فيما بينها لقرون طويلة ومظلمة ودموية؛ فقد كان من الطبيعي أن تتميز أوروبا بكونها ساحة للصراعات الفكرية الناجمة عن هيمنة الكنيسة، باعتبارها المسؤولة الوحيدة عن نمط الحياة واحتكار التشريع فيما يجوز ولا يجوز. وعلى وقع المعاناة والثمن الباهظ الذي دفعه العلماء من أرواحهم وأجسادهم شق» العقل الوضعي« طريقه إلى الحياة الأوروبية، واستطاع أن يتجاوز المرحلتين » الميتافيزيقية« و »المثالية« ويبلغ المرحلة » الوضعية«.
لا ريب أن للفلاسفة الإنجليز دورهم في انعتاق أوروبا وتطورها، والتأسيس لأحدث دولة رأسمالية وصناعية ولبرالية في العالم، لكن العلامة الفارقة في التحول كانت من نصيب الثورة الفرنسية سنة 1789 التي فتحت، في ذلك العصر المسمى بـ » عصر الأنوار«، أبواب الفكر على مصاريعه. وبطبيعة الحال حصلت نقلات نوعية في مستوى » الفكر القومي« وفي مستوى العلوم والقوانين والدساتير والحقوق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والرياضيات والفلك والكيمياء والبايولوجيا. لكن الثابت أنه لا يمكن القول بأن النشأة التاريخية لـ »الفكر القومي« الأوروبي يمكن أن يخرج عن كونه:
· نتاج أصيل لكل هذه الصراعات والأفكار؛ وبالتالي فهي محصلة » عصر الأنوار« بكل حمولته اللبرالية والرأسمالية والعلمانية، ماديا وقيميا.
· وأن » الدولة القومية«، هي الابنة الشرعية لـ » الفكر القومي«، وليس لـ » النظام السياسي« كما هو شائع في العالم العربي أو الإسلامي. فهي الوحدة البنيوية المركزية في » النظام الدولي« برمته. لذا ثمة فرق بين » نظام سياسي آمن« يعتبر الدولة مكسبا عظيما بالنظر إلى تاريخية تشكيلها، و» نظام سياسي طارئ«يرى في دولة استحدثت بالأمس القريب غنيمة يمكن تحطيمها إذا لزم الأمر دون أن يأبه الحاكم أو العابثون فيها لأية عواقب.
· وأن » الدولة القومية« أيضا، هي بالضرورة والنشأة معادية للدين؛ فقد قامت على أنقاض» الدولةالدينية«. لذا فهي تستمر بالنظر إلى الأديان الأخرى لاسيما الدين الإسلامي، في ضوء معاناتها التاريخية من حكم الكنيسة ومظالمها وتشريعاتها وتأويلاتها لـ » الإنجيل« أو فيما بعد لـ » الكتاب المقدس«. ولا تقيم أي وزن للدين في الحياة العامة(16)، ولا تستعمله إلا كمعطى وظيفي في الحشد الاجتماعي لتحقيق أغراض سياسية أو اجتماعية. بل أنها تؤمن يقينا بأن الدعوة إلى » تطبيق الشريعة« ليست سوى خروج على »الدولة القومية« وعودة إلى الدين. أما لماذا؟
· وأن » النازية« و » الفاشية« و » العنصرية« و » الفوضوية« و » الأممية« و » الصهيونية« و» الماسونية« هي منتجات سياسية أصيلة أيضا لـ » الفكر القومي« الأوروبي أولا، و لـ » الدولة القومية« ثانيا، وليست بدعا من القول. هذه الحمولة أثبتت مخرجاتها، بالوقائع القاطعة، أنها أشد دموية من »الدولة الدينية« في أوروبا. فـ » الدولة القومية« هي التي قادت حملات الاستكشاف الضخمة في العالم، وهي التي انطلقت في حملات استعمار واستعباد وقهر للشعوب، وهي التي نشطت في عمليات نهب منظمة لثروات الأمم، وهي التي أفرزت قيمها حربين عالميتين، وقنابل ذرية اختُبِرت فاعليتها على البشر، وهي التي أودت بحياة عشرات الملايين من ضحايا الإبادة والحروب والتعذيب، وهي التي زرعت أنظمة الاستبداد ورعتها، فضلا عن تفكيك العالم الإسلامي كما سيرد لاحقا.
فلأن الدولة، إضافة لما سبق أعلاه، هي دولتهم أصلا وفصلا. وهم أول المعنيين في الدفاع عنها قبل أي نظام سياسي. ولأن أوروبا أو دول » المركز« تعلم أنه لا شأن للمسلمين في نشأة هذه الدولة وتاريخيتها. وأنه لا وجود لأية علاقة تجمع بين المسلمين والإرث الفكري أو السياسي أو الديني أو التاريخي الذي أنتجها. لكن »المركز« الذي رعى هذه الدولة ونُظُم الاستبداد ولمّا يزلْ يخشى عليها من التهديد الذي تمثله الثورات، ويجتهد في احتواء الأمر، مستفيدا مما يعتقد أنها حصانة تاريخية تتمتع بها الدولة من الداخل. وبالتالي فهو ليس قلقا من إزاحة النظم السياسية التي تروح وتجيء بقدر ما يبدو فزعا من غضب الشعوب ومصير مشؤوم ينتظر »الدولة القومية« و » النظام الدولي« كما سنرى لاحقا أيضا.
أما حصانة الدولة فتكمن في مرجعياتها التي حطت رحالها، مبكرا، في العالم الإسلامي، وفي القلب منه، العالم العربي، عبر وفود الطلبة الأتراك الذين أرسلتهم الإمبراطورية العثمانية في أواخر القرن 18 الميلادي إلى سويسرا وفرنسا، وعادوا منبهرين بالأفكار اللبرالية والقومية التي أنتجت فيما بعد النزعة الطورانية وحزب »تركيا الفتاة« وكمال أتاتورك. وفي المشرق العربي حطت رحالها عبر حملة نابليون على مصر (1798 – 1801). ولشدة انبهاره بالحضارة الغربية ونقل نموذجها إلى مصر وسائر البلاد العربية اعتمد محمد علي باشا، أحد أقدم وأخطر رموز الفكر اللبرالي والتغريب والعداء السافر للدين، على البعثات العلمية المتخصصة والثقافية إلى أوروبا. وبدأت أولى البعثات الطلابية إلى إيطاليا سنة 1813 ثم إلى فرنسا بدءً من سنة1826، وخلال الفترة ما بين 1813- 1847، تم إرسال 339 مبعوثاً إلى أوروبا، دون أن تتوقف سياسة الابتعاث طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين(17).
كما أنها دولة محصنة عبر فكر ورموز التغريب في مصر، ممن أسسوا لـ » قواعد اللبرالية« و » الهيمنة«تاريخيا، أمثال محمد علي باشا وجمال الدين الأفغاني، وتلامذته مثل الشيخ محمد عبده، ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين ولطفي السيد ومحمد حسين هيكل وإسماعيل مظهر وعباس محمود العقاد، وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم. أما في المغرب العربي فقد برز اسم الطاهر الحداد (1899 – 1935)، وخير الدين التونسي، وفي الشام برز الثلاثي الشهير شبلي شميل وشارل العيساوي وفرح أنطون، من نخب الثقافة المسيحية، بالإضافة إلى نيقولا حداد وبطرس البستاني، وجورج زيدان، وأديب إسحاق، وسليم نقاش وميشيل عفلق وقسطنطين زريق، وكذلك إبراهيم اليازجي. وانتظم الكثير من هؤلاء في أحزاب سياسية أو تيارات فكرية أو نوادي أدبية أو جمعيات مدنية أو دور نشر وترجمة ووسائل إعلام متنوعة.
لذا، ولكي نفهم الأحداث الجارية في دول الثورات، ونتوقف عن » العجلة« أو الركون إلى » العقل السلبي«في الإجابة، علينا أن نلاحظ أن أميز ما في » الثورة المضادة«، التي رُدَّت، محليا، إلى قواعد ورموز ما أُسمي بـ » الدولة العميقة« في مصر ثم تونس وحتى اليمن وليبيا، أنها بدأت بنيوية حتى في خضم وقائع الثورات، دون أن تفلت منها دولة واحدة(18). وهو أمر طبيعي للغاية. إذ أن القواعد التاريخية لـ » الثورة المضادة« عميقة الجذور وليست طارئة، بالمقارنة مع دول ونظم سياسية حديثة النشأة وغير آمنة. وإذا تتبعنا السياسات والمواقف الدولية والإقليمية من الثورات سنجد أن دفاعات » الثورة المضادة« صارت تتلقى دعما صريحا من المرجعيات السياسية الدولية(19)، ناهيك عن المرجعيات التاريخية التي أوجدتها وأوجدت الدولة ذاتها من قبل. بمعنى أن التساؤلات » المحبطة« يجب أن تُطرَح في سياق التاريخية التي ظهرت فيها الدولة» الوطنية« أو » القومية« الراهنة وليس في سياقات محلية فقط من نوع » الدولة العميقة« التي لا يمثل رموزها إلا أدوات في خدمة مرجعيات فلسفية بنيوية هي المسؤولة تاريخيا عن إنتاج » الدولة القومية«ذاتها، وما تحتويه من بذور العداء المستحكم لكل ثقافة محلية أو عقيدة أو شريعة ربانية.
وبالتالي سيبدو » الخروج« على هذه المرجعيات بمثابة المس المباشر في صلب مشروعية الدولة وهويتها التاريخية وقيمها التي لا تعترف بتجزأة » الديمقراطية« كـ » موضوع« من جهة و » أداة« من جهة أخرى، بحيث تبدو الحرية المنشودة مجرد رقم تفرزه صناديق الاقتراع(20). وهذا مؤشر على أن إسقاط النظم وتصفية » الدولة العميقة« وقواعدها ورموزها سيؤدي إلى الصدام الحتمي، ليس مع » ولي الأمر«كما يزعم البعض، بل مع » المركز« نفسه. وتبعا لذلك لم يكن غريبا أن » تعجز« الثورات التي مرت في المرحلة الأولى » ارحل« عن تجاوز المرحلة الثانية » إسقاط النظام« ناهيك عن مجرد التفكير في خوض المرحلة الثالثة التي تتطلب إسقاط » قواعد الهيمنة« ومستوطناتها التاريخية. لكن من العجيب حقا أن يتعجل البعض النتائج، ظناً منه أن صناديق الاقتراع يمكن أن تَجُبَّ ما قبلها، وتصادر جهود » المركز«، في التحكم والسيطرة، بورقة خرقاء. فـ » الدولة القومية« لم تستوطن في بلادنا إلا بعد مطاحن دموية في أوروبا وحروب عالمية وتفكيك للعالم الإسلامي وفرض لنظام الهيمنة وزرع لـ » إسرائيل« وتخريب للثقافة وإقصاء بالغ العنف للدين من حياتنا الاجتماعية في كافة مستوياتها. فما الذي قدمه العالم العربي من تضحيات لنيل حريته وقد أغمد سيوفه منذ زمن بعيد!! واكتفى بالمنافسة على إنجاز أكبر قرص» فلافل« أو طبق »كَبْسة«!!؟
بل أن منطق » الثورة المضادة« صادر منطق الثورات الشعبية، وبات يستعمل ذات المفاهيم والشعارات والخطابات والأساليب والرموز في سعيه لإجهاضها. حتى صرنا نسمع مطالبات بـ » ثورة ثانية« في مصر تقودها » جبهة الإنقاذ « ومجموعات البلطجية وقوى فوضوية وأخرى خفية كـ منظمة » بلاك بلوك«الناشطة في بعض الدول الأوروبية كألمانيا واليونان. وذات الأمر في تونس من خلال حركة » نداء تونس«التي شابهت مثيلتها في مصر من حيث النشأة والتكوين والأهداف .. وفي ليبيا حيث الدعوات إلى » تصحيح المسار« على قدم وساق مع قليل من العجب المميز حين يعقب محمود جبريل، أحد عتاة اللبرالية، على فتوى الشيخ صادق الغرياني التي ترى عدم جواز التصويت لـ » العلمانيين«، بالدفاع عن العلمانية والحرية في الاختيار والشفافية والفردية، ويتحول إلى واعظ أو حتى داعية إلى الله !!! فيما يضرب الفساد ونهب الثروات عمق ليبيا بصورة مذهلة. ويتم نسج التحالفات مع الولايات المتحدة إلى حد تهديد رئيس الحكومة،علي زيدان، بـ » استجلاب قوات دولية للحفاظ على الأمن«(21)!! .. لذا لم يعد عجيبا أن نرى الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، يعترف بالثورة التي أطاحت به، لكنه يتندر بالقول: » أن ثورة الشباب سرقت«!!!
ثالثا: » سنة التدافع«
إذن ما يجري في بلدان الثورات العربية، بما فيها سوريا، أمر طبيعي ينسجم مع التكون التاريخي لـ » الدولة القومية«. لكن هل ما يتعرض له العالم الرأسمالي من أزمات طاحنة يجري بمعزل عما يجري في العالم العربي؟
منذ ظهور » الدولة القومية«، ذات المرجعيات الوافدة، تم استبعاد » التحليل العقدي« من أي شأن اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو أخلاقي. وتبعا لذلك خلت الساحة المعرفية إلا من » التحليل الموضوعي«، الذي انفرد بتقديم التفسيرات والتأويلات للظواهر التي تمس البشر بما فيها عالمنا الإسلامي. وحتى هذه اللحظة فإن اعتماد » التحليل العقدي« إلى جانب » التحليل الموضوعي« غالبا ما يواجَه بكثير من التحفظ وحتى الازدراء، بحجة أنه مجرد تأويل أو ذو صبغة عاطفية. لكننا في هذه الدراسة المحدودة سنعتمد كلا التحليلين ونرى هل يلتقيان في النتائج أم يتعارضان.
التحليل الموضوعي: أزمة الرأسمالية
إذا ألقينا نظرة موضوعية على ما يجري في العالم من أزمات، واعتمدنا لغة الأرقام فسنقع على معطيات مثيرة للفزع. فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 توحشت الرأسمالية أمنيا وسياسيا بصورة غير مسبوقة. وعطفا على ذلك توحشت معها نظم الاستبداد. وبحسب أرقام متنوعة المصادر ما بين سنتي 2009 – 2011 يظهر لنا، كأمثلة، أن ديون القارة الأوروبية وصلت إلى حدود 35 تريليون $، بما يعادل حوالي 85% من إجمالي الناتج القومي لأوروبا. وفي الولايات المتحدة بلغت الديون 17.6 تريليون $ بنسبة 103% من إجمالي الناتج القومي، وفي اليابان بلغت بحسب أرقام العام 2011 أكثر من 13 تريليون$ بنسبة تزيد مع الوقت عن230% من إجمال الناتج القومي، أما كوريا الجنوبية فوصلت نسبة ديونها إلى إجمال الناتج القومي حدود الـ270%. وتكاد الديون تبلغ في أجل قصير حدود 100 تريليون $(22)!!! فكيف تتعامل الرأسمالية مع أزمة طاحنة من هذا النوع؟
لا ريب أن أطرف ما في الأزمة الرأسمالية هي تلك السياسات التي تجتهد، ليس بإعادة النظر في المنظومة نفسها، بل في احتواء الأزمة من داخل المنظومة التي بَليت، ولم يعد بمقدورها أن تقدم حلولا لأزمات هي نفسها التي اصطنعتها. أما الحلول المقترحة فتتجلى في الصراع الجدلي فيما بين القوى الرأسمالية التي يرى بعضها أن الحل يكمن في سياسات » التقشف« كمقدمة لخفض العجز في الميزانية السنوية، بينما يرى قسم آخر، ذو نوازع اشتراكية، أن الحل يكمن بـ » النمو« إلى جانب » التقشف«. وفي كلتي الحالتين فإن المواطن الذي دافعت الثورة الفرنسية عن حقوقه هو المرشح الأبرز ليكون كبش المحرقة وليس كبار الرأسماليين الذين نهبوا البشر بموجب القوانين والقيم الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالسوق وبقيم الكسب.
لذا كان من الطبيعي أن ننتظر انفجارات اجتماعية في أوروبا، وأن نواصل مراقبتها وهي تنفجر بين الحين والحين لتجتاح الدول الرأسمالية بدءً من دول أوروبا الغارقة كاليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وقبرص مرورا بروسيا و » إسرائيل« وانتهاءً بالولايات المتحدة. ودول أخرى يهددها الفساد والتفكك في بعض أجزائها كالصين التي تتميز مع روسيا عن غيرها بما لديها من فائض في السيولة النقدية، بعكس الولايات المتحدة مثلا التي تستدين لتتلافى الانهيار الاقتصادي والمالي. ومن الطبيعي في مثل هذه الأحوال أن ينصب غضب العامة من الناس على مراكز المال والبنوك وكبار الرأسماليين في العالم باعتبارهم اللصوص والناهبين والمتهربين من الضرائب وأول المسؤولين عن الأزمة.
وكي نتبين حجم الكارثة التي تضرب المنظومة الرأسمالية، والقيم الفاسدة التي تحتويها، يكفي أن نقارن دولة بحجم اليونان مع العالم العربي برمته. فاليونان دولة تعد 11 مليون نسمة، مقابل 350 مليون عربي. ولكن، بحسب إحصائيات شهر أيار / مايو 2011، فقد بلغت ديونها الخارجية 532 مليار $ بنسبة 157.7% من إجمالي الناتج القومي مقابل 649 مليار $ في 15 دولة عربية سنة 2010. أي بحدود 82% من الديون العربية و 1.6% من إجمالي الدين العالمي(23). وبحساب الدين العام فالرقم يصل، بحسب 2012، إلى948 مليار يورو، أي بنسبة 400% من إجمالي الناتج القومي. فكيف أنفق اليونانيون هذه الأرقام الفلكية؟ وكيف أنفق أيضا، كمثال آخر، بضعة ملايين في قبرص 157 مليار $؟ بل كيف خسرت الرأسمالية عشرات التريليونات من الدولارات؟ باختصار: أين ذهبت؟
أيا كانت السياسات المتبعة للحد من تداعيات الأزمة فإن الأرقام المتداولة عن حجم الدين العام ( الخارجي والداخلي) في المنظومة الرأسمالية تظل مفزعة لأبعد الحدود لاسيما وأنها قد تتجاوز 100 تريليون $. وعليه فما من خبير اقتصادي أبدى قدرا من التفاؤل في حل الأزمة بقدر ما تتمحور السياسات، على بؤسها ووحشيتها، حول تخفيض حجم الديون والحد من العجز في الميزانية حتى يمكن » الاستمرار«!!! ولسنا ندري بأية معايير موضوعية أو قانونية أو فلسفية أو أخلاقية يمكن الثقة بمنظومة اقتصادية أقصى ما تطمح إليه هو » الاستمرارية«؟ وبأية معايير يمكن معالجة أزمة ضربت، دفعة واحدة، إجمالي المنظومة الفلسفية اللبرالية الرأسمالية في العالم وليس أجزاء منها؟
الحقيقة أنه لا وجود لأي معيار يذكر. فالأزمة تؤشر بوضوح لا لبس فيه أن الرأسمالية وصلت إلى طريق مسدود بإحكام. ولأنها فلسفة وضعية من صنع البشر، وليست عقيدة، فستنزوي قطعا كما انزوت أخواتها من قبل: الماركسية والاشتراكية والنازية والفاشية والعنصرية والفوضوية. وهذه الفلسفات شرعتها أديان وضعية إلى جانب النصرانية واليهودية. لذا فإن فساد الرأسمالية، باعتبارها آخر المنظومات الفلسفية، لن يعني فقط فشلا في المنظومة الاقتصادية بل وفي مرجعياتها العقدية على امتداد الكرة الأرضية. وتبعا لذلك سيتقدم السؤال التالي دون عناء: من هو البديل القادم إذن لسد الفراغ؟
التحليل العقدي: الهيمنة والجبر
من هنا سنعتمد » التحليل العقدي«. فما يجري في العالم ليس سوى » دورة تاريخية« قد تقود إلى » دورة حضارية«. بالتعبير العقدي؛ فلم يعد ثمة أنبياء أو رسل يعيدون البشرية بوحي من الله عز وجل، إلى جادة العقل، بحيث تستمر الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبعا لذلك فإن ما يجري بالمصطلح العقدي أيضا هو » سنة تدافع«. ومنها سننطلق في التحليل استنادا إلى آيتين كريمتين وحديثين نبويين شريفين:
يقول الله عز وجل في الآيتين الكريمتين:
الأولى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾، (البقرة : 251). الثانية: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌۭ وَصَلَوَٰتٌۭ وَمَسَـٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًۭا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾، ( الحج : 40).
· حديث « الخلافة«. فقد روى حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: « تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».
· حديث « زوي الأرض«. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم منبأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ».
سمات الواقع الإسلامي:
قبل إنشاء » عصبة الأمم « (24) في 25/1/21919 لم يكن ثمة نظام دولي ينظم العلاقات بين الدول كما صار الحال بعد ذلك. فقد كانت العلاقات بين الدول تنتظم في صيغ ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية أو إقليمية. لكنها لم تكن ذات صيغة عالمية. أما العلاقات بين الناس فكان التعريف عنها يجري بموجب الانتماء الديني ( مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي، سيخي، مجوسي، ... ) (25) وليس الانتماء القومي الذي لم يكن شائعا حتى أوائل القرن السابع عشر. فقد كان الناس، قبل ولادة مفهوم » الوطن« أو » القومية« أو »الأمة«، يجتمعون ويفترقون على أديانهم أو قبائلهم أو سلالاتهم.
لكن مع ظهور » الدولة القومية«، بوصفها أول وأهم وحدة سياسية، فقد غدت الطريق ممهدة لإقامة » النظام الدولي« الذي نعرفه اليوم. لكن » الدولة الإسلامية« ذات الصيغة الإمبراطورية، والتي يمتد سلطانها إلى حيث يوجد مسلمون، كانت هي العقبة الوحيدة التي اعترضت هذا النظام وأخرت انبعاثه لأكثر من قرن. وبالتالي كان لا بد للأوروبيين أن يجتهدوا في تفكيك العالم الإسلامي؛ إذا كان لهذا النظام أن يظهر ويغدو حقيقة واقعة. فالحاجة إليه غدت ملحة مع التقدم العلمي وظهور عصر الآلة، وامتلاك أدوات القوة والهيمنة والتسلط والغزو، فضلا عن الحاجة الماسة للأسو
|
|
عبد ضعيف
مســـاعد أول
الـبلد : التسجيل : 16/07/2011 عدد المساهمات : 513 معدل النشاط : 716 التقييم : 21 الدبـــابة : الطـــائرة : المروحية :
| موضوع: رد: دراسة جيوسياسية تاريخية متميزة: مآلات الثورات الشعبية وخلفيات الثورة المضادة د.أكرم حجازي الإثنين 15 أبريل 2013 - 1:11 | | | المصدر :
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-401.htm |
|