الأقســـام الاداريـــة

( متجدد إن شاء الله )

والرسالة تلك هى أطول ما كتب الإمام على -رضى الله تعالى عنه- من الرسائل.. ولم يعرف أن رسالة كتبها هى أطول من تلك الرسالة..وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على أهمية مضمونها وأهمية ما تتعلق به..
وسيتم بفضل الله ومنته نقل الرسالة على أجزاء ..ومع كل جزء منها يتم وضع الشرح الخاص به وتحليله لكى يعم النفع بها إن شاء الله تعالى...
الجزء الأول: قال سيدنا على بن أبى طالب -رضى الله عنه- لواليه على مصر ( مالك بن الحارث الأشتر ):
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد الله علىٌ أمير المؤمنين، مالكَ بن الحارث الأشتر فى عهده إليه، حين ولاه مصر: جِبوة خَراجها، وجِهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها.
أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به فى كتابه: من فرائضه وسننه، التى لا يسعد أحدٌ إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر اللهَ سبحانه بيده وقلبه ولسانه، فإنه جل اسمه، قد تكفل بنصر من نصرَه، وإعزاز من أعزه.
وأمره أن يكسِر نفسه عند الشهوات، ويزَعَها عند الجَمَحَات، فإن النفس أمارةٌ بالسوء إلا ما رحم الله.
ثم اعلم يا مالك، أنى قد وجَّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دُوَلٌ قبلك، من عدل وجَور، وأنّ الناس ينظرون من أمورك فى مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، إنما يُستدل على الصالحين بما يُجرى الله على أَلْسُنِ عباده.
فليكن أحب الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك،وشُحَّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشُّحَّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وكرهت".

معانى المفردات الصعبة:
قوله: جِبْوَةَ خَرَاجِهَا ..أى جمع الخَرَاج وتحصيله.
قوله: يَزَعَها .. أى يَكُفَّها.
قوله: الجَمَحَات .. أى منازعات النفس إلى شهواتها ومآربها.

المستفاد من هذا الجزء من الرسالة:
1- تواضع سيدنا علىٌ رضى الله عنه الواضح من خلال لغة الخطاب.
2- عرض أهم المهام المنوط بها الوالى بإيجاز شديد، كى يكون أول شىء تقع عليه عيناه، وهذه المهام هى: ( جبوة خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها )..ثم يأتى بعد ذلك العرض والتوضيح.
3- أهمية الالتزام بتقوى الله تعالى وطاعته، ففى ذلك السعادة والخير فى الدنيا والآخرة.
4- مناصرة الله تعالى باليد والقلب واللسان.
5- قد تكفل الله تعالى بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه.
6- التحذير من اتباع الشهوات والنفس التى غالبا ما تأمر بالسوء.

الشرح والتحليل:
فى أول الوصية ينبه سيدنا علىٌ -رضى الله عنه- الوالىَ إلى كِبَرِ مصر، حيث هى بلاد، وأنها حُكِمت قبله عدة مرات فى مراحل مختلفة وظروف متنوعة، وقد اختلف الحكم فيها بحسب أمزِجَة حكامها، وعدالة ملوكها ورؤسائها، فأحياناً سادها العدل، وأحيانا عمَّها الجَور والظلم، ومن يتولى قيادتها سيوضع فى ميزان المقارنة مع من تولوا قبله، فيُحكم عليه من خلال مقارنة أعماله بأعمال من سبقوه، ومن خلال مقارنة إنجازاته بإنجازات من سبقوه، فإن عَدَلَ حَمِدَ الناس عدله كما حمدوا عدل من سبقه من العادلين، وإن جار وظلم سخط الناس عليه كما سخطوا على الظالمين قبله، فسيلحظ الناس سيرته، ويسجل التاريخ ما له وما عليه، وإن كان صالحا أجرى الله على ألسنة الناس عبارات الثناء والمدح، وإن كان غير ذلك أجرى الله على ألسنة الناس عبارات الذم والسُّخط ، وهنا يحث على -رضى الله عنه- مالكَ بن الأشتر -رضى الله عنه- بأن يحرص على أن يكون صالحا، لكون الصلاح والعمل الصالح أفضلَ ذخيرة، كما يحضَّه على أن يتحكم فى هواه، وأن يكون شحيحا فى الشر جوَّاداً فى الخير، وألا ينقاد وراء هوى النفس فيما أحبت أوكرهت، لأن النفس أمارةٌ بالسوء ودافعةٌ إلى الشر إلا ما رحم ربى.

أهمية الصلاح والعمل الصالح بالنسبة للحاكم خاصةً:
إن الصلاح والفلاح دليل على حسن إسلام المرء، وبرهان على كمال إيمانه، ولا يتأتى الصلاح ولا الفلاح إلا بالعمل الصالح والطاعة والامتثال لما فى كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، ومن كان كذلك، ظفر بالرضا والمكانة العالية فى الجنة قال تعالى:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
فإذا كان الحاكم على درجة من الطاعة وعمل الصالحات، أحبه الله تعالى، ومن أحبه الله تعالى وفقه لعمل الخير لنفسه وللرعية، فأقام العدل بين الناس، وساوى بين أفراد الشعب، واجتهد فى تحقيق الحياة الكريمة للناس، والحاكم الذى يرعى مصالح شعبه ويتقى الله فى رعيته، ويحبونه ويعينونه، ويدعون له بطول البقاء والبركة فى العمر، ولك أن تتصور حياة الناس - لا أقول فى عهد النبى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) - وإنما أقول فى عهد الصديق أبى بكر والفاروق عمر - رضى الله عنهما -وسائر الخلفاء الراشدين، وفى عهد معاوية -رضى الله عنه وكذا عمر بن عبد العزيز، حيث السمة الغالبة هى الطاعة والصلاح وشيوع العدل، وشجع الخلفاء أنفسهم على ذلك، فقد قال الفاروق عمر -رضى الله عنه- ومن قبله الصديق أبو بكر -رضى الله عنه-:( أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت فلا طاعة لى عليكم )، وكانت الشعارات المرفوعة آنذاك: التواضع مع إقامة الحق والعدل وتحقيق مبدأ المساواة، قال الصديق أبو بكر -رضى الله عنه-: وُلّيتُ عليكم ولست بخيركم. القوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ الحق له.
فهلاَّ يتذكر حكام المسلمين هذه النماذج ويقتدون بها؟!

الخليفة يحث الوالى على قيادة النفس والتحكم فيها:
يقول الإمام على -رضى الله عنه: ( املك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك )، أى لا تجعل هواك قائد لك ومتحكما فيك، لأنه سيظلك.
قال تعالى: " يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذّابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ"سورة ص:26 ، ثم ينصح على -رضى الله عنه- بأن يشح بنفسه عن الحرام، فلا يقدم عليه، ولا يجود لفعله أو ارتكابه، لأن الحرام جزاؤه جهنم والعياذ بالله تعالى منها.

الجزء الثانى:
قال سيدنا على بن أبى طالب -رضى الله عنه- لواليه على مصر:
" وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك فى الدين، وإما نظير لك فى الخَلْق، يفرُطُ منهم الزَّلل، وتعرض لهم العلل، يؤتَى على أيديهم فى العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذى تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالى الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم".

الشرح والتحليل:
الخليفة يحث الوالى على الرحمة بالرعية والصفح والعفو...
يحث الإمام على -رضى الله عنه- الوالى على مصر أن يكون رحيم القلب بالرعية، وأن يكون محبا لهم، وأن يكون لطيفا بهم، وينهاه عن القسوة والشدة، وعن اغتنام الفرصة للاعتداء عليهم، فلا يعتدى على أرواحهم ولا على ممتلكاتهم ولا على كافة متعلقاتهم، ثم يوضح على -رضى الله عنه- للوالى أن طبيعة أهل مصر من حيث الدين على قسمين، ولكلٍّ حقوق، فهم صنفان:
إما إخوته فى الدين من حيث كونهم مسلمين، وإما غير مسلمين، وهؤلاء نُظَراؤُه فى الخلق، فلا ينبغى التعالى عليهم، ولا التقليل من شأنهم، ولا التهاون بحقوقهم..وينبه على أن الناس د يقعون فى الزلل والخطأ، وربما اقترفوا أخطاءً عمداً، فلا يعنى هذا استغلال الفرصة للتنكيل بهم، أو للنيل منهم بعقوبات لا يستحقونها، وليُراعِ العفو والصفح قدر الاستطاعة مع الناس تماما كما يحب أن يعفوا الله تعالى عنه ويصفح، ثم ينبهه إلى أنه إذا أُدين، فسيحاسب من قبل الخليفة الذى ولاه - يعنى نفسه- وذلك لأنه إذا لم يتدخل الخليفة فى نصرة المظلومين والضعفاء، فإن الله سيحاسبه على تقصيره، فإن الله تعالى كلف الولاة والحاكم بأن يكونوا فى خدمة شعوبهم، وأن يقوموا على أمورهم، وهؤلاء الولاة والحكام موضع اختبار وابتلاء، فعين الله ترقبهم، وتسجل عليهم سائر تصرفاتهم ويحاسبون عليها.

هل الوصية بالرحمة والعفو تعنى عدم معاقبة الظَّلَمة أو المجرمين؟

إن الوصية بالرحمة والعفو والصفح لا تعنى التجاوز عن كل مسىء، أو عن مرتكب الكبائر، فنحن نعلم أن الله تعالى عفوٌّ، وأنه تعالى رحمن رحيم، ورغم هذا، خلق الجنة والنار، وشرع الثواب والعقاب، كى تستقيم الحياة، وكى يتحقق الأمن والاستقرار..قال تعالى:
( نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ )

فالمراد إذن مراعاة جانب الرحمة والعفو والصفح إن رأى الوالى والحاكم أن ذلك أفضل وأحسن، فإذا أدرك أهمية العقاب وإقامة الحد، ردعا للمجرم وزجرا لغيره، وجب عليه ذلك، وإلا عاش الناس فى قلق وخوف، وساد الذعر والفوضى وعمت شريعة الغاب، حيث فى غياب القانون الرادع، وفى غياب المحاسبة الجادة، البديل حينئذ للفوضى والبلطجة والإجرام وقطع الطريق وتعطيل المصالح.
وقد قص الله تعالى علينا فى كتابه الكريم قَصَصَ أقوام أهلكهك وعاقبهم بسبب إجرامهم وإفسادهم فى الأرض، مثل عاد قوم ( هود -عليه السلام-) وثمود قوم ( صالح -عليه السلام-) ومثل قوم سيدنا ( تُبَّعٍ -عليه السلام)، وأهلك الله عدة قرى بسبب ظلمهم، فقال تعالى :

(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)
وقال تعالى:
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)

فحين رأى الله تعالى أهمية العقاب أنزله على من يستحقونه، رغم رحمته الواسعة، ورغم أنه رؤف بالعباد، وسفى سيرة سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- الأمثلة الكثيرة التى فيها العفو والصفح عن المسىء، كما حدث مع أهل مكة حين فتحها وقال:" اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ومع هذا عاقب حين رأى أهمية العقاب فرجم ماعزاً الأسلمى حين ثبتت عليه جريمة الزنا- وكان محصنا- وكذا رجم المرأة الغامدية، وقطع يد المخزومية التى توسط أسامة بن زيد -رضى الله عنهما- بشأنها وغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه الوساطة، وقال:" أتشفع فى حد من حدود الله يا أسامة؟ والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
فمراد الإمام على -رضى الله عنه- أن يغلب على ولى الأمر جانب العفو، وأن يغلب عليه الحلم والصفح، فإن وجد أن الناس يسيئون استغلال ذلك طبق العقاب الرادع الذى يضمن تحقيق الأمن والاستقرار فى المجتمع، فتلك هى غاية التشريعات السماوية والقوانين الوضعية.

المبادىء التى تضمنها هذا الجزء من الوصية والتى يجب على الحاكم مراعاتها:
من المبادىء التى تضمنها هذا الجزء من وصية سيدنا على -رضى الله عنه- للوالى ما يلى:
1- أن يكون الوالى رحيما بأفراد شعبه ومحبا لهم ولطيفا بهم.
2- ألا يكون الوالى قاسيا أو عنيفا أو فظا مع أفراد رعيته.
3- أن يراعى الوالى مصالح جميع طوائف المجتمع.
4- أن يغلب على الوالى طابع العفو والصفح، وليس طابع الانتقام.
5- أن يعلم الوالى أنه سيحاسب إذا أخطأ فى حق شعبه..ولا ينسى مراقبة الله له.
6- أن يعلم الوالى أن الله تعالى ولاه أمور العباد وجعله فى موضع الابتلاء والاختبار، فليخش الله ويتقه.

يتبع غدا إن شاء الله >>>

» علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين
» السلسلة الوثائقية لفتوحات الخلفاء الراشدين من الجزيرة العربية الى العالم الاسلامي
» من فضائل ومواقف الصحابي الجليل علي بن ابي طالب رضي الله عنه
» الخامس من الخلفاء الراشدين
» أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين

الأقســـام الاداريـــة

الأرشيف

مواضيع عامة

رسالة إلى حاكم مصر من رابع الخلفاء الراشدين الإمام على بن أبى طالب -رضى الله عنه-

رسالة إلى حاكم مصر من رابع الخلفاء الراشدين الإمام على بن أبى طالب -رضى الله عنه-

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة