د. فاطمة الحمروش: أحذروا الدولة العميقة حتى لا تضيع دولتنا
أبارك لأهلي في ليبيا وخارجها بمناسبة سن قانون العزل السياسي بتاريخ 05/05/2012، جعله الله نورا هاديا للطريق السليم لثورتنا المباركة، وأود بهذه المناسبة أن أقول وبصوت عالٍ وواضح: حذاري مما قد يحاك لنا في الظلام، ولنتوكل على الله.
لقد عاهدت نفسي دوما أن لا أكون مبهمة في كلامي، وها أنا اليوم أكرر من جديد قولي: من لا يرغب في ظهور الحق لديه ما يخشاه، أما من يعمل بأمانة صادقا لوجه الله فيكون دوما أول المرحبين بظهوره، ومن يستعن بالله فلا غالب له، عليه توكلت وبه أستعين.
بعد عودتي إلى إيرلندا، شعرت في البداية بإحباط شديد بسبب الكم الهائل من الكذب والإفتراءات التي طالتني من ضعاف النفوس و"أبطال لوحات المفاتيح"، ولكني وبعد فترة من الهدوء إستجمعت فيها قواي، وأعتبرها إستراحة المحارب، أجد نفسي اليوم قادرة على مواصلة مشواري الذي بدأته ضد الفساد وضد الظلم وضد المفسدين.
لم يحدث أن بخلت سابقا، كما لن أبخل حاضرا أو مستقبلا، بكل ما أوتيت من جهد ووقت لنصرة الحق ، مهما كلفني ذلك، وأشكر الله الذي أعطاني من رباطة الجأش ومن الصبر ومن القوة، لأقف بدون وجلٍ أمام هذا الكم الهائل من المفسدين والمنافقين، ولأتسلّح بإيماني بعدالة الخالق لأعمل على فضحهم وكفّ بلدي مما يترتب على أعمالهم من ضرر.
ستتكوّن كتاباتي من:
تعليق على ما يجري في الحاضر، ملحقا بسرد بما يتناسب معه من أحداث عايشتها خلال فترة المعارضة، وخلال فترة عملي كرئيسة للمؤسسة الليبية الإيرلندية للإغاثة، وكذلك خلال عملي كوزيرة للصحة بالحكومة الإنتقالية، ثم أيضا بعد عودتي إلى إيرلندا.
سأُظهر في هذه الكتابات حقائقا تم حجبها وتشويهها من أشخاص، بعضهم أعلمهم وبعضهم لا أعلمهم، ولكني لن أتحفظ عن ذكر أي إسم أو تفاصيل أعرفها وسأرفقها بما يتوفر لدي من وثائق، أما فيما يشاع عني بهتانا فإني أنصح كل من لديه إثبات ضدي أن يقدمه للنائب العام، إذ أن الحديث بأسماء مستعارة لهو حوار الجبناء، ولا يستحق مني الرد.
يكفي هنا فقط أن أن أذكر للقراء أني خلال الفترة التي عملت فيها من السابعة صباحا إلى الثانية صباحا، وسط ضياع المراسلات وأجهزة التنصت في مكتبي وكافة وسائل الإرهاب، والتي لم تنجح في ثني إرادتي وعزيمتي ومن بينها التهديد بالسلاح، والقائمة تطول، كان "أبطال لوحات المفاتيح" يجتهدون في نقدي وفي نشر ما يبث حولي من إشاعات دون أن يقدم أي منهم شيئا صغيرا أو كبيرا إلى ليبيا ولو كان بتنظيف شوارعها من القمامة!!! لن أطيل هنا ولكني لن أرحم أحد، ولن أتحفظ في نشر ما لدي بالإسم وبالتاريخ وبالدليل الموثق، فليستعد من يعرف أني أعنيه هنا بهذا الخطاب..
إن الأحداث المتسارعة التي تجري في ليبيا في الأشهر الأخيرة ليست بظاهرة غير طبيعية، فالثورة في ليبيا لا تزال مستمرّة، وما يحدث الآن رغم صعوبته ورغم عُجالتنا في أن نرى بلدنا مستقراً، سيفرز الغث من السمين وسيفصل بين الأبيض والأسود، وسنخرج به من دائرة الشك والرؤية الضبابية إلى الضوء والوضوح تحت شمس الحق التي نرغب فيها جميعا، وكما كانت هناك التضحيات خلال الفترة الأولى من الثورة بالأرواح وبالمال وبالوقت وبصحة أبنائنا وبسمعة بعضنا، لأجل الوطن، فالدور اليوم يأتي للتضحية بالمناصب في الدولة الليبية الجديدة لإقرار الحق. بعض من سيشملهم قانون العزل السياسي كانوا معارضين لسنوات للنظام الدكتاتوري، وكثيرون منا يعلمون بأن كل ما قدمه هؤلاء لأجل الثورة ولأجل تحقيق آمال الشعب الليبي كان لأجل الخروج من الدولة الدكتاتورية إلى الدولة الدستورية الديمقراطية، إلا أنهم راضون بهذه التضحية التي تظل ثمنا بخسا بالمقارنة بالمكاسب التي سيجنيها بلدنا من موقفهم هذا رغم الظلم البيّن الواقع عليهم، ومن أمثالهم السيد مصطفى عبدالجليل والسيد محمد المقريف اللذان جهرا باستعدادهما لتنفيذ قانون العزل على أنفسهما إذا أقر المؤتمر الوطني بذلك.
إن هذه التضحية لا تضير أصحابها، بل هي شرف للشرفاء وتضاف إلى تاريخ نضالهم ضد الظلم في ليبيا، ونتاج هذا العمل سيكون تصفية وغربلة لأجهزة الدولة من المنافقين والمتسلقين والعاملين على مصالحهم الخاصة، وغير الآبهين بالمصلحة العامة، إنهم هؤلاء المندسون بيننا، الذين يحملون معنا العلم ثلاثي الألوان وينشدون معنا نشيد الإستقلال، وما بقلوبهم لا يعلمه إلا الله، إلا أن أعمالهم تفضح نواياهم، وبسبب تهاوننا معهم تمكّنوا من إعاقة مسيرة الدولة التي طمحنا لها عندما ثرنا ضد سيدهم، لقد أُعْطِيَت لهم الفرصة لمدة عامين فما فعلوا بها سوى جذبنا للخلف وعرقلة مسيرتنا إلى الأمام وتشويه سمعة كل شريف وكل من خالفهم، وعليه فإن قانون العزل هو الفاصل بعون الله، ولا وسيلة لنا للتخلص منهم سوى بإقراره بدون إستثناءات حتى لا ننخدع في المندسين بيننا، ولن يحرمهم هذا من حقهم في المواطنة، بل فقط يمنعهم من تولي مناصبا قيادية يكون لهم فيها حق القرار وتسيير الدولة، وبإذن الله ستكشف هذه الخطوة النوايا، وستسقط أقنعة كثيرة وسنرى وجوها خلفها لم ننتبه لوجودها بيننا بدون هذا القانون.
إن دوافع غضب العامة من أداء الحكومة الإنتقالية والحكومة المؤقتة ليست تجنيا أو من نسج الخيال، بل هي نتاج الواقع الذي يعيشونه، فقد مرَّ أكثر من عامين على إعلان الثورة ولا يزال العاطل عن العمل عاطلا، والمريض لا يزال لا يجد العلاج في المستشفيات الحكومية ويضطر إما للذهاب للمصحات الخاصة أو للسفر للخارج، ولا يزال كل من أراد أن ينجز عملا أو مصلحة مضطراً لأن يدفع رشوة وأن يتواصل مع أحد المتنفذين لكي تتم له أعماله، ولا يزال مبدأ الولاءات هو الغالب بدلا من الكفاءات في أغلب التعيينات في الدوائر الحكومية، ولا يزال التلاعب بالمال العام هو السائد، ولا تزال السجون السرية قائمة، ولا يزال الإستهتار بالحق العام مستمرا، وعليه فإننا بالرغم من ثورتنا على نظام الطاغية فإننا لا نزال نعمل بقوانينه وتشريعاته ولا يزال من يتحكم في إقتصادنا وفي غالبية وزاراتنا هم أنفسهم من كانوا يتحكمون فيها أيام الطاغية، منهم من لم يتغير من موقعه ومنهم من تم تغييره بنقله من وزارة إلى أخرى، ومنهم من إبتعد عن الواجهة ولكنه في الحقيقة لا يزال حاضرا وبقوة، يحقق له أغراضه "الصبيان" الذين يستنفعون من كرمه عليهم ليبقى وليبقوا.
عليه، فإننا ورغم تغييرنا للعلم وللنشيد الوطني، ورغم تولي بعض الثوار ومن ساندهم عدداً من المواقع القيادية، إلا أن من يتحكم حقيقة في هذه المصالح هم آخرون لا يراهم العامة ولا يراهم المحسوبون على الثورة سواء كانوا وزراء أو مدراء إدارات جدد أو حتى ثوارا، ورغم أن دولتنا اليوم بها المؤتمر الوطني والحكومة المؤقتة، خلفا للمجلس الإنتقالي والحكومة الإنتتقالية، فإن جسما آخرا ظل ثابتا، واستمر موازيا لهذه الأجسام ولم يتغير ولم يدخل إنتخابات ولم يشارك في الثورة ولا يرغب حتى في التغيير، هذا الجسم يعمل كجسم موازٍ لكل ما هو شرعي اليوم، ويستخدم تارة الوسائل المشروعة وتارة وسائلا غير مشروعة تسجل ضد مجهول، إنه ما يمكننا تسميته ب"الدولة العميقة".. وهو ما يجب علينا الإنتباه له والحذر منه حتى لا تضيع أعمالنا أدراج الرياح.. إن الثورة لم تنته بعد، ولن تنتهِ مادمنا لم نتخلص من الدولة العميقة بيننا.
ويمكن تعريف "الدولة العميقة" DEEP STATE على أنها مرادف "للأمن القومي"، فهي حكومة خفية موازية للحكومة المعلنة، أي أنها "دولة داخل دولة"، تنظمها أجهزة مخابراتية وأمنية، بتمويل وسيطرة وتحكّم من أشخاص أو جماعات قوية تمتلك من الإمكانات ما يكفي لتحريك فئات أخرى تنفذ لها برامجها. إن جُل من يشكلون الدولة العميقة هم من رجال الأعمال المتحكّمين في إقتصاد الدولة، ومهربي المخدرات وتجار الأسلحة، والمتاجرين في الهجرة غير الشرعية.. لا يبدو عليهم أنهم يقومون بأي دور في السلطة التنفيذية للدولة ولكن هذه الجماعات تقوم بحماية وضمان إستمرار النظام الذي يحفظ لها مصالحها، وذلك بتنظيم وتنفيذ أعمال عنف غير مشروعة ضد كل من يقف في طريقها، بما فيها أعضاء الحكومة المنتخبة، كما أن الدولة العميقة تظل جزءاً من السلطة التنفيذية بالدولة، ولكنها تنفذ أعمالها بشكل سري، وذلك بتنفيذ عمليات منها المشروع في حال إتفاقها مع القانون، ومنها غير المشروع في حال عدم إتفاقها معه، وتسجّل هذه العمليات ضد مجهول!ومن خلال هذا التعريف، يمكننا أن نرى أن "الدولة العميقة" هي واقع ملموس في دولتنا، بدليل ما يحدث فيها إبتداء من الأيام الأولى من الثورة إلى تاريخ يومنا هذا، من حصار للوزارات، ومن تفجيرات ومن إعتداء على شخصيات وطنية كما حدث مع السيد وزير الشباب السابق السيد فتحي تربل، ومن إغتيالات كما حدث مع السيد بن عثمان في مصراتة، ومن خطف كما حدث مع السيد قرقوم الموظف في السجل المدني في بنغازي، ومن إغتصاب ومن تهريب في الحدود من المهاجرين غير الشرعيين إلى الأدوية والمعدات الطبية إلى الأسلحة والمخدرات والأغذية منتهيةالصلاحية، وما إلى ذلك من أحداث يومية لا حصر لها في كل أنحاء ليبيا بما في ذلك بث الإشاعات والفتنة وتشويه العناصر الوطنية من رئيس الحكومة المؤقتة أو الوزراء أو أعضاء المؤتمر الوطني ومن قبلهم أعضاء ورئيس المجلس الإنتقالي وحتى رجالنا البواسل ممن يحسبون على الجيش أو الشرطة أو أنصار الشريعة (ولي في هذا حديث آخر لا يتسع المجال هنا للخوض فيه)، إضافة إلى سيطرتهم على وسائل الإعلام.
هذه في مجموعها مؤشرات خطيرة جدا، وبلا أدنى شك تحيد بمسار الثورة وبأهدافها، فبدلا من الإنتقال إلى الديمقراطية نجد أنفسنا اليوم نسير بخطىً واسعة نحو غوغاء لن نعرف مخرجا منها ما لم نقم بإجراءات عاجلة لتغيير هذا الإتجاه.
ومن هنا يبرز سؤال لا بد منه: أين هؤلاء الذين كانوا يشكلون كتائب القذافي؟ أين هؤلاء الذين كانوا في المسيرة المليونية في ميدان الشهداء في طرابلس؟ أين هؤلاء الذين كانوا يرقصون ويغنون في باب العزيزية؟ إنهم بلا شك هم المندسين بيننا في قوائم الجرحى، وفي قوائم هيئة شؤون المحاربين، وفي قوائم الثوار المطالبين بالمكافآت، وفي قوائم الإيفاد للدراسة بالخارج، وهم من يعرقلون أعمال كل الوزارات والمصالح الحكومية، وهم ليسوا بظاهرين إلا أنهم لا يزالوا يحاربوننا ولا يزالون يعملون لأسيادهم، فهم لم ولن يكونوا يوما مؤيدين للثورة، وهم من يصطادون في الماء العكر..
إن الذي نشهده من فوضى وانفلات وتمرد على السلطة، لا يتفق مع دولة السلم والسلام، والأمن والأمان، التي نرغب بها جميعا بمن فينا الثوار الذين يشاركون ببعض هذه الأعمال، مما يثير تساؤلات يتوجب علينا الوقوف عندها وقفة جادة مع مواجهة صادقة للنفس بدون مجاملة، لنسأل أنفسنا: لماذا يحدث هذا؟ من وراءه؟ ومن المستفيد؟
نتفق جميعا على أن كل ما يحدث، يتم بأيادٍ ليبية متعددة التوجهات، كما أننا نتفق أيضا على أننا جميعا سواء كنا سلفيين أو إخوانيين أو علمانيين أو معتدلين، فإننا نجتمع تحت مظلة واحدة وهي الخوف من ضياع الثورة وسرقتها ممن قامت الثورة ضدهم أصلا.
د. فاطمة الحمروش: أحذروا الدولة العميقة حتى لا تضيع دولتنا (2)
سأبدأ كلامي اليوم بوصف الساعات الأخيرة التي قضيتها في ليبيا قبل مغادرتي، وذلك بتاريخ 19 نوفمبر 2012، كان موعد طائرتي الساعة الواحدة ظهرا، ولكني كنت على موعد عند العاشرة مع شخصية أتحفظ الآن عن ذكر إسمها لأسباب تتعلق بالمهمة التي كلّفته بها ذلك الصباح، وقد سلّمته ملفات تكشف خبايا كثيرة وكماً هائلًا من الفساد في الوزارة وفي هيأة شؤون الجرحى. طلبت منه إعداد تقرير لرفع دعوى ضد من تتواجد لدينا ما يكفي من الأدلة ضدهم. سبق أن سلّمت جزءا من هذه الملفات إلى السيد سليمان زوبي والنائب العام ووزير الداخلية السابق السيد فوزي عبدالعال.
بتحفظي على إسمه، فإني أعطيه الفرصة للتصرف في ما سلمته من ملفات بحرية وبما يمليه عليه ضميره والقانون، ولا شك لديّ أنه لن يخذلني، وسأترك له الحديث متى شاء.
لقد خشيت ضياع هذه الملفات بعد مغادرتي، إذ أن جميعها كانت شهادات إثبات لا تدع مجالا للشك في تورط إداريين وشركات وسفراء وملحقين صحيين ومراقبين ماليين ومشرفين على علاج الجرحى (منذ المكتب التنفيذي إلى الحكومة الإنتقالية)، إحتوت تلك الملفات أيضا على مصادر الصرف (آلية الدفع المؤقتة، ووزارة النفط والمالية خلال فترة المكتب التنفيذي، ووزارة المالية خلال الحكومة الإنتقالية)، وتفاصيل الصرف على هذا الملف بالأرقام والتواريخ، إضافة إلى تقارير شركة التدقيق المالي والتي تمكنا من خلالها من تعديل الفواتير، مع تفاصيل كثيرة عن المشتركين في توزيع الحصص بينهم للإستفادة من الأموال المرصودة لعلاج الجرحى.
لقد قطعت بيني وبين الله عهدا بأن يتم تتبع كل من تاجر في أبنائنا وبعثر أموالنا وأساء إلى سمعة الثورة وسمعة بلدنا، وتقديمهم للعدالة. آمل من ألله أن يعينني على أن أفي بوعدي بمعونة جنودنا المخلصين الصادقين، هؤلاء المجهولين اليوم والخالدة أعمالهم غدا، حفظهم الله ورعاهم وحفظ ليبيا من كل مكروه.
لن يصح إلا الصحيح، ومن يتوكل على الله فلا غالب له والحمد لله.
عند الحادية عشر والنصف جاءت الحراسات الخاصة بي إلى مقري لنقلي إلى المطار، وكنت قد تلقيت وحرسي الخاص العديد من التهديدات بالقتل في الآونة الأخيرة، وذلك ممن تغلغلوا بين صفوف الثوار، الأمر الذي اضطرني إلى الموافقة على تكثيف الحراسة عليّ على مضض في الأشهر الأخيرة، حيث أن مجرد حاجتي للحماية جعلني أشعر بدرجة كبيرة من الظلم، فما قدمته وما قدمه من عملوا معي خلال تلك الفترة العصيبة نستحق عليها وسام بدلا مما طالنا، ولكن الله والتاريخ سينصفنا جميعا ولن يُرحم من أفسد أو أراد الإفساد.
عند المدخل الرئيسي للمقر لاحظت تواجد عدد كبير من الجنود، ولكني لم أنتبه إلا حين سمعت الحارس المرافق لي يقول: "أستأذنك بالتوقف هنا، ولا داعي لخروجك من السيارة، يمكنك أن تودعيهم منها، فهم بانتظارك للسلام عليك فقط!" .. نظرت إليهم، لقد كانت كتيبة كاملة هناك بانتظاري، شباب في مقتبل العمر، إنهم من هوّن عليّ وحدتي في ذلك المكان، وهم من سهروا على حماية من وما أمكنهم حمايته وشملوني برعايتهم.. كان يبدو على وجوههم التأثر والبراءة..
فكّرت: "هؤلاء الرجال، إنهم أمل المستقبل، وها هي الحيرة ترتسم على وجوههم بشكل مؤلم، مّرَّ كل هذا الوقت وبُذِلتْ كل هذه التضحيات، ولا يزالون لا يثقون بما يخفيه لهم المستقبل، يالها من معادلة!"
رفضتُ أن أودعهم من السيارة، فنزلت ونظرت إليهم، كانوا جميعهم في ربيع عمرهم، منهم الطالب الذي لم يكمل دراسته ولكنه لم يستطع أن يرجع إلى فصله الدراسي خوفا من أن تتم خيانته متى سلّم سلاحه، ومنهم خريج الجامعة ولكنه لو لم يستسلم لواقعه ويقرر البقاء في الجيش سيستمر في بطالته، ولن يتمكن من توفير دخل يُمَكِّنَهُ من العيش الكريم، ومنهم أيضا من كان يتمنى أن يلقي سلاحه ويرجع إلى عمله السابق، ولكن الثقة بواقع الحال لم تدخل قلبه بعد ليفعل..
مدّ لي أولهم يده ليسلّم.. فلم أستطع إلا أن احتضنه، وبكيت... لقد فاجأتهم وفاجأت نفسي أيضا ببكائي، ولكني شعرت حينها بصعوبة فراقهم، إنهم أبنائي.. أبناؤنا... إنهم من ضحى بكل ما لديهم على أمل أن يكون مستقبلهم أكثر شروقا، لقد قاموا بما لم نستطع أن نقوم به نحن في عمرهم ثم سلّموا لنا الأمانة... بكا معي الرجال.. ولم تكن هذه المرة الأولى التي أجد نفسي أبكي مع جمع من الرجال الأقوياء، تلك الدموع لا تُنقص منهم شيئا ولا تُنقص مني شيئا، بل هي لحظات تعجز فيها الكلمات عن وصف ما نشعر به.. وأعلم أيضا أنها لن تكون الأخيرة..
لا يكفينا الدعاء بأن يحفظ الله بلدنا، بل علينا بالعمل، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.. فلنحسن العمل، إن الطريق أمامنا لا يزال طويلا ولا يزال شاقا، ولكن لنعمل لكي لا نخذل تلك الوجوه البريئة الطيبة الحبيبة، رعاهم الله وحماهم وجعلهم ذخرا للوطن..
*********
لقد حذّرت في الجزء الأول من "الدولة العميقة" وأوضحت أنها تتمثل في المندسِّين بيننا، يتحدثون بلغتنا ويرفعون العلم ثلاثي الألوان معنا، وينشدون نشيدننا، ويتشدقون بالثورة ولكنهم لا يؤمنون بمبادئها ولا هدف لديهم سوى الحفاظ على مصالحهم فقط لا غير. إنهم اليوم يحاربوننا ولا يزالون في خدمة أسيادهم، ولم يكونوا حقيقةً يوما مؤيدين للثورة، كما أنهم ليسوا بجدد علينا، بل هم أقدم من الثورة نفسها وأقدم من المجلس الإنتقالي والمؤتمر الوطني والمكتب التنفيذي ومن بعده الحكومتين الإنتقالية والمؤقتة....
توقع مني الكثيرون أن أغيّر مدراء الإدارات بمجرد وصولي للوزارة، إلا أن هذا المفهوم لم يكن لديّ حينها حيث أنني أؤمن بالولاء للوظيفة بدلا من الولاء للأفراد، وتوسَّمت خيرا فيمن كانوا من قبلي، ولكني تفاجأت خلال الأسبوع الأول بأن مدير مكتبي قد تم تعيينه منذ أسبوع فقط قبل وصولي للوزارة من قبل سلفي، وكذلك سائق سيارتي الذي أعلمني بأنه تعيّن مع مجيئي وكان إبن خالة رئيس الملف الصحي بالمكتب التنفيذي د بركات، كان وكلائي أيضا معيَّنين من قبل رئيس الوزراء، وهم د فهمي حمزة، ود المهدي الورضمي، ود عياد عبدالواحد.
خلال أول أسبوعين لي في الوزارة، لاحظت الكم الهائل من الفوضى الإدارية والأعداد التي ترد إلى مكتبي للحديث معي والتي تصل إلى العشرات وفي بعض الأيام إلى المئات! لم يكن من الممكن بأي حال من الأحوال التقيد بأي برنامج بل لم يكن من الممكن حتى قراءة رسالة واحدة أو الرد عليها في خضم هذه الأفواج المتتالية، والتي تبدأ في الورود للوزارة بموعد وبلا موعد من الثامنة صباحا إلى الحادية عشر مساءً، بل حتى يوم الجمعة والذي لم يكن يوم عمل سوى خلال فترتي الوزارية، ولكن بقدرة قادر كان الجميع يردون إلينا! (تبين لنا فيما بعد أن حراسة الوزارة كانت متآمرة على الوزارة وكان الحراس يقوموم بالإتصال بالمخربين ليأتوا إلى الوزارة بمجرد دخولي إليها!!) ورغم كل المحاولات للإيضاح بأن هذا السلوك يعرقل عمل الوزارة، إلا أنها كانت جميعها تذهب سدى، واستمر هكذا الحال إلى أن إنتقلت إلى مقر الدعوة الإسلامية وأصبح الدخول لمكاتب الوزارة بالدعوة بإذن من البوابة الرئيسية بحراسة عناصر وزارة الدفاع.
مما أثار إستغرابي أيضا كان الضياع المتكرر للبريد الصادر وتأخر البريد الوارد، بالإضافة إلى ظهور هذه المراسلات على الفيس بوك قبل وصولها إلى وجهتها وخلال نصف ساعة من تحريرها!!
لم تمر ثلاثة أسابيع حتى أصبح واضحا لنا أن العرقلة التي كنا نواجهها كانت صادرة من عدد لا يحصى من موظفي الوزارة والكتيبة المكلفة بحراستها، تمكنت من التعرف على القليل فقط من الموظفين المسؤولين عن هذه الفوضى، وتم نقلهم إلى جهات أخرى بعيدا عن الوزارة أو إرجاعهم إلى الجهات التي كانوا منتدبين منها، بينما ذهبت مراسلاتي لوزارة الداخلية لتغيير كتيبة الحراسة أدراج الرياح، بل وليس هذا فقط إذ أني فوجئت بعد لقاء مطوّل مع السيد طارق زامبو، رئيس اللجنة الأمنية العليا آنذاك، بأنه قام بتثبيت هذه الكتيبة بالوزارة بقرار رسمي، وكان تبريره على حد قوله هو أن هناك إعتبارات أخرى يجب الأخذ بها، وكأن تلك الإعتبارات أكثر أهمية من مصلحة الوزارة وسلامة موظفيها! ولي في هذا الموضوع حديث آخر لا يتسع المجال هنا للخوض فيه.
كان لا بد من تعيين بدلاء، وحيث أن مدة الحكومة كانت قصيرة، إضافةً إلى أن غالبية أعمالها كانت تعني بالتعامل مع الأزمات خلال الفترة الإنتقالية، فقد كانت حاجتنا عاجلة إلى عناصر وطنية تملك الكفاءة وجديرة بالثقة، ولإيماني بأن نساءنا لم تعقم من إنجاب الأوفياء لوطننا فقد توسمت الخير، ووضعت الثقة فيمن توقعت أنهم كانوا أهلا لها من أعضاء المجلس الإنتقالي أو الوكلاء أو بعض مدراء الإدارات أو من رؤساء المجالس المحلية بمناطقهم. لم يتم الإعلان عن الوظائف بالشكل المعتاد، بل إكتفينا بقبول بعض السير الذاتية إضافة إلى ضمانة من بعض من ذكرتهم أعلاه، إلا أننا فوجئنا فيما بعد بأن غالبية هذه التوصيات لم تكن للمصلحة العامة بل كانت لمصالح خاصة فقط، ولم يكن ميزان الوطنية أو الكفاءة أو الثقة من الأمور ذات الأولوية لمن أوصوا بهم.
أمر آخر فاجأني، كانت درجة الأمية لدى غالبية خريجي الجامعات الذين تم تعيينهم في الوزارة عالية جدا، فعدد كبير منهم لا يستطيع حتى الكتابة بدون أخطاء إملائية، ناهيك عن القدرة عن التعبير في رسالة رسمية، بل أن بعضاً ممن تقدموا لوظيفة السكرتارية وتحصلوا عليها، كانوا غير قادرين حتى على الطباعة، وكان كل هم جزءاً كبيراً منهم إيصال المعلومات إلى الفيسبوك أولا بأول، أو إلى أطراف أخرى لهم علاقة بهم بال س م س ولهم بعض المصالح التي يرجون أن يقضوها من خلال وجودهم بالوزارة، أحد هذه الأمثلة كان مدير مكتبي الأخير الذي كان لا يزال تحت التجربة خلال شهر يوليو وأغسطس 2012، وكذلك مديرة إدارة الإعلام بالوزارة السيدة فوزية الطشاني والتي تم إقتراح تعيينها من طرف د هدى قشوط، ليصدر فيما بعد فيها، بعد ثمانية أشهر، قرار من هيئة النزاهة بعدم توفر شروط النزاهة فيها لنشاطها باللجان الثورية في طرابلس المركز! لقد كان لهذه السيدة دور كبير في تأليب الإعلام على الوزارة وفي محاولة تمرير عقود لأزلام النظام السابق كشركة الصقر الأخضر التي كان يملكها محمد المنصوري الذي تربطه علاقة نسب بعبدالله السنوسي، وقد حاولَتْ هذه السيدة تمرير عقود الشركة المذكورة بطرق شتى، ولكنها فشلت بسبب تحويلي للملف إلى ديوان المحاسبة. فما كان منها بعد تنحيتها من الوزارة في أغسطس 2012 إلا أن شنّت عليّ حملة إعلامية شرسة ساعدتها فيها أختها عواطف الطشاني بصفتها وكيلة وزارة الثقافة والمجتمع المدني في الحكومة الإنتقالية ثم بعضا من الوقت كوكيلة لوزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة.
********
بعد أسبوع من مجيئي للوزارة في نهاية نوفمبر 2011، قدم مدير مكتبي إستقالته وقبلتها، ولكني وجدت نفسي بدون مدير مكتب، وقد كانت أختي في زيارة لي، وعرضت عليّ أن أعيّنها في مكتبي لمساعدتي، فقد كانت تعمل خبيرة قضائية في وزارة الصحة، وكانت رئيسة مؤسسة سيف الإسلام القذافي لحقوق الإنسان قبل الثورة، فوافقت وطلبت منها أن تنتقل إلى طرابلس كمديرة لمكتبي لكفاءتها ولقناعتي حينها بأن ليس كل من عمل مع النظام السابق كان مفسدا ( وليس كل من عارضه أيضا كان مصلحا).. وكذلك لعلمي بأن ساعات العمل ستكون طويلة، إلا أن هذا القرار تسبب لي في الكثير من المشاكل وتم إتهامي بتفضيلها بصفتها أختي، والحقيقة هي أني ما فعلت ذلك إلا لظني بأن خبرتها في وزارة الصحة في بنغازي ستكون مفيدة للوزارة.
طلبت منها تقديم إستقالتها إستجابة لطلب الكثيرين وثقة مني بأني سأجد من سيحل محلها، بالإضافة إلى عدم ضمان سلامتها وخشيتي من أن يعتدي عليها أحد بسبب تلك الأقاويل، فطلبت منها تقديم إستقالتها.
صاحب قرار قبول إستقالتها قرارين آخرين، لقبول إستقالة د. هدى قشوط وإعفاء د فهمي حمزة من وكالة الوزارة، وذلك بعد أن نشب بينهما عراك في مكتبي وخارجه وصل إلى التهجم اللفظي من وكيلي تجاهها وتجاهي أيضا، كما تبين لي أنه كانت له يد في عدم وصول مراسلاتي إلى وجهتها وضياع البريد المصور الذي كان من المفترض أن يصلني، عرضت أمر إعفائه من عمله كوكيل، لعدم توفر مناخ العمل بيننا، على السيد مصطفى عبدالجليل والسيد عبدالرحيم الكيب فوافقاني، ولكن كان لدى السيد الكيب شرط وهو أن أقيل د هدى واختي أيضا، ففعلت للحد من المشاكل التي بدأت تظهر بسببهما أيضا.
كان أمر إقالتهما بداية لحرب إعلامية إشتركت فيه الإثنتان، ثم لحق بالركب آخرين خلال الأشهر التالية، ولكم خجلت لهم جميعا، إذ أن كل ما صدر منهم كان دافعه الرغبة في البقاء في المناصب، وبينما كنت منشغلة في العمل كان كل همّ هؤلاء إفشالي وإفساد أي مجهود يمكنه أن يؤسس للمرحلة القادمة في الوزارة، وكما صرّح بعضهم "لكي لا أمدد مدتي فيها"! لم أرد على أحد حينها، ولكني أؤكد لهم ولكل من إعتقد أني جئت لهذه المهمة حبا في منصب الوزير أو ميزاته، أني ما جئت إلا ظنا مني بأنني سأواصل خدمة وطني بصلاحيات أكبر مما كانت لديّ كرئيسة لمؤسسة إغاثية، أو كمستشارة لديها من المعارف في بلد الغربة ما يكفي لخدمة الوطن، وحيث أني نجحت في تلك المهام، فقد إعتقدت أني كوزيرة سأتمكن من تقديم ما هو أكثر لثقتي في نفسي ووطنيتي وخبرتي في الإدارة، ولكن ما لم يكن في الحسبان هو أن أجد نفسي مع عدد لا يتعدى عدد الأصابع لتسيير وزارة بمستشفياتها وبفروعها، غالبية من بها لا يملكون من الأخلاقيات المهنية أو الطبية أو حتى الإنسانية ذرّة، الأمر الذي يجعلني أتساءل مرارا وتكرارا: ما هو ميزان الوطنية عند هؤلاء؟ هذا سؤال يحتاج إلى تأمل طويل، ولا أعرف إن كنت حقيقة أرغب في أن أجد الإجابة! فقد إمتنع الكثيرون عن العمل للنهوض بخدمات الوزارة لعدم حصولهم على مرتب مرتفع أو لكي لا تتحسن الخدمات الطبية و"آخذ الفضل" على حد قولهم، وأخص بهذا التعبير الأخير عدد كبير من أطباء المهجر، حيث أني وبعد أن فقدت الأمل في أن تقوم إدارة الخدمات الطبية بالوزارة باستجلاب الاطباء بسبب البيروقراطية القاتلة وكذلك بسبب ضعف مرتبات الأطباء بليبيا، وفشلي في زيادتها بسبب الرفض المتكرر لرئيس الوزراء بتعديل لائحة 418 بحجة أن مرتبات الدولة كافة بحاجة إلى تعديل وليس فقط مرتبات الأطباء، الأمر الذي تسبب في عزوف الجميع سواء كانوا أجانب أو ليبيين من القدوم للعمل في ليبيا، طلبت من السيد الفاضل د عادل الرتيمي المقيم بلندن، أن ينزل إعلانا في المنظومة الخاصة به، والتي بها حوالي 2000 طبيب ليبي من شتى أنحاء العالم لدعوتهم للعمل في ليبيا للنهوض بقطاع الصحة ولتدريب الأطباء الجدد وتحسين مستواهم، فرد عليه 40 طبيبا فقط بالقبول، بينما إعترض الكثيرون على تعاونه معي ووصل ببعضهم تهديده بسحب أسمائهم من المنظومة وذلك لتوليه "الدعاية لي" حسب تعبيرهم!!! وللأسف حتى هؤلاء الأربعين، لم تتم إدارة الخدمات الطبية بالإتصال بهم رغم إستعدادهم للقبول بالمرتبات المحلية!
وفي نفس المضمار، قمت بتقديم عرض بعقود خاصة لليبيين في المهجر حيث أن القانون يجيزلي كوزير بأن أعقد عقودا خاصة لمائة طبيب، وكان في السابق يتم إعطاؤها للأجانب ففضلت أن يستفيد منها الليبيين فالأجانب ليسوا خيرا منهم ولا هم أحرص على ليبيا منهم، وقمت فعلا بتوقيع ثلاثة عقود، ففوجئت برفض المستشفيات في طرابلس لهم بحجة أنهم ليسوا بحاجة لهم، مما أضطر احدهم للعمل في أحد المستشفيات القروية، والأخرى طبيبة نساء وولادة قررت العمل في قطر، بينما تركتُ الثالث يجرب حظه حين تركت الوزارة. بالطبع لو أن الأوضاع مختلفة، لكنت أحلت مدراء المستشفيات الرافضين إلى المجلس التأديبي، ولكني أعلم جيدا أن بإمكان هؤلاء أن يستعينوا بنائب رئيس الوزراء لينقض قراري أو يعدوا كتبية لمن يستدعيهم لإرهابهم، كما حدث مع لجنة التسليم والإستلام في مركز طرابلس الطبي بعد صدور قرار إعفاء د. خالد اوريّث من عمله لعدم كفاءته!
ألسنا في دولة الحريات اللا محدودة؟
توالى عليّ ست مدراء مكتب، ولكل منهم قصته، ولم أجد أن أحدا منهم كان قادرا على أداء العمل المطلوب منه أو تحمل مسؤوليته، وفي النهاية قررت أن أكمل الشهرين الأخيرين بدون تعيين أي مدير مكتب.
من الطريف أيضا، تبين لي في شهر مايو 2012 وجود جهاز تنصت في مكتبي يرسل إلى مسافة ثمانية كيلومترات! وانتهى الأمر بإزالته وتبليغ وزارة الداخلية، ولم يتم التحقيق في الموضوع إلى يومنا هذا.
هذا جزء من كثير، وسأتطرق إلى أمور أخرى خلال كتاباتي حسب المناسبة كل مرّة.