تردد أوباما في الشأن السوري: دروس من داخل المعمعة!
يجب أن نعيد البعد الأخلاقي إلى مداولاتنا. يجب أن يشعر الرئيس الأميركي بهذه الأهمية الأخلاقية، وإلا فسيكون أوباما، رغم كل كلامه عن الضمير، قد اعتمد خلال رئاسته شكلاً مشوهاً جداً من الخطاب الأميركي: فصل الضمير عن العمل.
نقل مراسل زار البيت الأبيض أخيراً خبراً بأن انتقادات رفض الرئيس أوباما اتخاذ أي خطوات بشأن الكارثة السورية “بدأت تؤثر بعمق”. ولا شك أن هذا جيد لأن هذه الانتقادات لم تذهب سدى. ومن المؤكد أن حجج الرئيس الواهية عن “خطه الأحمر” كان لها تأثير كبير. فقد أوقع نفسه في مأزق لا يمكنه الخروج منه بالكلام، ما ألحق بالتالي الأذى بإيماننا بالقوى السحرية لخطابه. تحفل الصحف بتقارير عن أن سياستنا قد تتبدل، وأننا قد نمد أخيراً ثواراً يمكننا تقبلهم عقائدياً بالسلاح، وأننا قد عثرنا على هؤلاء الثوار تحت قيادة اللواء سليم إدريس، وهكذا دواليك. كذلك أخبر مسؤول في البيت الأبيض مراسلاً آخر عن إعادة النظر هذه، التي كانت تُعتبر قبل وقت ليس ببعيد مساراً تنازلياً، قائلاً: “نتبع اليوم مساراً تصاعدياً”. يبدو أوباما محرجاً إلى حدّ ما من تداعيات أنه كان طوال سنتين مخطئاً بشأن إحدى أهم أزمات رئاسته. لذلك يدفع البيت الأبيض إلى تكرار حضّه القديم على توخي الحذر (تعبيره الكيسنجري المثير للاستهجان الذي يعني الخجل العقائدي). رغم ذلك، يبدو أن الأوضاع بدأت تتبدل. فقد لفت استخدام سورية غاز السارين والغارات الجوية الإسرائيلية (التي نجت بأعجوبة من القوة الخيالية لدفاعات الأسد الجوية)، على ما يبدو، اهتمام الإدارة الأميركية. فهل يؤثر كل ذلك في أوباما ويحمله على التدخل؟ لا أعتقد ذلك. فسياسته المناهضة للتدخل ضاربة في العمق، فلسفياً وشخصياً. ولكن في مطلق الأحوال، يمكننا استخلاص بعض العبر من هذه المعمعة.
مرارة التأخر
لا نعرف اليوم تفاصيل عن الأسد كنا مطلعين عليها قبل سنة أو أكثر. حتى استخدامه الأسلحة الكيماوية لم يبدل نظرتنا إليه. فلطالما كانت استراتيجيته في هذه الأزمة تحويل ثورة ديمقراطية إلى حرب طائفية. أما الطريقة التي اتبعها لتحقيق ذلك، فشملت ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وفي السنتين اللتين ظلت الولايات المتحدة فيهما صامتة، ازداد الوضع السوري سوءاً، حتى بات مَن يؤكدون اليوم أنه ما من حلول مثالية محقين. ولكنّ ثمة حلولاً غير مثالية، علماً أن هذه غالباً ما تكون الحلول الوحيدة التي تسمح بها حياة الأمم، وفق توماس هوبز: ما زال بإمكاننا إنشاء عناصر موالية للغرب في الصراع من أجل سورية بعد سقوط الأسد، فنحرم بذلك تنظيم “القاعدة” من تشكيل حكومة في دمشق ونحدّ أيضاً من تدفق اللاجئين الذي يزعزع المنطقة برمتها. غير أن الطريق إلى دولة سورية ديمقراطية أطول وأكثر تعقيداً مما كان عليه سابقاً. لا أقول ذلك لأوجه الاتهامات فحسب، بل أيضاً لأن إخفاق أوباما في اتخاذ الخطوات الضرورية سريعاً في الأزمة السورية يسلط الضوء على أخطاء الرؤساء الأميركيين المعتادة بعد الحرب الباردة، ومنها رفض التعاطي مع حالة طارئة كحالة طارئة. يُعتبر الصبر في الكثير من المشاكل التي يواجهها رجال الدولة فضيلة وتصرفاً سليماً وحكيماً. إلا أنه ليس كذلك دوماً. ثمة انتهاكات فادحة للعدالة، مثل ذبح المدنيين، من الضروري التصدي لها من دون أي تأخير. ويجب فهم هذه الحالات بالشكل الصحيح. فعند مواجهة هذه الدرجة من الإلحاح، يعتمد النجاح أو الفشل على الوقت. لمَ علينا تعلّم هذا الدرس مراراً؟ لمَ يجب أن تكلّف الدروس التي يتعلّمها الرؤساء دوماً عدد قتلى كبيراً؟ هل قرأ أحد في البيت الأبيض كتاب سامانثا باور؟
ثقافة «استراتيجية الخروج»
أخبر مسؤول أميركي بارز يشارك في رسم السياسة السورية، ديكستر فلكنز من مجلة The New Yorker، متشكياً: “يسألني الناس في الكونغرس: ألا يمكننا أن نفرض منطقة حظر جوي؟ ألا نستطيع تنفيذ ضربات عسكرية؟ نستطيع بالتأكيد. لكن المشكلة تكمن في السؤال: أين يتوقف كل ذلك؟”. الجواب: لا نعلم. ولكن هل تشكل رؤية الغيب مطلباً ضرورياً لاتخاذ خطوات تاريخية؟ هل يجب أن نعلم النهاية منذ البداية؟ وإن كان ذلك صحيحاً، فلن يقدِم أحد على تأسيس شركة، أو تأليف كتاب، أو اتباع علاج طبي، أو الدخول في علاقة حبّ. يمكننا التأكد من أهدافنا، إلا أننا لا نستطيع أن نضمن الظروف. تكون الأعمال الأكثر أهمية عادةً مرتجلة، مع أن أهدافها ينبغي أن تبقى دوماً واضحة. تشكّل هالة “إستراتيجية الخروج” في ثقافتنا محاولة أميركية أخرى لننكر عدم يقين التجربة ونؤكد تحكمنا بما لا يمكننا التحكم به. ويتجلى ذلك في حالتنا هذه بالهوس الأميركي بالتحكم في استخدام القوة الأميركية. لكننا نخوض غالباً ما لا نستطيع التحكم فيه. فما من نتائج مضمونة، إلا ربما إذا امتنعنا عن اتخاذ أي خطوات. لا نحتاج إلى التحكم في العالم الذي نتخذ فيه خطوات حاسمة. يكفي أن نملك أسباباً قوية يمكننا تبريرها وأساليب قوية نستطيع الدفاع عنها وأن نبقى حذرين ونحتاط لأي طارئ، محتفظين بمقدراتنا التحليلية. في مطلق الأحوال، ثمة الكثير من السبل (منها الجيد ومنها السيئ) إلى إنهاء التزام عسكري، وأوباما نفسه يدرك ذلك جيدًا. ولا يهدف كل هذا الكلام عن إستراتيجية الخروج إلا إلى منعنا من التدخل في المقام الأول. وعلى غرار قريبها “المنحدر الخطير”، تختبئ “إستراتيجية الخروج” بشكل غوغائيّ وراء قناع الحذر.
نسيان الوجه الإنساني
لقي سبعون ألف شخص حتفهم في الحرب السورية، معظمهم على يد النظام الحاكم. وبما أن هذا العدد ظهر في الصحف قبل بضعة أشهر، فلا شك في أن الحصيلة الفعلية أكبر بكثير. فقد تسارعت وتيرة القتل. لكن مناقشة التدخل الأميركية تُجرَى بوتيرة بطيئة: الخطر الذي تواجهه المصالح الأميركية بسبب المجاهدين في سورية، ومناورات إيران و”حزب الله”، والتهديدات الإسرائيلية، وانجرار الأردن ولبنان والعراق إلى الحرب. لا شك أن هذه كلها أسباب جيدة يجب أن تدفع بالرئيس الأميركي إلى التصرف كرئيس للولايات المتحدة. ولكن ألا يُشكل وقف التطهير الإثني وحرب الإبادة سبباً كافياً؟ هل يُعتبر موت عشرات الآلاف أو حتى مئات الآلاف وتهجير الملايين أقل أهمية وإلحاحاً من السياسة الأميركية؟ يجب أن نعيد البعد الأخلاقي إلى مداولاتنا. يجب أن يشعر الرئيس الأميركي بهذه الأهمية الأخلاقية، وإلا فسيكون أوباما، رغم كل كلامه عن الضمير، قد اعتمد خلال رئاسته شكلاً مشوهاً جداً من الخطاب الأميركي: فصل الضمير عن العمل.
http://natourcenter.info/portal/