''الخبر'' في زيارة لعائلة أول طيّار جزائري
المرحوم الرائد سي جمال رمضان حياة مثيرة وموت غامضة
ان تفوّقه لغزا للفرنسيين وموته متاهة للجزائريين، الشاب الذي درّب زعيم جنوب إفريقيا، نيلسون مانديلا.. كل شيء يدعو إلى الحيرة والتساؤل حينما يتعلق الأمر بنضال وحياة ووفاة أول طيّار جزائري. البطل أحسن رمضان، المدعو سي جمال (الاسم الثوري)، الذي تحمل دائرة رمضان جمال بسكيكدة اسمه. كان حلمه كبيرا، منذ الصغر، بأن يطير ويتحدى المعمّرين في دراستهم، بل ويتفوق عليهم، لكن المفاجأة أن كانت أول طلعة له باتجاه المغرب، هربا من الاستعمار الفرنسي، حيث انضم إلى جيش جبهة التحرير الوطني سنة 1957، وأصبح من أكبر المدربين في مجال السلكي واللاسلكي. كان بالإمكان أن تستفيد الجزائر من خبراته، لكنه رحل بطريقة غامضة، كما كانت حياته. لتبقى وفاته لغزا يؤرق عائلته إلى اليوم..
كانت الساعة العاشرة صباحا عندما ضربنا موعدا لعائلة المرحوم الرائد سي جمال رمضان لزيارتها،وكانت المناسبة إحياء الذكرى الخمسين لوفاته، التي ما تزال لغزا عند العائلة، التي تبحث عن حقيقة بعد 5 أشهر من الاستقلال، حيث اختلفت فيها الروايات بين الاختناق في الحمام، إلى البرقية المشؤومة التي أخذته ولم تعده إلى البيت مرة أخرى.
تعود ذاكرة عائلة المرحوم جمال رمضان إلى سنواته الأولى. ونحن نتجول بأنظارنا عبر صور سي جمال، التي عُلّقت على جدران البيت المتواضع، الكائن بحي الإخوة علوش، في مرتفعات مدينة سكيكدة، حيث يظهر فيها رفقة شخصيات ثورية معروفة على الصعيد العالمي، كصورته رفقة الزعيم نيلسون مانديلا، الذي درّبه، وصور أخرى لقادة الثورة الجزائرية، من بينهم الرئيس الراحل هواري بومدين، ومحمد علاهم ومحمد العماري والأمين خان وعبان رمضان وعبد الحميد لطرش والعقيد شابو، وغيرهم من كبار رجال ثورة التحرير. وأثناء هذه الزيارة فضّلت عائلته نشر الصورة التي يظهر فيها المرحوم راكبا جواده الأبيض، الذي كان يستعمله في تنقّلاته إبان ثورة التحرير.
انضمامه إلى كلية الطيران الحربي أربك المستعمر
تتأبّط العائلة آلة الزمن لتقلب أوراق ذكرياتها، وتتحدث عن البدايات الأولى، حيث كان سي جمال يدرس في متقنة الذكور، وتحصّل بها على شهادة الكفاءة المهنية، وكان حلمه الوحيد أن يصبح طيّارا. لم يجد، حسب العائلة، الشاب الحالم حلا إلا التحدث مع أحد المعمّرين والمدعو ''مورال''، حيث عبّر له عن حلمه، وأخبره بأن عائلته كثيرة الأفراد ووالده ميسور الحال، وطلب منه التوسط له من أجل الالتحاق بمدرسة الطيران الحربي ''بروش فور'' بباريس. وكان ردّ المعمر ''مورال'' إيجابيا، قائلا ''أنت شاب وبإمكانك تحقيق حلم الطيران''. ثم يضيف أفراد العائلة، قام بتقديمه إلى مساعده ''برانكو''، وطلب منه تكوين ملف للشاب، من أجل المشاركة في المسابقة التي ستقام ببوفاريك. توجّه جمال أحسن رمضان، كما تورد العائلة، إلى العاصمة، حاملا معه عتاده وعدّته الحلم ينتظره، وكله أمل في الظفر بمقعد في الكلية الحربية. ومكث هناك مدة أسبوع، وكم كانت المفاجأة قوية الوقع، حين تصدّر قائمة الناجحين. وككل الجزائريين الذين لا يحق لهم الحلم، في ظل استعمار يرفض تفوّق أبناء الأنديجان، فقد سرق المستعمر الفرحة من الشاب جمال، وبدل مكافأته وتهنئته، يقول شقيقه: ''تعرّض للاستجواب والتعذيب والاستفسار عن هدف مشاركته في المسابقة والجهة التي أرسلته''.
أول طائرة قادها هرب بها وانضم إلى جبهة التحرير
رغم الحصار الذي أقامه الفرنسيون على نجاح سي جمال، باعتباره كان العربي الوحيد الناجح في المسابقة، التي أدخلته إلى مدرسة الطيران الحربي، لكن الأقدار كانت أقوى، ويقول شقيقه جمال الحقيقي إن سي جمال بقي في المدرسة، حيث عمل ميكانيكيا في الطيران، وهناك تعرّف على زميلة له فرنسية، هذه الأخيرة انبهرت بقدراته العلمية، خاصة في ميدان الميكانيك، فاحتكت به وأصبحا صديقين، وبقي بالمدرسة كطالب. يواصل الشقيق كلامه بقوله إن الفرنسيين لم يهضموا هذا التفوّق من ابن أنديجان، خاصة في المجال العلمي، فحاولوا التخلص منه، حيث خططوا لقتله، تزامنا مع الاحتفال بعيد استقلال فرنسا في 14 جويلية من سنة 1956، غير أن الطالبة الفرنسية حذّرته من ذلك. لم يجد سي جمال، حسب شقيقه، وسيلة أخرى للهرب سوى طائرة صغيرة كانت هناك، وحتى لا يلفت انتباه زملائه بالمدرسة، خاصة من كانوا بالمستودع، أوهمهم بأن بها عطبا تقنيا قدم لتصليحه، فصعد إلى الطائرة وأقلع بها نحو المغرب. لم تنته متاعب سي جمال، لأن المغرب لم يرخّص له، في بداية الأمر، بالهبوط على أرضه، لكن تدخلت جبهة التحرير الوطني، خاصة وأن هروبه تزامن مع إضراب الطلبة الجزائريين، فسُمِح له بالهبوط. ومن المغرب، يضيف شقيقه، التحق بصفوف الثورة في الجهة الغربية من الوطن، وهناك أطلق عليه اسم سي جمال، لكن لا أحد كان يعرف من أي ناحية جاء، وكان كلما طُرح عليه السؤال يرد أنه جزائري.
تميزه في السلكي واللاسلكي دفع الطيران الفرنسي إلى قصف مواقعه
كان انضمام سي جمال إلى قوات جيش جبهة التحرير الوطني إضافة حقيقية له، فيروي أحد أشقائه بعض المواقف التي يبقى أمامها الإنسان مشدوها، إذ لم يكن تفوّق سي جمال في الطيران فقط، بل كان متميزا، أيضا، في مجال السلكي واللاسلكي، ما مكّنه من مخادعة الطيران الفرنسي، حيث تحصّل على كلمة السّر، وتحدث مع الطيّارين الفرنسيين وأخبرهم بأن هناك عددا هاما من ''الفلافة'' في الطريق، وقام بتغليط الطيران الفرنسي، الذي راح يقصف القوات الفرنسية، وهي الخطة التي ألحقت بالمستعمر الفرنسي خسائر كبيرة على يد طيرانه الحربي. كما إنه، يقول شقيقه، عمل على تدريب جنود جيش التحرير على كيفية استعمال أجهزة الاتصال، التي كان يأتي بها المرحوم مسعود زوفار. وكان المرحوم من بين الشخصيات العسكرية المحنّكة، إلى جانب كل من الرئيس الراحل هواري بومدين، ومحمد العماري، وعلاهم والعقيد شابو، وغيرهم من قادة ثورة التحرير، الذين تدربوا، بدورهم، على كيفية استعمال أجهزة السلكي واللاسلكي.
لم يترك سي جمال ما يشهد على بطولاته وتميّزه إلا عددا كبيرا من الصور، عرضها علينا شقيقه، بكثير من الافتخار والاعتزاز، خاصة تلك التي تبيّن المرحوم وهو يشرف على التدريب العسكري لزعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، وهنا أخبرنا شقيق المرحوم بأن مانديلا كان كلما حلّ بالجزائر، تحدّث عن المرحوم معترفا بما قدّمه له من تدريب على الأسلحة وتقنيات الأجهزة الحربية المستعملة آنذاك. كما قدّم لنا صورا أخرى يظهر فيها سي جمال مع كريم بلقاسم وآخرين.
برقية الغدر المشؤومة
كان انضمام سي جمال خيارا وطنيا لا غبار عليه، لكن رحيله من الدنيا لم يكن خياره، ولا حتى الطريقة التي رحل بها، والتي بقيت تحوم حولها علامات استفهام كثيرة.. وحسب شقيقه فقد زار سي جمال العائلة لقضاء شهر كامل بين أهله، لكن بعد أسبوع وصلته برقية مستعجلة، يطلب فيها ''الرفاق'' حضوره فورا إلى العاصمة، إذ صدر قرار بترقيته إلى منصب مدير عام للتدريبات في وزارة الدفاع الوطني، لكن والده، المرحوم محمد، عارض ذلك، وطلب منه البقاء بعد غياب سنوات. ويضيف شقيقه: ''لقد قال سي جمال عند مغادرته جملة لا تزال في ذاكرة العائلة: مازال الاستقلال الحقيقي، لقد خرجنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر''.. ولا يزال مغزى هذه الجملة مبهما بالنسبة للعائلة، وحتى عند قادة الثورة الذين رافقوه في الكفاح، حيث كان نشيطا لا ينزل عن جواده الأبيض، الذي يظهر في أغلب الصور التي التقطت للرائد سي جمال في الجبل. ولم تكن تلك الجملة اللغز الوحيد في أيام سي جمال الأخيرة، بل زادت من غموض ظروف وفاة سي جمال، الذي لم يمكث مع العائلة سوى أسبوع واحد، ورحل من دون رجعة، إلى أن تم إبلاغ العائلة برسالة حملت خبر وفاة المجاهد البطل، والتي أغضبت والده، الذي طلب من المرحوم هواري بومدين أن يكشف له أسباب موته، غير أنه لم يتحصل على شيء، وعاد إلى مدينة ''سان شار''، رمضان جمال حاليا، والتي حملت اسمه منذ سنة 1964، عندما كانت المنطقة تابعة لولاية قسنطينة، حسب الوثائق التي بحوزة العائلة، التي أظهرت لنا عددا من الرسائل المكتوبة بخط سي جمال الذي يحسن الفرنسية.
العائلة لا تزال تبحث عن لغز موته
كانت حياة سي جمال نموذجا للنضال والتفوّق والتضحية، فبينما اختار البعض البقاء في صفوف الجيش الفرنسي، فضّل صفوف المجاهدين، وكان خياره واضحا، كوضوح قضية التحرير الوطني، لكن يبقى موته شوكة في ذاكرة العائلة المجروحة بفقدان بطلها سي جمال، الطيّار النموذجي والمجاهد الفذ.. إذ لا يزال أفراد العائلة مشغولين بالبحث عن حقيقة وفاته الغامضة، هكذا يقول أفراد عائلته المحتفظة بصوره، حيث بقي اختفاؤه وموته لغزا لم تجد له العائلة حلا، خاصة مع اختلاف الروايات، فكل واحد يتكهن طريقة موته.. وهنا يعود شقيقه إلى تفاصيل الليلة الأخيرة من حياة سي جمال، قائلا: ''كان جمال ينوي العشاء عند المجاهد رشيد اكثوف بالعاصمة، في الليلة التي توفي فيها، غير أنه لم يحضر العشاء، حسب ما أخبر رشيد اكثوف العائلة، والذي علم بوفاته بعد العودة من مهمة في مصر''. ويضيف شقيق المرحوم أن وفاته لا تزال لغزا محيرا، خاصة أن الأقاويل متضاربة، فهناك من يقول إنه مات في الحمام واحتمال اختناقه، لكن الحقيقة لا تزال غير معروفة، رغم مرور 50 سنة على وفاته. يكشف لنا شقيقه أن المرحوم والده طلب من وزير الدفاع، آنذاك، الرئيس الراحل هواري بومدين، الكشف عن حقيقة وفاة سي جمال، لكن السلطة كان ردها أنها منحت له رخصة لنقل المسافرين وقرض من البنك، سدّده إلى آخر دينار، حيث قدّم لنا وصول التسديد.. لتبقى وفاته لغزا آخر من ألغاز الثورة والاستقلال إلى اليوم، في انتظار أن ينصفه التاريخ يوما، ويكشف عن حقيقة وفاته..
والدته تعيش على منحة شهرية لا تتعدى الـ990 دينار
كل ما يحيط بالبطل جمال رمضان يدعو إلى الدهشة والحسرة والألم، حيث لم تتوقف صدمة الدهشة الأولى، منذ انضمامه إلى المدرسة الحربية الفرنسية، إلى هروبه بطائرة الاحتلال، إلى انضمامه إلى صفوف جيش جبهة التحرير الوطني، لتصبح الصدمة كبيرة عندما علمنا أن المنحة التي تتلقاها والدة البطل والمجاهد المرحوم جمال رمضان، الأم ''مسعودة''، لا تتعدى مبلغ الـ990 دينار جزائري، وهي منحة ابنها الرائد سي جمال. وحسب العائلة، فإن رزمة من الرسائل أرسلت إلى السلطات العليا من أجل إعادة النظر في هذه المنحة، التي لا تمكّنها من شراء حتى كيس دقيق. ويواصل شقيق المرحوم، بحسرة كبيرة، أن رد السلطات المحلية على الرسائل كان مخيبا، وجاء فيه أن المرحوم مات عازبا، ما جعل المنحة لا تُسمن ولا تغني من جوع، خاصة في الوقت الحاضر. لكن السيدة مسعودة، لا تهتم بالمنحة بقدر اهتمامها بكشف حقيقة موت فلذة كبدها، الذي لم تشبع من وجهه، حيث التحق بمدرسة الطيران الحربي بفرنسا وهو في عمر الشباب، ومنها إلى الجبل، وبعد أسبوع من زيارتها انطفأت شمعته بطريقة تبقى مجهولة. وهو دائم الحضور على أفواه أفراد العائلة عند مناداتها لشقيقه جمال رمضان الحقيقي، لأن سي جمال هو الاسم الثوري، أما اسمه الحقيقي فهو أحسن رمضان.