ذا سلّمنا أنّ كلمة “شطرنج” فارسية الحسب والنسب وأنّ الفرس هم مبتدعيها، وان اعتبرنا أنّ الحرب الباردة -بنسختها الجديدة- الدائرة منذ عقود بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران شطرنجية بامتياز، مسرح عملياتها خطط وتكتيكات مستحدثة لتطويق الملك -الشاه باللغة الفارسية- والإطاحة به، تسنده في ذالك جحافل من الجنود-البيادق معززة بفيلة وأراخى وجياد عربية أصيلة قادمة من عمق الصحراء.. فانّ الجميع يعاين اليوم بمفردات اللعبة عدم قدرة اللاعب الأمريكي على حسم المعركة نهائيا بتحقيق وضعية “كش مات” والاستمرار في حالة “الكش” فقط إلى ما لانهاية مما يؤشر بما لا يدع للشك إلى ولادة لاعب نووي افتراضي جديد اسمه دولة إيران النووية مع وقف التنفيذ ! …
كيف حدث ذلك ؟
مرة ثانية تبوح لنا لعبة الشطرنج بكامل أسرارها لفهم ما جرى وما يجرى في الصراع الأمريكي-الايرانى . فاللاعب الايرانى صاحب القطع السوداء من الرقعة – وفق التصنيف الأمريكي – مدرك تمام الإدراك للأبعاد الرباعية للعبة الشطرنج التي تفترض أساسا :
- الندية بين المتنافسين : فلكليهما نفس القطع ونفس مساحة المناورة للدفاع عن شاه متوّج …
- روح الانضباط العالية التي تسود القطع القيادية والقاعدية في الدفاع المستميت عن ملكها…
- المكر الشديد في التعامل مع المنافس وما يعنيه من قوة خداع ومرونة وتحديث مستمر في الأساليب والتكتيكات المستخدمة …
- التحلّي بطول النفس باعتبار أن لعبة الشطرنج هي لعبة استنزاف المنافس بامتياز…
في المقابل تبدو علامات الإعياء واضحة على وجه اللاعب الأمريكي.. حالة من الإعياء مردّها أسباب عديدة ومتداخلة أهمها أنه لم يتمكن من استساغة قواعد اللعبة بالقدر الكافي واستمراره في ممارستها بتكابر وغرور شديدين وبذهنية المنتصر حتى قبل خوض المعركة…! فكانت النتيجة عكسية تماما اذ تحوّل الملف النووي الايرانى من ورقة ضغط وإدانة يلوّح بها عند الاقتضاء إلى عقيدة وطنية يؤمن بها كل ايرانى.. إلى عنصر جامع فيما بينهم على اختلاف مرجعياتهم مما سمح للاعب الايرانى أن ينتفض من جديد، أن يوحّد صفوفه وان يشق طريقه بثبات في بحر هائج تعصف به الأنواء من كل جانب .
فقراءة لمجريات المنافسة الشطرنجية الشيقة والأطول في تاريخ هذه اللعبة تفضي بنا إلى تسجيل عددا من الملاحظات منها أنّ اللاعب الأمريكي يعتمد في تحريك قطعه على تكتيكات قديمة عفي عنها الزمن تراوح بين فرض التفاوض المباشر والغير مباشر تحت الحصار الاقتصادي من جهة ونصب الفخاخ الاستخباراتية وزرع الألغام في جميع الاتجاهات من جهة ثانية. ففي الميمنة نجد الكمين العراقي الذي انقلب فيه السحر على الساحر الأمريكي بعد مضى قرابة العقد من غزوها للعراق بينما يشغل الجانب الأيسر من الرقعة حقل من الألغام شديد الحرارة والكثافة من خلاله تتوقع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة حدوث معجزة من نوع بيغ بانغ جديد BIG Bangكفيل بالقضاء نهائيا على الحلف الثلاثي المقدس التي تشكّل سوريا وحزب الله أحد أضلاعه وإيران قاعدته ورأس حربته الحقيقية…
في الجهة المقابلة من الرقعة ..يتحرّك اللاعب الايرانى بشكل مناور مغازل ورادع من خلال وضعه لخطط تمويه غاية في الدهاء، جزءها المعلن يقدّم إيران كحصن كبير مترامي الأطراف، منغلق على نفسه، مرهق، يتنفس بالكاد، مصاب بحمى اقتصادية مرتفعة متعددة الأعراض، يطبق على أنفاسه جحافل من رجال الدين، ترمق شوارعه الفسيحة أعين “الباسيج” التي لا تنام وينبض حياتا من سيل بركات “المرشد الأعلى” ..وجزءها الخفي يستبطن اقتصاد يحقق أعلى مستويات النمو، تزدهر فيه صناعة السيارات وغيرها بشكل لافت، يرقى فيه التصنيع العسكري والباليستى بالخصوص لمستويات مدهشة وقاربت مختبراته الفيزيائية الذرية معانقة لحظة الانشطار.. بلد يعيش على وقع انتخابات محلية ورئاسية دورية منتظمة بنسب مشاركة عالية أو قل الأكثر ارتفاع في العالم، يتحرك ضمن منظومة سياسات أمن قومي جديرة بأن تدرس في أرقى الجامعات ومراكز البحث المتخصصة، يتداول على حكمه محافظين ومعتدلين وأنصاف معتدلين وأنصاف محافظين بهندسة وبمعايير مستحدثة لم تعهدها العلوم السياسية من قبل.. بلد نجح في تنظيم انتخابات بقاعدة انتخابية عريضة دون تعدّد حقيقى ليخرج “روحاني” جديد متجها بفرسه صوب معاقل الخصم في لحظة حسم ليصدع للعالم في أولى تصريحاته بالحقائق الثلاث على طريقة زارادتش التقليدية : أنّ حقبة تعليق تخصيب اليورانيوم انتهت دون رجعة.. وأنّ السياسة الخارجية لإيران ستحافظ على ثوابتها ..وأنّ على الغرب التأقلم مع واقع إيران الجديد كرقم صعب في المعادلة الإقليمية والدولية …
من يكون الرئيس روحاني أو”الوزير” الجديد بمصطلحات اللعبة؟ هو أحد ابرز مهندسي سياسات الأمن القومي الايرانى لمدة ستة عشر سنة كاملة – قرابة نصف عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية- ، كبير المفاوضين الإيرانيين في سنوات الجمر التفاوضى مع الغرب من سنة 2003 إلى 2005 حول الملف النووي، رجل دين برتبة “حجة الإسلام” وحائز على شهادة دكتوراه من جامعة “غلاسكو البريطانية”، الشيخ الذي تمكن من سحق منافسيه بفارق انتخابي غير مسبوق في تاريخ إيران الحديث ..في كلمة واحدة اللاعب الأكثر قوة وحنكة في حسم نتيجة المقابلة والخروج بإيران من حالة اللاعب النووي الافتراضي إلى مرتبة اللاعب النووي الكامل الحقوق.
فمن ابتدع قطعة الشاه -الملك- كقطعة محورية في لعبة الشطرنج.. وأسقط الشاه “البهلوى” المستبدّ ليستبدله بشاه-فقيه جديد “عادل، متقى، بصير بأمور العصر، شجاع قادر على الإدارة والتدبير” على معنى المادة الخامسة من دستور جمهورية إيران الإسلامية، فهو بالتأكيد مدرك بأن ماهية اللعبة تفترض ضرورة وجود شاه وأنّ أيّ تغيير في قواعد اللعبة ونواميسها غير مسموح به ما لم يعترف الغرب بواقع إيران كقوة اقتصادية ونووية صاعدة…
خلاف ذلك، لم يبقى للغرب العديد من الخيارات سوى ابتداع لعبة جديدة بقواعد مغايرة قد تحقق الاختراق…
إلى حين تحقق هذا الحلم “الهوليودي” ستظلّ إيران دولة نووية مع وقف التنفيذ!
مصدر