أمن الخليج وحزام النار
تدعو هذه الورقة دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة رسم طبيعة الأخطار والتحديات الإستراتيجية الطابع التي تواجهها ، وسلمها التراتبي، كما تدعو إلى إعادة بناء هيكل للدفاع والتسلّح لدول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً ما يتعلق بالقدرة الصاروخية التي "تكاد لا تساوي شيئاً"، قياساً بما لديها من قدرات عسكرية في مجالات التسلّح الأخرى.
وتدعو الورقة كذلك إلى إعادة بناء رؤية متكاملة لمعادلة الأمن في الخليج، على نحو يستجيب للكم المتزايد من متغيرات البيئتين الإقليمية والدولية، ويغدو قادراً على إبعاد شبح التفجرات والحروب.
ويرى كاتب الورقة أن على دول مجلس التعاون الخليجي العمل، منذ الآن، على بلورة السياسات الخاصة بالتعامل مع إيران نووية، حتى لا تفاجأ بالتطورات. مبررا ذلك بأنه لو قدر لمواجهة عسكرية أن تندلع بين إيران والولايات المتحدة، أو بينها وبين إسرائيل، فلن يكون الخليج في منأى عن هذه المواجهة، إن بطريقة أو بأخرى. وأقل ما قد يتعرض له الخليج هو التلوث الإشعاعي، الناجم عن قصف المنشآت النووية الإيرانية، سواء جرى ذلك بسلاح تقليدي أو بسلاح نووي تكتيكي.
ويرى الكاتب كذلك أن قرار الرئيس المنتخب باراك أوباما، بفتح حوار مباشر مع إيران، يُعد قراراً إيجابياً وبناءً داعيا دول مجلس التعاون الخليجي إلى أن تعتبر نفسها معنية بهذا الأمر، كما أن من مصلحتها التشجيع على مثل هذا الحوار بل والمساهمة في إنجاحه، أو وصوله إلى الحد الأدنى من التفاهمات ذات الصلة باستقرار المنطقة. ويقول الكاتب إنه لا يجوز أن يتفاوض المجتمع الدولي مع إيران دون الالتفات إلى رؤية الخليجيين وتصوّراتهم.
ويربط كاتب الورقة كذلك بين ما يجري من قصف إسرائيلي لغزة الذي بدأ نهار السابع والعشرين من ديسمبر /كانون الأول 2008، وبين الأمن القومي العربي، بما في ذلك معادلة الأمن في الخليج ويقول إنه على دول مجلس التعاون الخليجي اليوم أن تسخر قدراتها الجيوسياسية المختلفة لوقف العدوان، وضمان عدم تكراره، أو انتقاله إلى أرض عربية أخرى. ومتى فعلت ذلك فإنها تكون قد صانت أمنها قبل كل شي.
أمن الخليج وحزام النار
إن سلسلة طويلة من القضايا الملتهبة، أشبه بحزام النار، باتت تفرض نفسها اليوم على معادلة الأمن في الخليج. تبدأ بالوضع المضطرب في العراق، والملف النووي الإيراني، وصولاً إلى كتلة النار التي أشعلها العدوان الإسرائيلي على غزة. وبموازاة ذلك، تضغط الأوضاع المتأزمة في كل من الصومال وبلوشستان الباكستانية على خاصرة الخليج، مهددة بعضاً من أهم ضرورات استقراره الإقليمي، كأمن الملاحة البحرية. وهذا كله دون الحديث عن مفاعيل النزاع الهندي الباكستاني، والسياق الجديد للتنافس الروسي الغربي في المنطقة، والتجاذبات الإقليمية والعربية فيها.
أولاً: تحديات النووي الإيراني
يمكن القول إن المتغيّر النووي الإيراني قد وضع أمن الخليج أمام بيئة جديدة، ليس بالمعنى الاستراتيجي، بل بلحاظ حجم واتجاه التفاعلات الإقليمية والدولية المرتبطة بهذا الأمن. وإن هذا الأمن لا زال دون مرحلة إعادة التعريف الإستراتيجي بالمعنى النظامي للمصطلح، وذلك منذ حرب الخليج الثانية في العام 1990 – 1991، حين فقد توازنه الإستراتيجي.
وخلافاً لبعض التقديرات، ليس ثمة ما يؤكد أن إيران قد أضحت قاب قوسين من صنع القنبلة النووية. بل الأرجح أن طريقاً طويلاً لا زال يفصلها عن ذلك، إن كان هذا في الأصل هو ما تهدف إليه. بيد أنه ليس ثمة طريقة أكيدة لقياس الفترة اللازمة للوصول إلى إنتاج القنبلة النووية. وعلى الرغم من ذلك، على دول مجلس التعاون الخليجي العمل، منذ الآن، على بلورة السياسات الخاصة بالتعامل مع إيران نووية، حتى لا تفاجأ بالتطورات.
وقد بدا المجتمع الدولي منقسماً بشأن التعامل مع إيران، ولم يكن قرار مجلس الأمن رقم (1835)، الصادر في 27 أيلول سبتمبر 2008، في جوهره سوى تعبير عن هذا الانقسام، حتى وإن بدا خلاف ذلك. ولقد بدا المناخ الراهن للعلاقات الروسية الغربية حائلاً دون الإجماع على موقف متشدد من الملف النووي الإيراني. وإن العقوبات الدولية ضد إيران لا يتوقع لها إحداث تأثير جوهري، ما دامت لم تصل إلى القطاع النفطي الإيراني، الذي يعتمد على نحو كبير على الاستثمارات الخارجية، واستيراد التقانة الأجنبية، بل واستيراد المشتقات النفطية، حيث لا يغطي التكرير الداخلي سوى نحو خمسين في المائة من حاجة السوق الإيرانية.
ويدرك الإيرانيون خطورة الوصول إلى مثل هذا الوضع، لكنهم يراهنون على موقف روسي يحول دون ذلك. وبالطبع، فهذا ليس رهاناً سياسياً مجرداً، بل هو توليفة معقدة من حسابات المصالح الجيوسياسية، الممتدة من القوقاز إلى الخليج العربي، والمعززة في الوقت ذاته بخارطة واسعة من التفاعلات الاقتصادية والتعاون العسكري، والتنسيق في سياسات النفط والغاز. وعليه، يمكن القول إن إيران لن تولي الكثير من الاهتمام لتحركات مجلس الأمن الدولي.
وكان هناك سعيٌ أوروبي مبكرٌ لحل الأزمة سلمياً مع إيران. ويعود ذلك في جانب منه لخشية أوروبا من تداعيات خيار
المواجهة على العلاقة بين ضفتي الأطلسي، فضلاً عن تداعياته على سوق الطاقة النفطية الدولي. وبعد إعلان إيران رفضها وقف التخصيب، سارعت كل من باريس وموسكو إلى حث واشنطن على الإمساك عن التصعيد. بيد أن مساراً جديداً في المقاربة الدولية للعلاقة مع إيران قد بدأ مع قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية إحالة ملف طهران إلى مجلس الأمن الدولي. وعند هذه النقطة تحديداً، بدت أوروبا وقد اقتربت كثيراً من الموقف الأميركي، وإن لم تصل إليه تماماً.
وعلى صعيد احتمالات المواجهة، فإنه على الرغم من كل ما يثار في وسائل الإعلام عن احتمالات صدام عسكري بين الطرفين، فإن هذا الخيار لا يبدو خيار واشنطن الأول أو الثاني، وإن فرضية استبعاده تبقى قائمة، عند قراءة المعطيات السائدة. هذا على الرغم من أن التقارير التي تحدثت عن تخطيط أميركي لضرب إيران، قد ظهرت بصورة متواترة منذ سقوط بغداد في أبريل / نيسان من العام 2003 على أيدي القوات الأميركية.
ويجب التمييز بادئ ذي بدء بين قرار الحرب وبين ما يبدو ظاهرياً وكأنه إعدادٌ لها. إن خوض أي حرب هو قرار إستراتيجي يختزن بالضرورة كماً متنامياً من الأبعاد السياسية والعسكرية والنفسية، التي ليس من السهل قراءتها على النحو الدقيق الذي يضمن سلامة الخيار أو أرجحيته. أما الإعداد لحرب محتملة أو افتراضية فهو مكسب ضمني في كثير من الجوانب، فهذا الإعداد يعني مزيداً من التدريب وكسب المهارات، وقد يعني عقد صفقات سياسية ودبلوماسية. وهو يعني بالضرورة زيادة الضغوط النفسية على الطرف الآخر. وبالطبع، سوف يختلف الأمر كلياً لو كان الحديث يدور عن حرب بين قوتين متكافئتين أو شبه متكافئتين، لأن ذلك سوف يعني الدخول في سباق محموم للتسلح، واستنزافاً لا طائل منه لموارد مادية وبشرية، وقبل ذلك إرهاق البيئة النفسية للمجتمع.
ورغم كل ذلك، لا يجوز أن نستبعد على نحو كلي احتمالات الحرب، لكننا نستبعد الربط الشرطي بينها وبين كثيرٍ مما يجري على الأرض. وإذا قدر لمواجهة عسكرية أن تندلع بين إيران والولايات المتحدة، أو بينها وبين إسرائيل، فلن يكون الخليج في منأى عن هذه المواجهة، إن بطريقة أو بأخرى. وأقل ما قد يتعرض له الخليج هو التلوث الإشعاعي، الناجم عن قصف المنشآت النووية الإيرانية، سواء جرى ذلك بسلاح تقليدي أو بسلاح نووي تكتيكي. وهذا أمر مفهوم على أية حال.
وفي مقابل المقاربات الأميركية، التي لم تستبعد المواجهة، دخل عدد من الباحثين الأميركيين في نقاشات تفصيلية للخيار السياسي، أو التصالحي، مع إيران، بما هو أولوية، اعتقدوا بضرورة السعي نحوها. وكانت هناك جملة تجارب في الحوار الأميركي الإيراني، منذ العام 2001. وذهب بعض الباحثين الأميركيين إلى حد القول إن الحقائق الجغرافية الثابتة "تدعم قيام تحالف"، في يوم ما، بين الولايات المتحدة وإيران. وحسب هؤلاء، فإن إستراتيجية الولايات المتحدة البعيدة بمقدورها دون سواها "ضمان أمن إيران" من القوة الروسية المجاورة.
واليوم، فإنّ قرار الرئيس المنتخب باراك أوباما، بفتح حوار مباشر مع إيران، يُعد قراراً إيجابياً وبناءً. وإن دول مجلس التعاون الخليجي تبدو معنية بهذا الأمر، ومن مصلحتها التشجيع عليه. بل وعليها أن تساهم في إنجاحه، أو وصوله إلى الحد الأدنى من التفاهمات ذات الصلة باستقرار المنطقة.
وفي المقابل، لا يجوز أن يتفاوض المجتمع الدولي مع إيران دون الالتفات إلى رؤية الخليجيين وتصوّراتهم. ومن الحري أن نشير هنا، إلى أن سلّة الحوافز الدولية، التي قدمها لطهران، في 14 يونيو /حزيران 2008، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، خافيير سولانا( )، قد جسدت تطوّراً تاريخياً. وهي منحت إيران، في شقها السياسي، ما لم تتمكن من الحصول عليه حتى في ذروة علاقاتها المزدهرة مع الغرب، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. إن هذه الحوافز سوف تضع إيران -في حال قدر لها أن تبصر النور- في قلب تفاعلات النظام الإقليمي الخليجي، وسوف تؤطر دورها في هذا النظام بإطار مؤسسي، ما برحت تدعو إليه منذ خمسين عاماً. وبالطبع، هذه قضية تتجاوز العلاقات الغربية بإيران، لتلامس على نحو مباشر العلاقات الإيرانية الخليجية، وماهية المقاربة التي ينشدها الخليجيون لأمنهم الإقليمي. ومن هنا، تأتي ضرورة إشراكهم في النقاش الدائر بين إيران والمجتمع الدولي، بل من الصعب بمكانٍ فهم بقائهم بعيدين عن هذا النقاش.