إن المعركة الباديسية أحدثت إصلاحًا شاملا فيما وصل إليه الإسلام بعد تخلصه من التحريف والشوائب التي علقت به نتيجة للتفسيرات المشكوك في صحتها، حيث تراكمت خلال قرون عدة، كما عملت على تعميم الثقافة العربية بإنشاء مدارس تتولى تدريس اللغة العربية ونشرها في الجزائر، ونشرت الوعي القومي؛ مما وقف عقبة في وجه السيطرة الاستعمارية.
الكاتب الفرنسي فرانسيس جانسون – نقله عنه أنور الجندي في «الأدب في معركة التجمّع والمقاومة»
هل يبدو اندلاع ثورةٍ ما حدثًا عابرًا صنعته المصادفة؟، الثورات الحقة لا تتدخل فيها المصادفات إلا في مراحل متأخرة، ولا دور للمصادفة في التمهيد للثورة -أي ثورة-، فضلاً عن أن يكون لها دور في انطلاقتها أو في تحديد مساراتها القادمة. أدرك هذه الحقائق الإمام الجزائري عبد الحميد بن باديس، وأدرك أيضًا أن الطريق نحو الثورة ضد الاحتلال الفرنسي الوحشي طويل، وكان كلما سأله إخوانه وتلاميذه «كيف يمكن خلاص الجزائر من قبضة الاستعمار؟»، يشير إلى جبال الأوراس قائلاً: «هناك سيكون الخلاص».
لم تكن جملته هذه تخلو من الرمزية التي تكافئ واقعيتها الإستراتيجية في الوقت ذاته؛ لكنه كما بدأ مبكرًا في فرش الأرض تحته ببذور الثورة، واصل طريقه الطويل الذي ظل طويلاً حتى لحظات وفاته، للدرجة التي أعلن فيها قبيل رحيله عن الحياة: «والله لو وجدتُ عشرة من عقلاء الجزائر يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتُها».
محطات التأسيس
ولد عبد الحميد -بن محمد المصطفى بن مكي- ابن باديس، بمدينة قسنطينة في الرابع من ديسمبر/كانون الأول عام 1889م (1308هـ)، ونشأ في أسرة مشهورة بالعلم والثراء والجاه، وتلقى تربيته وتعليمه الأوّلي على يد أبيه داخل البيت، ثم التحق بالكُتّاب وأتم حفظ القرآن في الثالثة عشر من عمره، ليؤم المصلين بالجامع الكبير ثلاث سنوات، وتعلم العربية والأخلاق والمعارف الإسلامية على يد الشيخ أحمد لونيسي.
توجه في عام 1908م للدراسة بجامع الزيتونة بتونس، وتخرج فيه بشهادة التطويع في 1912م، ليعود إلى الجزائر في العام التالي ويدرِّس بالجامع الكبير، قبل أن يسافر للحج، ويلتقي بشيوخه حمدان لونيسي والحسين الهندي والبشير الإبراهيمي، ثم يعود لينخرط في تدريس الأطفال والكبار بالجامع الأخضر.
أصدر جريدة «المنتقد» في عام 1925م، فأوقفها له الاستعمار الفرنسي، فأصدر بعدها مجلة «الشهاب»، وأنشأ لها المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة. وفي العام التالي 1926م، تعرض لمحاولة اغتيال من قبل مجهولين ضربًا بالهراوة، ونجا منها بعد إصابته بجروح في رأسه.
في عام 1931م، أنشأ وترأس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تركزت مبادؤها على مقاومة الاستعمار الروحي للطرق البِدعية ابتداءً، ثم مقاومة الاستعمار المادي الفرنسي حسبما تيسر؛ فبدأت دينية تهذيبية ثم دخلت بعد ذلك علنًا في السياسة، وانطلقت في نضالها السياسي محليًا ودوليًا.
بعدها بخمسة أعوام، في 1936م، دعا إلى -وشارك في تأسيس- «المؤتمر الإسلامي الجزائري»، الذي أسفر عن مطالب سياسية وثقافية واجتماعية لم يستجب لها المحتل الفرنسي بطبيعة الحال.
أن تصنع ثورة
إن الشيخ ابن باديس أمة وحده استطاع بمفرده أولاً، وبمساعدة إخوانه من العلماء ثانيًا، أن يقوم بتربية جيل وتكوين أمة، وتبصيرها بشخصيتها ومقوماتها، وهو الذي استطاع أن يضع أصول نهضتنا الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وإن الثورة الجزائرية العظيمة في جوانبها النفسية وقوتها المعنوية التي تتمثل في كلمة «الجهاد» ترتد إلى عمله التربوي الخاص والعام.
الدكتور عمار الطالبي في مدخله لـ«آثار ابن باديس»
كيف صنع ابن باديس الخامات الأولية للثورة الجزائرية التي اندلعت بعده؟، الإجابة يمكن استشفافها من المسارات التي انتظمها ابن باديس بتراتبها التاريخي، وهي التي كان من الطبيعي أن تؤدي في نهايتها إلى النتيجة الطبيعية المقصودة؛ الثورة.
المسار الإصلاحي التأسيسي
انطلق فيه ابن باديس من فلسفة عملية تكامل فيها التصور النظري مع الممارسة العملية، وذلك من خلال تضافر التربية مع التعليم.
كانت طريقته في التربية هي التي أشار إليها بقوله: «إننا والحمد لله نربي تلاميذنا على القرآن من أول يوم، ونوجه نفوسَهم إلى القرآن في كل يوم، وغايتنا التي تستحق: أن يكوِّن منهم القرآن رجالاً كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلِّق الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودها». هذه الطريقها أكّدها رفيقه الشيخ الإبراهيمي في كلامه عن اتفاقهما في المدينة: «كانت الطريقة التي اتفقنا عليها سنة 1913م في تربية النشء هي ألا نتوسع له في العلم وإنما نربيه على فكرة صحيحة».
وتبنّى إصلاح التعليم كأساس للإصلاح الذاتي والمجتمعي، وقرر ذلك بقوله: «لن يصلح المسلمون إلا إذا صلح علماؤهم؛ لأنهم بمثابة القلب للأمة، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم». ورأى أن تعليم الصغار والكبار لا ينفصل عنه تعليم الفتيات والمرأة، وهو ما نافح عنه بمثل قوله: «وإذا أردتم إصلاحها الحقيق، فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخّرها». وكان في ذهن ابن باديس إنشاء شبكة من المدارس والمعاهد للتعليم الحر تتوَّج في النهاية بكلية للتعليم العالي، وإحداث نظام إيفاد البعثات إلى الخارج.
الإصلاح المعرفي الفردي والمجتمعي
اعتقد ابن باديس أن المدارك الإنسانية التي تمتاز بقوة التحليل والترتيب تتغلب على الطبيعة وتسخرها، وأن الظواهر الاجتماعية تخضع لمبدأ الأسباب والمسببات، يقول: «وعلمنا الله ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معانٍ عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل من حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير، والجمع بين المشاهدة والعقل هو المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة».
وقد أصر ابن باديس على ضرورة الجمع بين النهضة الثقافية الاجتماعية وبين النهضة السياسية، وهو يؤكد: «لا بد لنا من الجمع بين السياسة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بحق».
المسار الثوري المتصاعد
تبنى ابن باديس التوجه الثوري، وطبق ذلك ابتداءً من إصداره لمجلة «المنتقِد»، التي صرح في عددها الأول أن أساسها التحريري هو: «ننقد الحكام والمديرين والنواب والقضاة والعلماء والمقاديم وكل من يتولى شأنًا عامًا من أكبر كبير إلى أصغر صغير من الفرنسيين والوطنيين، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين، وننصر الضعيف والمظلوم بنشر شكواه، والتنديد بظالمه كائنًا من كان».
مرورًا بمجلة «الشهاب» التي أعلن فيها: «وليس أمام اليأس إلا اللجوء لسلاح اليائسين، ومن المعلوم أن سلاح اليائس هو الثورة»، وبتذكيره لإخوانه العلماء والأساتذة والطلبة بأن يكونوا مثله: «يضرب الضحية في مقاتلها، من غير أن يسيل لها دمًا، أو يترك أثرًا يلفت الأنظار».
وانتهاءً إلى ما قاله قبيل وفاته: «والله لو وجدت عشرة من عقلاء الجزائر يوافقونني على إعلان الثورة لأعلنتُها»، وكان يرى أن المرجع في مسائل الأمة هو الأمة ذاتها، والواسطة نحو ذلك هي المؤتمرات.
ميراث الحكمة والثورة
لقد كان ابن باديس مناظرًا مفحمًا، ومربيًا بناءً، ومؤمنًا متحمسًا، وصوفيًا والِهًا، ومجتهدًا يرجع إلى أصول الإيمان المذهبية، ويفكر في التوفيق بين هذه الأصول توفيقًا عزب عن الأنظار، إبان العصور الأخيرة للتفكير الإسلامي.
المفكر الجزائري مالك بن نبي
انهمك الإمام عبد الحميد بن باديس في الحركة العملية بشكل شبه تام، ولم يكن يكاد يتفرغ إلا لكتابة المقالات، وإلقاء الدروس، وقد أقر بذلك بنفسه حين قال: «شُغِلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب»، وقد تم جمع مقالاته ودروسه في مؤلَّفَين كبيرين؛ هما:
– «آثار ابن باديس»، د. عمار الطالبي، الشركة الجزائرية، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1997م.
– «آثار الإمام عبد الحميد بن باديس»، وزارة الثقافة الجزائرية، 2007م.
وتضمن المؤلفان مجموعة متضافرة ومتراتبة من التصانيف، من بينها: «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» المعروفة بـ«تفسير ابن باديس»، و«مجالس التذكير من حديث البشير النذير».
كما تضمنا مقالات تحت أقسام: العقائد الإسلامية، رجال السلف ونساؤه، تراجم أعلام، القصص الديني أو أحسن القصص، الإصلاح والسياسة والاجتماعيات والتاريخ، التربية والتعليم.
أيضًا، نصوص الخطب والرحلات، والبرقيات والاحتجاجات، والفواتح والخواتم، ورسالة في الأصول، وجواب سؤال عن سوء مقال، في الرد على أحمد بن عليوة الصوفي، إضافة إلى مقالات متنوعة سبق نشرها بمجلات: «المنتقد»، و«الشهاب» و«الشريعة» و«السنة المحمدية»، و«الصراط»، و«المعرفة».
تلويحات الرحيل
في العام 1940م (1359هـ)،توفي الإمام عبد الحميد بن باديس في مسقط رأسه «قسنطينة»، متأثرًا بمرض سرطان الأمعاء، وشيّعه أكثر من خمسين ألف جزائري.
قال عنه الإمام محمد البشير الإبراهيمي الجزائري: «لقد عاش الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ ومات وهو يهتف «فإذا هلكتُ فصَيحتي تحيا الجزائر والعرب»، لم يحد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق من حياته، ولم يبال بصحته الضعيفة التي تدهورت كثيرًا في السنتين الأخيرة من حياته، قبل وفاته حتى أصيب بسرطان في الأمعاء لم يتفرغ لعلاجه فقضى عليه في النهاية».
وقال عنه الباحث إلياس جوادي: «لقد عاش الشيخ عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ ومات وهو يهتف «فإذا هلكتُ فصَيحتي: تحيا الجزائر والعرب». لم يحِد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق من حياته، ولم يبال بصحته الضعيفة التي تدهورت كثيرًا في السنتين الأخيرتين من حياته».
وقال عنه د. محمد رجب البيومي: «إذا كان المُصلِح العظيم قد انتقل إلى جوار ربه في سنة 1940م، فإنه قد خلف من بعده أساتذة يحملون الراية ويوالون الجهاد، كما ترك من تلاميذه الشبان مَن صاروا قادة الثورة الجزائرية التي حققت الاستقلال الحاسم، بعد أن أدّت ضريبة الدم والعرق في وطن المليون شهيد».
مصدر