رثارة تزوره دائما فى حجرته. وتبدأ فى حديث لا يتوقف عن وحدتها العسكرية بسلاح المدفعية، وكل ما دار فيها من لقاءات تحضرها بسبب عملها فى مكتب قائد الوحدة. وبعد عام كامل من تدفق المعلومات بدأ النهر ينضب شيئا فشيئا، العقيد «بيكنيشتاين» سيحال للتقاعد قريبا، و«ياعيل» الثرثارة على وشك إنهاء خدمتها العسكرية. وصدر القرار من القاهرة، يُلزم يعقوبيان بإنهاء مهمته فى الجيش، والاستعداد لمهام أخرى داخل المجتمع الإسرائيلى.
التحق «يعقوبيان» بوظيفة مصور فى أستديو «مونى».. أكبر أستديوهات حيفا. وواصل هوايته فى التصوير وكان يتباهى بأن كاميراته تلتقط الصور من مسافات بعيدة. وتطورت وسائل الاتصال بينه وبين المخابرات المصرية فى هذه الفترة، كان يغلق على نفسه باب حجرته، ويدير إبرة الراديو على محطة «صوت العرب «ليلتقط التعليمات التى ترسلها قيادته عبر البث الإذاعى، ونصوص متفق عليها فى نشرات الأخبار.
لكن لا تأتى الرياح دائما بما تشتهى السفن. ففى الـ 19 ديسمبر عام 1963، طرق رجال الشرطة والشاباك باب منزل «كاوتشوك» فى عسقلان، فتح الباب بنفسه.. دفعوه فى صدره بقوة.. اندفعوا داخل الحجرة.. اعتقلوه.. صادروا حقائبه ودولابه الصغير، وكراسة صغيرة مشفرة، وجهاز استقبال مخبأ داخل راديو ترانزستور.
أصيب «يعقوبيان» بدهشة كبيرة، الرجل لم يخطئ خطأ واحدا، لكنه حظه العثر. «إسرائيل» فى ذلك الوقت كانت أسيرة الهواجس الأمنية، يحكمها رجال المخابرات.. ضباط الشاباك والموساد برئاسة «إيسار هارئيل» يتجسسون على المواطنين، يرصدون حتى المزاج السياسى لسكان «الكيبوتسات». وفى ظل هذه الظروف، صدر قرار بمراقبة البريد الصادر من «إسرائيل». ولم تكن المهمة صعبة.. سكان «إسرائيل» لم يتجاوز عددهم فى ذلك الوقت ثلاثة ملايين نسمة، وكانت الرسائل المبعوثة للخارج يتم جمعها فى مكتب البريد المركزى، يفضها عمال البريد. ويؤشرون على ما يثير ارتيابهم للشاباك.
وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك فرصة للنجاة، لقد أرسل كاوتشوك أكثر من رسالة إلى الخارج خلال الفترة من أبريل 1962 إلى نوفمبر 1963، وأول رسالة اعترضها الشاباك كانت تشمل تقريراً عن أحد المعسكرات فى منطقة الجنوب، وصوراً للمعسكر من الداخل، وتمكن الشاباك من فك رموزها، وبدأت عملية التتبع، ومن رسالة إلى أخرى اتضح أن العميل المصرى يسكن فى المنطقة الجنوبية، وشيئاً فشيئاً أدرك الشاباك أن العميل يسكن فى عسقلان، التى تمت مراقبتها جيداً وجمع معلومات عن سكان المدينة، إلا أن رجال الأمن لم يتوصلوا لأى معلومات، وفى أحد الأيام، وبالصدفة اصطدم شرطى من أصل مصرى بمهاجر جديد يدعى «إسحق كاوتشوك»، ولم يرتاح له، فأبلغ قائد الشرطة المحلية، الذى أبلغ الشاباك، والتقت المعلومات، وتم إلقاء القبض على كاوتشوك.
واتضح فى التحقيقات أنه كان يتلقى التعليمات عبر جهاز موجود فى غرفته، وأنه زار إيطاليا مرتين التقى خلالهما مسؤولى البعثة الاستخبارية المصرية فى أوروبا.
وتمت محاكمة كاوتشوك فى المحكمة المركزية بالقدس. وأشار النائب العام الإسرائيلى «جدعون حاسيد»، خلال المحاكمة، إلى الأسلوب المتطور الذى اتبعه المصريون فى تشغيل وزرع «يعقوبيان»، وأضاف أن الأضرار التى ألحقها «يعقوبيان» بإسرائيل تنطوى على خطورة بالغة جداً، ولذلك طالب بتوقيع أقصى عقوبة ممكنة.
وبالفعل قبل القضاة المرافعة، وحكموا عليه بالسجن ثمانية عشر عاماً، وفى عام 1965 قدّم يعقوبيان طلباً لاستئناف قضيته، لكن طلبه قوبل بالرفض بضغط من رئيسى الموساد والشاباك، وتم رد الاستئناف من قبل رئيس المحكمة القاضى «يتسحاق أولشين» الذى قال: «لقد تم زرع كاوتشوك من قبل دولة عدوة بعد تخطيط مسبق، وتم تدريبه على تنفيذ أعمال التجسس داخل (إسرائيل) وعمل فى (إسرائيل) لمدة عامين مدعياً أنه يهودى، وتسلل إلى البلاد عبر الخداع والخدمة فى المؤسسات العسكرية، وقدم معلومات عبر الرسائل السرية التى أرسلها للمخابرات المصرية، واعترف لاحقاً بجرائمه». لذلك رفضت المحكمة طلب الاستئناف الذى قدمه.
لكن يعقوبيان لم يبقَ فى السجن طويلاً، ففى التاسع والعشرين من مارس 1966 وخلال ساعات الصباح الباكر تم إخراجه من سجن الرملة المركزى ونقل إلى حاجز إيريز عند حدود قطاع غزة، وتم تسليمه للسلطات المصرية فى الساعة التاسعة صباحاً تحت إشراف رجال الأمم المتحدة، وبصحبته «حسين حسن»، و«مسعد خميس، فدائيان فلسطينيان اعتقلا، وهما فى طريقهما لتنفيذ مهمة، وفى المقابل تسلمت «إسرائيل» ثلاثة من اليهود اجتازوا الحدود المصرية عن طريق الخطأ والثلاثة هم تجار الخضروات: «عوديد مئير»، و«دافيد حانوكا» وابنه «شموئيل» اجتازوا الحدود عام 1965 لشراء البطيخ من غزة، واعتقلتهم دورية تابعة للأمم المتحدة، وسلمتهم للجنود المصريين، واستغلت مصر الفرصة وطالبت إسرائيل بالإفراج عن «كاوتشوك» والفدائيين الفلسطينيين، ورفضت «إسرائيل» فى البداية الصفقة، بحجة أن المصريين يطالبون بالإفراج عن جاسوس وفدائيين كانا ينويان القيام بأعمال تخريبية ضد أهداف «إسرائيلية»، مقابل ثلاثة مدنيين اجتازوا الحدود بطريق الخطأ، لكن فى نهاية الأمر نجح العناد المصرى واستجابت «إسرائيل».
لقد ظلت عملية «كابورك يعقوبيان» بمثابة الصفعة التى تلقاها «الجيش الإسرائيلى» على وجهه، وتركت أثراً لا يمحى، حتى بعد توقيع «اتفاقية السلام»، تدفق الصحفيون «الإسرائيليون» على مصر، وفتشوا القاهرة شارعا شارعا، بحثا عن «يعقوبيان» لإجراء مقابلات صحفية أو تليفزيونية، وباءت جميع محاولاتهم بالفشل، فقد كان «يعقوبيان» يعيش فى هدوء وأمان بعيدا عن متناول الصحفيين الإسرائيليين، وأجهزة الأمن الإسرائيلية التى ظلت سنوات تضعه على قائمة أعداء إسرائيل، المرشحين للتصفية الجسدية فى أسرع وقت ممكن.
المصدر