عسكريون .. مبدعون
غير أن هناك سجلات تحفظ لضباط الجيش المصري نوعًا آخر من الإبداع ألا وهو الإبداع في الآداب والفنون .. هذه السجلات الإبداعية تضم قائمة طويلة من الضباط المبدعين .. وتلك بعض النماذج لضباط برعوا في الشعر والقصة والرواية والإخراج السينمائي والتمثيل والتأليف الغنائي .
التسلسل الزمني أو بالأحرى الأقدمية باللغة العسكرية تقتضي البدء برب السيف والقلم محمود سامي البارودي ..
فإلى جانبٍ من رحلته العسكرية والإبداعية التي أهلته لهذا اللقب ." رب السيف والقلم "
ولد محمود سامي البارودي في حي باب الخلق في السادس من أكتوبر عام 1839م وكأن الأقدار اختارت يومًا لميلاده لا يُنسى في تاريخ مصر .. ذلك اليوم الذي أصبح شاهدًا على عظمة جيش مصر وبطولاته وتضحياته بخوضه معركة العبور والكرامة في نفس اليوم من عام 1973 .. التحق البارودي وهو في الثانية عشرة من عمره بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية " المفروزة " وتخرج منها عام 1855م وعمل في ديوان الخديوي إسماعيل ثم فضل العودة إلى صفوف الجيش وألحق بالآي الحرس الخديوي قائدًا لكتيبتين من الفرسان واشترك في الحملة العسكرية لمساندة الجيش العثماني لإخماد الفتنة في جزيرة كريت .
وكان البارودي أحد أبطال ثورة عام 1881 م الشعبية ضد الخديوي توفيق مع أحمد عرابي وأسندت إليه الوزارة في 4 فبراير 1882 م حتى 26 مايو 1882م ونفى في 3 ديسمبر 1882 م إلى جزيرة "سرنديب " سيرلانكا مع قيادات الثورة العرابية بعد سلسلة من أعمال الكفاح والنضال ضد فساد الحاكم وضد الاحتلال الإنجليزي لمصر .. وعاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر 1899 وتوفي في 12 ديسمبر 1904 .
الشاعر المجدد
بالتوازي مع هذه الرحلة النضالية للضابط محمود سامي البارودي التي انحاز خلالها لمصلحة مصر واستقلالها .. جاءت رحلة الشاعر محمود سامي البارودي الإبداعية والتي أهلته للقب رائد مدرسة البعث والإحياء في الشعر العربي .. بدأ البارودي تجديد الشعر العربي سواء من حيث اللغة والمفردات أو من حيث مجالات الشعر وعلى درب التجديد سار أمير الشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم شاعر النيل .. ترك البارودي ثروة شعرية تمزج بين الأصالة والمعاصرة .. وسنكتفي بنماذج من شعره :
جلبت أشطـــــر هذا الدهر تجربة ♦ وذقت ما فيه من صاب ومن عسل
فما وجدت على الأيـــام باقية ♦ أشـــــهى إلى النفس من حرية العمــــل
لكــــننا غرض للشر في زمــــنٍ ♦ أهل الــــــعقول به في طاعة الخمل
قامت به من رجال السوء طائفة ♦ أدهى على النفس من بؤس على ثكل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ♦ قواعد الملك حتى ظل في خـــــلل
والقارئ المدقق للأبيات السالفة لا يجد صعوبة في التعرف على رؤى البارودي ومواقفه ضد رجال السوء الذين غلبوا مصالحهم على مصلحة مصر الدولة والشعب ، وهو المدافع أيَضًا عن الديمقراطية وعدم الانفراد بالرأي إذ يقول البارودي :
سن المشورة وهي أكرم خطـة .. يجري عليها كل راعٍ مرشد
هي عصمة الدين التي أوحى بها .. رب العباد إلى النبي محمد
فمن استعان بها تأبد ملكه .. ومن استهـــــــــــــان بها لم يرشد
وهو المتيم بحب مصر المتلهف للعودة إليها بعد سنوات النفي الطويلة في سيرلانكا إذ يقول :
أبابل رأي العين أم هذه مصر .. فأنى أرى فيها عيونًا هي السحر
وهو الفيلسوف الحكيم والناصح الأمين إذ يقول البارودي :
لا تعاشر في الوجود ما عشت أحمق واعلم .. أنه في الوجود حي كميت
ليس بين الجنون والحمق إلا .. مثل ما بين أدهـــــــــــــم وكُــــــــــــميت
وهو القائل أيضًا :
أنا في الحب وفي ... ليــس بالغد علم
لا تظنوا بي سوءًا .. إن بعض الظـن اثم
وهو الملخص لتجربة الحياة في قوله :
وكيف يلذ المرء بالعيش بعدما ... رأى أن سم المــــــــوت في ذلك الشهد
إذا لم يكن بين الحياة وضدها .. سوى مهلة فاللحد أشبـــــــــه بالمـــــــهد
وللموت أسباب ينال بها الفتى .. فمن بات في نكد كـــــــــمن بات في وهد
فدع ما مضى واصبر على حكم القضا .. فليس ينال المرء ما فات بالجهد
ولا تلتمس غير مولاك هاديًا .. إذا الله لم يهد العبــــــــــــــــــاد فمن يهدي
فارس الرومانسية يوسف السباعيعاش يوسف السباعي ومات ولم تغادر الطفولة ملامح وجهه ولد في 17 يونيو 1917م وشاء القدر أن يموت شهيدا في قبرص في 18 فبراير1978م ، تخرج من الكلية الحربية عام 1937م واختير للتدريس في الكلية وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م اختير مديرا للمتحف الحربي وتدرج في السلك العسكري حتى وصل إلى رتبة العميد ، شغل منصب وزير الثقافة عام
1973م ورأس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الصحفية كما شغل منصب نقيب الصحفيين ...
ترك السباعي ميراثا ضخما من الأعمال الإبداعية في مجال القصة ( 22 مجموعه قصصية ) فضلا عن عشرات الروايات وحولت العديد من أعماله إلى أعمال سينمائية لعل أشهرها " رد قلبي " التي سجلت قيام ثورة يوليو والبيئة السائدة في مصر قبل اندلاعها ولقب بفارس الرومانسية استنادا إلى أعماله التي تفيض بالأحاسيس والمشاعر مثل " أنى راحلة " و" بين الإطلال " و" نادية " كما برزت رؤيته الاجتماعية في العديد من الأعمال مثل " بين أبو الريش " و" جنينه ياميش" و" السقا مات" و" ارض النفاق " كما تطرق لبطولات الجيش المصري في " العمر لحظة " ونال السباعي جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1973م .
الضابط.. السياسي.. الناقد.. الفناننعم كل الأوصاف السالفة تنطبق تماما علي الدكتور ثروت عكاشة .. و هو أيضا الباحث المحقق المسافر إلي عوالم الفن شرقا وغربا.. ولد في عام 1921 وتخرج من الكلية الحربية في عام 1939 م و درس بكلية أركان الحرب بين الأعوام 1945 إلي 1948 وحصل علي دبلومه الصحافة عام 1951م وعلي الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون عام 1960 ورأس
تحرير مجلة التحرير بين عامي 1952- 1953 وعمل كملحق عسكري بسفارات مصر في بون و باريس و مدريد من عام 1953 إلي عام 1956 ثم عمل كسفير لمصر في روما 1957- 1958 و أخير كوزير للثقافة والإرشاد القومي من عام 1958 حتى 1962 و رأس المجلس الاعلي للفنون والأدب والعلوم الاجتماعية و عين نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة عام 1966 حتى 1967 ثم وزيرا للثقافة من عام 1967 حتى 1970.
ألزم نفسه بالبحث الجاد الذي أنتج العديد من المراجع التي أثرت المكتبة العربية مثل " الفن والحياة" و " القيم الجمالية في العمارة الإسلامية" و" فنون لمصر النهضة"و" الفن المصري.. الأسطورة والعمارة " و" الفن المصري..النحت والتصوير"و" الفن العراقي القديم"و" الفن الفارسي القديم" و" الفن الإغريقي"و" الإغريق بين الأسطورة والإبداع"و"الفن البيزنطي"و" فنون العصور الوسطي" إلي جانب "المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية" وكتابة" مذكراتي في السياسة والثقافة"من ثلاثة أجزاء .
ويسجل العمل الثقافي للدكتور ثروت عكاشة انه صاحب الريادة فهو من ساهم في إنشاء معاهد الباليه والكونسرفتوار والنقد الفني وصاحب الفضل في إنشاء فرقة الموسيقي العربية والفرقة القومية للفنون الشعبية والسيرك القومي وصاحب فكرة عروض الصوت والضوء في الأهرام والقلعة ومعبد الكرنك وهو من بادر بإنشاء متحف المثال الكبير محمود مختار صاحب تمثال " نهضة مصر" و متحف" مراكب الشمس" وهو من ساهم في إنقاذ آثار النوبة ومعبد ابوسمبل ومعبد فيلة.
نال الدكتور ثروت عكاشة امد الله في عمره العديد من الجوائز أبرازها جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1987م وجائزة زايد للكتاب في الفنون 1997م.
فارس السينما المصريةهذا اللقب أصبح أسم مهم علي الفنان أحمد مظهر الذي ولد في أكتوبر 1917 ورحل عن عالمنا في 8 مايو 2002 بعد ان ترك بصمة رائعة في ذاكرة السينما المصرية والعربية.
تخرج من الكلية الحربية عام 1938م مع الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات ، فور تخرجه الحق بسلاح المشاه ثم سلاح الفرسان والتي تولي قيادتها لاحقا وشارك في حرب 1948.
بدأ التمثيل عام 1951 في فيلم " ظهور الإسلام " للمخرج إبراهيم عز الدين واستقال من القوات المسلحة عام 1956 و هو برتبة "عقيد" وعمل سكرتيرا عاما للمجلس الاعلي للفنون والأدب حتى عام 1958 حيث تفرغ للتمثيل كلية .
قدم أحمد مظهر عشرات الأفلام التي لا تنسي لعل أشهرها "رد قلبي" و"الأيدي الناعمة" و"دعاء الكروان" و"جميلة بو حريد" و" القاهرة 30" و"لوعة الحب" و" النظارة السوداء" و"النمر الأسود" أما لقب فارس السينما المصرية فقد ناله بجدارة و امتياز من خلال تقمصه لشخصية صلاح الدين الأيوبي في فيلم "الناصر صلاح الدين" احد أعظم علامات السينما المصرية وكذا دوره في فيلم " الشيماء أخت الرسول".
نال احمد مظهر وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 1966 من رفيق السلاح جمال عبد الناصر كما كرمه الرئيس أنور السادات في عيد الفن.
المخرج الرائعو من بين ضباط الجيش المصري أيضا خرج المخرج الرائع عز الدين ذو الفقار الذي و لد في 28 أكتوبر 1909 و توفي في 23 يوليو 1963م وتخرج من الكلية الحربية واستمر حتى رتبة النقيب حيث استقال واتجه للفن السينمائي كمساعد للمخرج محمد عبد الجواد و سرعان ما أخرج أول أفلامه " أسير الظلام" عام 1947 وبعدها قدم سلسلة من الأفلام لعل أهمها " رد قلبي " و"موعد مع الحياة " و" طريق الأمل"و" امرأة في الطريق" و"بين الأطلال" و" نهر الحب" ثم كان أخر أفلامه " الشموع السوداء" .
الضابط الممثل السفير
على درب احمد مظهر وبعده بسنوات كثيرة سار الفنان محمود قابيل الذي ولد فى 19 مايو 1946 وتخرج من الكلية الحربية عام 1964م وبعد سنوات من الخدمة العسكرية كضابط في القوات المسلحة اتجه للتمثيل في عدد من أفلام سافر بعدها للولايات المتحدة ليعمل في مجال السياحة والتجارة حتى لبى نداء الفن ثانية وعاد إلى مصر في التسعينات .
شارك محمود قابيل في العديد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية من أشهرها " كفاني يا قلب " و " العصفور " و " أبو البنات " و" دانتيلا " و " الفاجومى " و " هوانم جادرن سيتي " واختير قابيل سفيرا للنوايا الحسنة من قبل الأمم المتحدة .
صاحب الروائع الغنائية
وصفه الشاعر الكبير فؤاد حداد بأنه شاعر غنائي رائع ومتمكن من القافية ومجدد فى صورة الغنائية .. ولم يكن يدرى إن كل هذه الأوصاف هي لضابط في القوات المسلحة يكتب الأغنية عندما تتاح له الفرصة انه الشاعر الغنائي الكبير" صلاح فايز" الذي تدرج في السلك العسكري حتى رتبة اللواء .. أثناء خدمته العسكرية التقى مصادفة بالموسيقار محمد فوزي الذي أعجب بكلماته وغنى له " بعد بيتنا بيت كمان" يا ولاد بلادنا يوم الخميس "
قدم صلاح فايز مئات الأغنيات لنجوم ونجمات الطرب ومنها " كده برضو ياقمر " لهاني شاكر " و" ابو على " لسمير صبري و" الركن البعيد الهادي " و" ببساطة كده" و"وأخر جواب" للفنانة أنغام غير ان درة أغانيه هى تلك التي غنتها سعاد محمد " وحشتني" ومازال صلاح فايز يثرى الأذن العربية بكلماته الرائعة .
http://www.sis.gov.eg/Ar/Templates/Articles/tmpArticles.aspx?ArtID=48350