مناظير الرؤية الليلية عيون خفية تحوّل الليل الى نهارإعداد: العقيد انطوان نجيم
ولّى زمن اعتماد القوى المتخاصمة على ساعات الظلام لتغطي أنشطتها، أو لتغتنم الفرصة من أجل قسط من الراحة. أما اليوم فينبغي على قادة الجيوش أن يفترضوا أن عدوهم قادر على مراقبة وحداتهم التي تقع ضمن مدى معدات الرؤية
الليلية، وأن نجاحهم في المعركة يتطلب مثل هذه الأجهزة المساعدة لجميع المقاتلين. وتتطور باستمرار تكنولوجيا المعدات المساعدة على الرؤية في الليل، وما كان مقبولاً الأمس لم يعد كافياً اليوم.
في الاربعينيات من القرن المنصرم أصبحت الرماية في الظلام قابلة للتطبيق مع بروز نظام «Sniperscope»، وهو منظار تسديد كهروبصري للسلاح يتضمّن مصباحاً موجّهاً يبث الأشعة ما دون الحمراء، ومستشعراً كاشفاً لهذه الأشعة، ما يجعل الأهداف الموجودة ضمن مدى الإنارة مرئية لمن يستخدم السلاح. ولكن كان العدو المزوّد كاشفاً مستشعراً بالأشعة ما دون الحمراء ويعمل ضمن موجة إضاءة صحيحة، قادراً على رؤية أي شيء، حتى مستخدم المصباح، ضمن المنطقة المسلّط عليها الضوء. لذا، وضعت الأسس لتطوير الأجهزة السلبية أي غير المتطلبة إنارة، وإنما المستعينة بكمية طفيفة من الإضاءة المتوافرة كضوء القمر أو النجوم أو مصادر النور الاصطناعية.
بشكل عام، هناك نظامان للرؤية الليلية: نظام مكثف الصورة ونظام مستشعرات الأشعة ما دون الحمراء أو التصوير الحراري. الأول يعمل بتضخيم الضوء المتوافر ليلاً كالقمر والنجوم، والذي ينعكس على المشهد الذي ينظر اليه ويحوّله الى صور مضاءة باللون الأخضر. وبالمقابل، يقوم النظام الآخر بكشف الحرارة الطبيعية المنبثقة عن الأجسام المختلفة في المنظر المرئي وتحويل بصمتها الى صور آنية تتناسب والأشكال الحرارية للأجسام.
تكثيف الصور (Image Intensifier)أساس تصميم أجهزة التكثيف هو تقوية عدسات الرؤيـة الشيئية وتركيز الضوء الذي تستقبله مجموعـات المستشعـرات الحساسـة.
يتم تحويل الفوتونات التي تجمع عبر العدسة الى الكترونات لدى ارتطامها بكاشف ذي شبكة نسقية حساسة للضوء. ثم يجري تسريع الالكترونات باستخدام «فلطية عالية» عبر أنبوب مفرّغ لتسقط على شاشة فوسفورية يولد بريقها نطاق الضوء المرئي بالطريقة نفسها التي يظهر من خلالها البريق في أنبوب الأشعة الكاتودية المألوف استخدامه في أجهزة التلفاز. وقد تتكرّر هذه العمليـة
أكثر من مرّة بغية الحصول على صـورة معقولة الى حد ما، واطلق على هذه المراحل
المتتاليـة الأنابيب المتعاقبة، وعرفت بأنها الجيل الأول لأجهـزة الرؤيـة الليلية.
أما نظم تكثيف الضوء من الجيل الثاني، فكانت تتطلب مرحلة تقوية واحدة تستخدم فيها ألواح داخل أنابيب عالية الفعالية تعتمد على تأثيرات البث الضوئي الثانوي، التي تولد طلاء خاصاً شبه موصل للألواح داخل الأنبوب للتوصل الى تضخيم ضوئي أكبر النسبة الى طول النظام الجمالي... ولاحقاً استخدم المبدأ نفسه في نظم الجيل الثالث لكن مع استغلال التطويرات الحاصلة في حينه والمرتبطة بمادة زرنيخيد الغاليوم شبه الموصلة التي رفعت قدرة البث الالكتروني الثانوي الى مستويات عالية جداً.
وأمّنت هذه الأجهزة رؤية شبه كاملة للأفراد السائقين وأفراد الدورية الليلية وجنود المراقبة والحراسة بحيث يستطيعون أداء مهامهم ليل نهار. بيد أنه من الممكن ألا تكون مفيدة في الليالي الشديدة الظلمة، كما أنها متدنيّة المدى ولكن صعوبة التشويش عليها ترفع من الاعتماد عليها كوسيلة أكيدة عند إعاقة أجهزة المسح والرؤية الحرارية والليزرية.
ومن عيوب أجهزة تكثيف الضوء أن الجهاز يعمل على تقوية شدة الضوء، ولذا فإن الجندي الذي يستخدم الجهاز يُصاب بالعمى المؤقت إذا اشتدت قوة الضوء الذي يراه من خلال المنظار، ومن هنا كانت التعليمات التي تحظر استخدام مصباح كهربائي يدوي في قراءة الخرائط أو إشعال سيكارة بالقرب من طيار يضع نظارة الرؤية الليلية، وهذا هو السبب أيضاً في إضاءة قمرات قيادة الطائرات بأنوار زرقاء ضاربة الى الإخضرار.
التصوير الحراري (Thermal Imaging System)على الرغم من أن أجهزة تكثيف الصورة تحتاج الى قدر ولو قليل من الضوء المرئي لتعمل به، فإنها تستعين كذلك بالإشعاعات الحرارية القريبة من نطاق الأشعة ما دون الحمراء التي يمكن كشفها بواسطة بعض المواد الحساسة للضوء. وقد استغل هذا العامل إيجاباً في تطوير مناظير التصوير الحراري التي لا تحتاج الى أي إضاءة من أي نوع لأنها تعتمد فقط على الإشعاع الحراري المنطلق من الأجسام في عملها.
إن الأجسام التي تفوق حرارتها «الصفر المطلق» (-273 درجة مئوية) تُصدر إشعاعاً حرارياً في نطاق الأشعة ما دون الحمراء، ومع ارتفاع الحرارة يزداد ناتج الاشعاع الحراري الذي لا يمكن الإفادة بفعالية منه لأنه يضعف نتيجة التأثيرات الجوية في بعض أقسام طيف الأشعة ما دون الحمراء. والنطاقات التردديّة التي يمكن استخدامها هي بشكل رئيس من 3 الى 5 ميكرون ومن 8 الى 13 ميكرون.
ينشر التصوير الحراري النمط الحراري للأشياء. فهو، بتعبير بسيط، يشتمل على عدسة مغلّفة بمادة كالجرمانيوم تقوم ببث الأشعة ما دون الحمراء البعيدة، كما يشتمل على نظام كاشف ونظام تبريد للكاشف ودارة الكترونية تمكّن من
عرض الصور على شاشة. ولم يعد الحجاب المكوّن من شبكة أو من حشائش فعالاً، إذ أن الحرارة المنبعثة من محرك أو من وجه إنسان تظهر خلاله. كما أن التصوير الحراري يظهر أيضاً عندما تتعرّض الأرض للتسخين أو التصدّع بعجلات أو سلاسل المركبات، وأما من مسافة أقصر فيمكن أيضاً اكتشاف التسخين الذي يحدثه وضع يد على أحد الأشياء.
يتألف جهاز الأشعة ما دون الحمراء المستخدم في الأغراض العسكرية من مجموعة صفيفات من كاشفات الأشعة ما دون الحمراء. وقد تمّ ضمّ هذه الكاشفات مع العدسات التي التقطت صورة مصدر الأشعة، ويجري مسح عناصر الصورة بواسطة مرآة دوّارة تبث إشارة مرئية يمكن تحويلها الى صورة على شاشة تلفاز. ومن شأن هذه الاشعة تقليل كلفة الجهاز، كما أن الجهاز يتيح للجندي أو الطيّار الالتفات الى أمور أخرى خلال وجود الصورة على الشاشة. كما أن الأشعة ما دون الحمراء تستخدم في رادار الرؤية الأمامية (Flir) للكشف عن الأشياء الموجودة على امتداد مسافة محدودة.
ومن الممكن أن يعمل جهاز الأشعة ما دون الحمراء آلياً إذا تمّ توصيله بجهاز كومبيوتر, وبذلك يتمكن الجهاز من تنبيه الحارس بإطلاق صفارة إنذار عند وجود أي دخيل داخل نطاق رؤية الأجهزة، كما أنه من الممكن برمجة الكومبيوتر الموصول بجهاز الأشعة ما دون الحمراء في الطائرة لاكتشاف أجسام ذات أحجام ودرجة حرارة معينة وعرضها على شاشة الكومبيوتر للتحقق من أن الأجسام هي الأهداف المطلوبة أم غيرها.
بيد أن هذه الأجهزة لا تخلو من مشاكل وعيوب كثيرة أهمها احتمال التعرّض للتشويش أو إعاقة معادية، أو حدوث تداخل مع مصدر حراري غير ظاهر. ومن عيوبها كذلك عدم قدرة الجندي على حملها أو ارتدائها كنظارات الرؤية الليلية مثلاً، بل تقتصر فائدتها على القيام بدور الحارس وهي في مكان ثابت لا تتحرك، أو حملها على متن الدبابة أو الطائرة، وفي هذه الحالة لا بد من تزويدها جهازاً يعمل على ضمان ثباتها واعتدالها.
ومع ذلك مميزاتها عديدة وأهمها الاستخدام في الضباب الكثيف أو الظلمة الحالكة أو ستائر الدخان، ومداها طويل.
ففي الثمانينيات من القرن المنصرم، بدأت أدوات الرؤية الحرارية الأولى تُتاح للأسلحة التي يخدمها طاقم مثل صاروخ «ميلان» (Milan) وصاروخ «تاو» (Tow). ولم يبدأ إنتاج أجهزة التصوير الحراري غير المبرّدة الأولى إلاّ في أواخر التسعينيات ليستعملها جنود المشاة. ولا تزال كلفة تكنولوجيا التصوير الحراري أغلى بكثير من نظم تكثيف الصورة. أما منتوجات هذه التكنولوجيا الرئيسة المتوافرة حالياً فهي أجهزة تصويب الأسلحة وأجهزة المناظير اليدوية. والعنصر الأساسي في قدرة هذه المنتوجات يكمن في طاقة بطارياتها التي تقرر فائدتها في ميدان المعركة وتعزز الحاجة الى توفير إعادة شحن البطاريات بصورة فعالة.