القصة الكاملة لمذكرات «مبارك» فى حرب أكتوبر «السادات» أوصى بها.. ونائبه أملاها فى 1978
السادات كان مولعاً بالتوثيق لذلك طلب من «مبارك» تسجيل مذكراته فى الحرب.. وكلف رشاد رشدى بكتابتها.. و«رشدى» اعتذر لأنه كتب «البحث عن الذات» ورشح المرحوم محمد الشناوى
كتب : نشوى الحوفيالخميس 26-09-2013 09:01
المذكرات تكشف العلاقة بين السادات ومبارك
لماذا مذكرات مبارك الآن؟ سؤال لا بد أن يكون مطروحاً، وأنت تقرأ كتاب «كلمة السر.. مذكرات محمد حسنى مبارك. يونيو 67 - أكتوبر 73»، والذى يصدر عن دار «نهضة مصر». إن للسؤال إجابات عدة، أولاها: الأقدار التى شاءت أن تخرج تلك المذكرات التى سجلها مبارك فى نهاية السبعينات مع الإعلامى الراحل الأستاذ محمد الشناوى، ولكنها لم تصدر فى حينها حيث احتفظ بها محررها، ونسيها صاحبها.. إلى أن وصلت إلى الكاتب السياسى عبدالله كمال منذ عدة أشهر، فتأكد أنها تخص الرئيس الأسبق، وتولى إعادة تحريرها والتقديم لها.
لقد حاول محرر المذكرات فى 2013 إبلاغ الرئيس الأسبق حسنى مبارك بعثوره على هذا الكنز الخاص الذى كان قد تم الانتهاء من إعداده فى ما بين عامى 1978 و1979.. أرسل لوسطاء مختلفين، ثم كان أن تعرف مبارك على مذكراته المنسية عبر محاميه الأستاذ فريد الديب، إلا أن الإجابة لم تأت إلا بعد إخلاء سبيل مبارك مؤخراً. ومن ثم عرض كمال على دار «نهضة مصر» طباعتها ونشرها فى كتاب، فرحبت بذلك وبشدة.
- اقتباس :
«مبارك» كتب مذكراته فى صورة «مبارزة» مع قائد سلاح الجو الإسرائيلى فى حرب 1967
لماذا كان الترحيب من جانبنا؟ ذلك هو السبب الثانى فى قائمة أسباب نشر مذكرات الرئيس الأسبق، إذ نؤمن بأهمية التوثيق وأن نستمع لأبطال الأحداث وشخوصها -سواءً اتفقنا أو اختلفنا معهم- لا نأخذ جانباً على حساب الآخر. ولو كتب الرئيس الأسبق أو من تلاه فى الحكم مذكراته لنشرناها، ويبقى الحكم لكل الناس. وهذا هو السبب الثالث فى اختيار نشر تلك المذكرات التى تمنحك قدراً من الرؤية فى كيفية الحكم على شخصية الرجل. ذلك أن الحكم على مبارك الضابط والقائد قد يختلف عن الحكم على مبارك الرئيس.
فى دار نهضة مصر لم يكن نشر مذكرات مبارك الأولى عملاً عادياً، وعابراً، ولكنه جاء فى إطار خطة متكاملة، للاحتفال بذكرى مرور 40 عاماً على حرب أكتوبر 1973.. تلك الحرب التى صنعت مجد مصر، وحررت أرضها، وقام بها جيل قدير لن ينساه التاريخ.. وفى الخطة، بل وفى نفس اللحظة التى تصدر فيها مذكرات مبارك «كلمة السر» سوف ننشر أيضاً كتاب «مشير النصر - الأوراق الخاصة للمشير أحمد إسماعيل»، وزير الدفاع فى حرب أكتوبر، التى كتبها مجدى الجلاد رئيس تحرير جريدة «الوطن».. كما ننشر مذكرات وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط - شاهد على الحرب والسلام.. وهو يبدأها من وقت أن كان مساعداً لمستشار الأمن القومى المرحوم حافظ إسماعيل، حيث كان دبلوماسياً فى غرفة العمليات السياسية للحرب على إسرائيل.. فى أكتوبر 1973، وصولاً إلى مراحل التفاوض السياسى مع إسرائيل بعد ذلك، حيث كان معاصراً ومشاركاً وفاعلاً فى مختلف فتراتها من خلال عمله الدبلوماسى.
نعود إلى مذكرات مبارك الأولى، وهنا أعود إلى ما يرويه عبدالله كمال بعض أجزاء فى تقديمه للكتاب كيف وصلته تلك الوثيقة المهمة تاريخيا:
«قادتنى إلى هذه الوثيقة التاريخية.. صُدفة سعيدة. للدقة وجدتنى فى طريقها، إذ لم أبذل جهداً، ولم أخطط لمسعى كى أحصل عليها.. بل ولم أكن أعرف بوجودها من الأصل.. لم يذكر أحد من قبل أن محمد حسنى مبارك نائب الرئيس أنور السادات قد كتب مذكراته.. حتى مبارك نفسه لم يعلن ذلك وربما لم يكن يتذكره.
كان كل ما أعرفه أن الرئيس مبارك له مذكرات مسجلة تليفزيونياً عن طريق إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة فى ما بعد عام 2000، وأنه قد دوّن مذكراته الأخيرة فى الفترة بين تخليه عن منصبه فى 11 فبراير 2011.. وقبل أن يتم التحقيق معه، ومن ثم احتجازه ومحاكمته بعد ذلك.
الحكاية بسيطة للغاية: تعرفت إلى مخرج سينمائى وتليفزيونى شاب وواعد. كان واحداً من بين مجموعة من الشباب الذى بدأت فى التواصل معه بعد 25 يناير 2011.. كنت ولم أزل أحاول التقرب من جيل جديد لم أكن قد تواصلت معه بقدر كافٍ للاطلاع على أفكاره.
إن كريم هو حفيد المرحوم محمد الشناوى، الرجل الذى كتب تلك المذكرات بعد أن استمع لمبارك شهوراً طويلة، وتفرغ لتدوينها شهوراً أطول. وبين الحفيد والجد كان الأب الذى بقيت المذكرات فى حوزته طوال تلك السنوات.. الأستاذ حازم الشناوى الإعلامى والمذيع المعروف بالتليفزيون المصرى.
قبل سنوات طويلة كنا قد تعارفنا.. أنا وحازم الشناوى، إذ كان يقدم فى نهاية التسعينات برنامجاً شهيراً يذاع على القناة الثالثة، اسمه «غداً تقول الصحافة»، بموازاة برنامج آخر أوسع شهرة اسمه «الكاميرا فى الملعب».
مرت سنوات طويلة منذ آخر لقاء، ربما خمسة عشر عاماً على الأقل، حين زارنى الأستاذ حازم مع ابنه كريم وفى يده «وثيقة أبيه».. التى كتبها على لسان حسنى مبارك.. راوياً قصة القوات الجوية فى حرب أكتوبر، وكيف صنعت هذا المجد العظيم. فى هذا اليوم أولتنى عائلة الشناوى ثقة تمنيت أن أكون على قدرها.
روى لى حازم الشناوى قصة أبيه مع تلك المذكرات. وقد كانت بدورها قصة بسيطة ولكنها شاءت أن تضيف من بساطتها بعضاً من الحكمة إلى وقائع التاريخ.. وادخرها الزمن بطريقة غير متوقعة لكى تكون ذات يوم شهادة موثقة عما تم إغفاله حيناً أو الغضب منه حيناً آخر.
كان المرحوم الرئيس محمد أنور السادات قد أصدر مذكراته الشهيرة «البحث عن الذات» فى أبريل 1978، وقرأها كثير من المصريين.. فى مطلع شبابى ونهاية صباى كنت واحداً من هؤلاء.. النسخة كانت تباع بـ 25 قرشاً. وقد كانت عامرة بتفاصيل كثيرة وسيرة رئيس حكى نفسه وروى عن نفسه.. وكان أهم ما يميز «البحث عن الذات» ما يتعلق بالوقائع التاريخية النابضة والحية وقتها.. تلك التى تخص سجل السادات الأعظم فى حرب أكتوبر المجيدة.. فضلاً عن بدء مسيرته نحو السلام مع إسرائيل.
كان السادات واعياً بأهمية الكتب، وضرورة أن يكتب هو بنفسه، وهو ما عُرف عنه منذ سنوات طويلة.. كان قد بدأ الكتابة خلالها فى عديد من الصحف المصرية أبرزها المصور والهلال فى حدود عام 1948. ثم بعد ثورة 1952 كان أن أصدر مجموعة من الكتب.. هى: قصة الثورة كاملة، يا ولدى هذا عمك جمال، معنى الاتحاد القومى، 30 شهراً فى السجن، نحو بعث جديد، القاعدة الشعبية.. ثم فى نهاية السبعينات أصدر «البحث عن الذات» وفيه روى قصة حياته.
حين صدرت جريدة «مايو» فى نهاية السبعينات، ناطقة باسم الحزب الوطنى الذى أسسه السادات بديلاً لحزب مصر العربى، وعقب بدء التعددية الحزبية، كان أن أملى مجموعة مقالات باسمه عنوانها «عرفت هؤلاء».. وكان معروفاً كذلك أنه يملى مباشرة أو بشكل غير مباشر على الأستاذ أنيس منصور كثيراً من المقالات التى تظهر فى صور حوارات بمجلة أكتوبر. وبنفس الأسلوب مع تفاصيل مختلفة فى الطريقة كان أن كتب المرحوم الدكتور رشاد رشدى أستاذ الأدب والنقد الكبير مذكرات السادات «البحث عن الذات».
كان الرئيس الراحل مولعاً بالتوثيق، ومعنياً بالكتابة، ومهتماً بالكتب، حتى رغم أن الدعاية اليسارية ضده قد رسخت فى الذهنية العامة أنه لا يحب القراءة ويصيبه الملل من التقارير المكتوبة. واحدة من بين الترويجات غير المدققة التى انتشرت فى ثقافتنا دون أن تخضع لأى مراجعة.. ولم يكن اليسار وحده مشاركاً فى مثل تلك الترويجات، بل كان لدى الإخوان ماكينتهم الخاصة.
عين الرئيس الراحل أنور السادات الفريق طيار حسنى مبارك نائباً له فى 1975. وقد كان هذا القرار مثيراً للجدل وقتها، حول أسباب الاختيار، ولماذا مبارك بدلاً من كل العسكريين المجايلين له، وفى صدارتهم قادة حرب أكتوبر زملاؤه.. وفيهم من هم أقدم منه.
ومن الواضح أن تقدير السادات كان قد شمل ما هو أبعد.. إذ كان هو صاحب فكرة تلك المذكرات لكى يروى فيها نائب الرئيس حسنى مبارك قصة ما حدث بعد هزيمة 1967 وصولاً إلى نصر 1973.
اتصل الرئيس السادات بالدكتور رشاد رشدى، وكلفه بأن يكتب مذكرات قائد سلاح الجو، نائب الرئيس، وأن يستمع منه إلى قصة هذا المجد الذى يجب أن تضم تفاصيله دفّتا كتاب للتاريخ.. اعتقد السادات أن الدكتور رشاد باعتباره كاتب مذكراته الناجحة سيكون الأنسب لكى يخوض جولة نجاح إضافية بمذكرات حسنى مبارك.
من المدهش، وإن كان من المنطقى، أن اعتذر الدكتور رشدى.أسبابه يمكن تفهمها. كان تبريره للسادات مبنياً على أساس أنه كتب مذكرات الرئيس ولا يمكنه أن يدوّن بنفس الأسلوب مذكرات نائب الرئيس. اقتنع الرئيس السادات وطلب منه أن يرشح بديلاً.. كان هو الأستاذ محمد الشناوى.
كان الأستاذ الشناوى درعمياً، حصل على ماجستير فى علم النفس، وكان إذاعياً مرموقاً.. فى زمن كانت فيه الإذاعة نجمة وسائل الإعلام، بينما شاشات التليفزيون لم تصل إلى كافة بيوت مصر كما هو الحال الآن. كان قد قطع طريقاً طويلاً فى خبرة العمل كإذاعى قدير.. عمل مذيعاً لسنوات طويلة، وهو صاحب فكرة تأسيس الإذاعات المحلية، وأول مدير لمحطة «القاهرة الكبرى»، ومؤلفاً درامياً فى سجله ما لا يقل عن مائة سهرة وخمسين مسلسلاً، بخلاف التدريس فى المعهد العالى للفنون المسرحية، وكلية ضباط الشرطة المتخصصين.
وفقاً لرواية حازم الشناوى عن والده الراحل فإن محمد الشناوى اجتمع مع نائب الرئيس محمد حسنى مبارك عشرات المرات، روى له فيها كل تفاصيل ودقائق الست سنوات التى قضاها فى عملية إعادة بناء القوات الجوية، منذ كان ضابطاً قيادياً.. تلقى ضربة يونيو وهو لم يزل قائداً لقاعدة بنى سويف الجوية.. وحتى أصبح مديراً للكلية الجوية وإلى أن أصبح قائداً للقوات الجوية، محققاً النصر الجوى الأهم فى تاريخ مصر.
وقد كتب محمد الشناوى النص فى حدود 500 ورقة فلوسكاب بخط اليد، بعض صفحات منها كان قد دوّن عليها مبارك ملاحظات بخط يده بقلم أحمر.. خصوصاً فيما يتعلق بالمعلومات الفنية والعسكرية الدقيقة.. وتمثل هذه الأوراق الوثيقة الأهم حول تلك السنوات وهذا السلاح وهذا البطل.. إذ لا توجد تقريباً غيرها بهذه الدقة وتلك الشمولية وهذا التنظيم.. والأهم على لسان محمد حسنى مبارك.. صانع هذا التاريخ بين كل صناع التاريخ من الجيل البطل الذى حقق نصر أكتوبر.
ليس معروفاً على وجه الدقة ما هو السبب الذى منع نشر تلك المذكرات، وما الذى عطل عملية النشر بعد أن اكتملت الوثيقة.. إذ لم أجد لدى الأستاذ حازم ما يمكن نقله عن والده فى هذا السياق. غير أن المؤكد أنه كان هناك حرص عائلى على الاحتفاظ بالوثيقة إلى أن يحين وقت تنفيذ وصية الوالد الراحل بالنشر، عندما يجد ابنه ذلك مناسباً.
فى بداية 2013 وضع الأستاذ حازم الشناوى ثقته فى كاتب هذه السطور، وسلّمنى صورة من تلك «المذكرات - الوثيقة» لكى تجد طريقها إلى النور، وترك لى -مشكوراً- أسلوب ترتيب ذلك.. توثيقاً وتدقيقاً.
- اقتباس :
حرب الاستنزاف كانت «جامعة» التحقنا بها قبل النصر الكبير.. وكان ضرورياً أن يواجه الطيار المصرى عدوه الإسرائيلى فى الجو ليتعرف عليه قبل معركة الثأر.. فالهزيمة ليست قدراً والنصر لم يكن صدفة
للوهلة الأولى، أثبتت قراءة تلك المذكرات، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنها لمبارك، سواء من حيث الوقائع الشخصية القليلة التى يرويها، أو من حيث المعلومات الفنية والعسكرية التى تضمنتها، أو من حيث تنظيم المادة المروية عن طريقة إعادة بناء القوات الجوية واستعدادها لحرب أكتوبر ومن ثم تفاصيل ودقائق الضربة الجوية الساحقة لإسرائيل فى أكتوبر 1973.. فضلاً عن الملاحظات الخطية التى وجدتها على جانبى بعض الصفحات وهى بخط أقرب إلى أن يكون ما أعرفه عن خط الرئيس الأسبق لمصر.. إن الأهم قبل كل ذلك هو الوثيقة التى دونها مبارك بخط يده وتنشر هنا، وقدم بها مبارك لمذكراته التى أملاها على المرحوم محمد الشناوى.
فى غضون الأشهر القليلة التى تلت وصول هذا النص إلى يدى، لم تتح فرصة مناسبة لإطلاع الرئيس أو أى من أفراد عائلته على المذكرات: علاء وجمال أو السيدة قرينته. كنت أرغب فى أن تكون هذه الخطوة عملاً مزدوجاً: يحقق أولاً توثيق النص، وثانياً السماح بنشره.
كان يمكن أن أمضى فى إجراءات النشر، وسط مناخ شغوف بأى شىء عن مبارك.. لكنى لم أجد أنه مطابق للمعايير الأخلاقية أن يتم النشر بدون إطلاع أى من أفراد عائلة مبارك على المكتوب منسوباً إليه.. مع كامل التقدير والثقة فى أسرة الشناوى الحائزة للوثيقة نقلاً عن الأستاذ الراحل محمد الشناوى.
فى أغسطس 2013.. بُعيد صدور الحكم بأحقية الرئيس مبارك فى أن يتم الإفراج عنه إجرائياً من الحبس الاحتياطى الذى قيد حريته لسنتين.. كان أن أبلغت الأستاذ فريد الديب المحامى الكبير والمدافع القانونى عن الرئيس مبارك بالأمر.. وتكرم سيادته وعرض الأمر على مبارك حيث كان فى مقر إقامته الجبرية فى مستشفى المعادى.. وكان أن تذكر الرئيس الموقف الممتد بينه وبين المرحوم محمد الشناوى، وطلب أن يقرأ مذكراته.
وتكرم الأستاذ فريد مجدداً ونقل الخبر إلىّ، فبدأت على الفور المرحلة الثانية من التعامل مع هذه المذكرات المهمة، تمهيداً لعرضها على صاحبها الرئيس الأسبق.. وقد عُرضت عليه فى الأسبوع الأخير.. ووافق على النشر.. الذى تنفرد به جريدة «الوطن» بالتزامن مع جريدة «الرأى» الكويتية.
لم تقف المهمة التى كلفت بها نفسى عند مسألة توثيق النص، والتأكد من انتسابه التاريخى للرئيس مبارك، ولا عند تولى إدارة عملية نشره عبر الدار المحترمة «نهضة مصر».. ولا عند كتابة هذا التقديم النقدى الشارح للكتاب والراوى لملابساته. بل آليت على نفسى أن أجعله أكثر حداثة عما كان عليه وأن أحرره بما يلائم سنة صدوره فى 2013.. مع كل التقدير والاحترام للجهد الذى بذله الأستاذ المرحوم محمد الشناوى فى نهاية السبعينات من القرن الماضى أى قبل نحو 40 عاماً.
لقد حافظت على روح الأسلوب، ولغة الكتابة، والاقتباسات التى أوردها محمد الشناوى من تلقاء نفسه كما يمكن أن أخمن مهنياً، أو تلك التى أوصى بها مبارك كما أتوقع من خلال تحليل المضمون.
يمكن توقع أن محرر المذكرات الأول قد اهتم ببعض المأثورات والأحاديث النبوية وبعض المذكرات العسكرية.. وضمّنها الصفحات أثناء صياغته للنص المنقول عما سمعه من نائب الرئيس.. كما يمكن أن يقودنا الحدس إلى أن مبارك قد اهتم بما ذكرته إسرائيل عن العمليات العسكرية وما ورد فى كتبها وتصريحات مسئوليها.. وتوثيق ذلك عبر أدوات المؤسسة العسكرية التى كانت تهتم بذلك منذ زمن بعيد وتتابعه وتعرضه فى تقارير دورية على قيادتها المختلفة.
بخلاف ذلك، فإن تراتبية المذكرات، وتوالى تفاصيلها، ودور القوات والأفرع، ومهام الأفراد والقادة، وسجلات البطولات الشخصية، وغير ذلك هو من صميم شخصية القائد الجوى.. الذى لم يكن يروى مذكراته الشخصية، بقدر ما كان يملى مذكرات القوات الجوية فى الست سنوات التى سبقت أكتوبر 73 وقادت إليه.
فى هذا السياق قمت ببعض الجهد فى عملية تحرير إضافى لهذه المذكرات، يمكن أن أوجزه وفق مقتضيات الأمانة المهنية والتاريخية فيما يلى:
■ تغيير عنوان النص من «كلمة السر.. صِدام - من يونيو 1967 إلى أكتوبر 1973» إلى «كلمة السر - مذكرات حسنى مبارك - يونيو 1967 / أكتوبر 1973». ويمكن فهم لماذا اختار الأستاذ الشناوى عنوانه الأول تخليداً لاسم العملية الهجومية القتالية التى قامت بها القوات الجوية المصرية فى أكتوبر 1973.. على أنه قد لا يبدو العنوان واضحاً الآن، لا سيما أن الكثيرين سيحتاجون إلى تشكيل النطق لكى يكون حرف «الصاد» مكسوراً وينطق صحيحاً بدلاً من أن يشير إلى اسم رئيس العراق الراحل صدام حسين!!
■ قمت بعدد من عمليات التكثيف والاختصار، التى لا تخل بقيمة النص، ولا روح السياق الذى قام به الأستاذ الشناوى. وكان سبب ذلك هو اعتقادى بأن النص الذى وصل إلى يدى كان قيد المراجعة ولم يكن نصاً أخيراً.. فضلاً عن أن الطبيعة الإذاعية للغة الأستاذ المرحوم محمد الشناوى كانت تميل به إلى أن يضع تكرارات من فصل لآخر مذكراً بها، حسب أسلوب العمل الإذاعى، مقارنة بما هو غير معتاد فى أساليب التحرير المقروءة.
■ قمت بإعادة التبويب عن طريق الدمج، وليس بإعادة الترتيب.. بمعنى أننى حافظت على درامية وتاريخية العمل كما دوّنه الأستاذ الشناوى، غير أنى ألغيت التوزيع بطريقة الأبواب الرئيسية المتضمنة لفصول داخلية فرعية، وجعلتها كلها فصولاً متتابعة، ما اقتضى دمج بعض الفصول.
كانت المذكرات موزعة كما يلى: مقدمة، وسبعة أبواب، تتوزع كلها على فصول، بعضها أربعة وبعضها خمسة، باستثناء الباب الرابع فهو كتلة واحدة، وخاتمة.
فى تبويبها الجديد، وبعد دمج عديد من الفصول، صارت هذه المذكرات مكونة من مقدمة و13 فصلاً وخاتمة، بخلاف هذا التقديم.
■ قمت ببعض عمليات إعادة تنظيم الفقرات، وإعادة كتابة بدايتها، محاولاً أن يكون هذا أكثر تناسباً مع لغة تحرير مغايرة.. وبدون إخلال بالجهد المبذول قبل أربعين سنة.
■ حررت هذا التقديم التاريخى - التوثيقى، والنقدى، الإضافى والواجب.
وعلى الرغم من أنه توجد بعض الكتابات هنا أو هناك حول السنوات الثلاثين لحكم مبارك، فإن كثيراً منها لم يهتم بالغوص فى تفاصيل، واكتفى البعض بما يمكنه اعتباره مجاملة لرئيس، ورأى فيه الجيل الجديد أنه نفاقات.. واهتم البعض الآخر بما يمكن اعتباره هجوماً سياسياً على رئيس، رأى فيه مؤيدوه ظلماً له. وحتى لحظة صدور هذا الكتاب فإنه لم توجد بعد مصادر واضحة ودقيقة وشاملة وموضوعية لا عن سنوات حكم مبارك، ولا عنه شخصياً.. لا عن سيرة السياسى الحاكم ولا عن تاريخ العسكرى المقاتل.
هذا تناقض مريع تاريخياً، بين حقيقة أن الرئيس مبارك قد حكم ثلاثين عاماً، وامتد مساره العملى لأكثر من خمسين سنة، وبين كونه الرئيس الذى لم تدون عنه تاريخياً كثير من تفاصيل سيرته.. لا قبل أن يكون رئيساً ولا بعد أن أصبح رئيساً ولا عقب تركه لمنصبه كرئيس.
لقد اكتفى مبارك وحكمه بالمادة الإعلامية السيارة التى كانت تغطى أنشطة يومية ووقائع إخبارية، للدقة هو لم يكتف.. وإنما لم يسع. ولا يوجد بشأن سيرته كتاب تحليلى شامل، أو سيرة موثقة، أو أى منتج ثقافى متعمق آخر. إن الكتاب الذى يمكن أن تعثر عليه بشأن مبارك قد يكون دعائياً أو ألبوماً مصوراً.. أو كتاباً انتقادياً هجومياً رافضاً.
وبالموازاة لمبارك، فإن حرب أكتوبر، وهى تتخطى دور شخص بعينه، وتشمل بطولات ومواقف وأدواراً لمئات الألوف من المصريين، كان بدورها أن لقيت ظلماً تاريخياً ولم تحظ بالقدر الكافى من الاهتمام التفصيلى والدقيق.. حتى مع صدور عدد من مذكرات بعض من كبار قادتها. ربما لأسباب ودواعى السرية التى فُرضت عليها وعلى تفاصيل حقوق المعرفة العسكرية التى أحاط بها الكتمان عقوداً.. وربما لأن النصوص التى صدرت لم تتضمن تفصيلات محددة بالطريقة الاستثنائية الواردة فى هذه المذكرات على لسان نائب الرئيس محمد حسنى مبارك.
باستثناء مذكرات الفريق محمد عبدالغنى الجمسى فإن الصورة التى تصل عن حرب أكتوبر إلى الأجيال الجديدة تبدو غير مكتملة وتحتاج إلى مزيد من التفصيل.. بل إن قائدها الميدانى الأهم، القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل لم يمنحه الزمن فرصه لكى يروى تجربته ومسيرته وقصة الانتصار الذى سجل فيه اسمه.. وهنا تأتى الصدفة التاريخية المهمة متزامنة مع صدور مذكرات مبارك، عندما ينشر الأستاذ مجدى الجلاد فى الوقت ذاته أوراق المشير أحمد إسماعيل فى كتاب «مشير النصر» الذى تصدره دار «نهضة مصر».
لقد مضت سنوات طويلة على حرب أكتوبر، وبمضى السنوات طوى النسيان مذكرات قادة حرب أكتوبر، الذين لم تنشغل بهم تفصيلاً الحركة النقدية والأعمال البحثية والعملية التى تُبقى قيم تلك الحرب وأهميتها التاريخية يقظة فى ذهن وعقل الأجيال التالية.. لا تحليل ولا دراسات ولا مراجعات.. لم تعد حرب أكتوبر مدرجة أصلاً فى الخطط البحثية للجامعات والمعاهد المصرية.
وبنفاد سنوات هذا الجيل صانع النصر، فإن الأعمال التى تتناول حرب أكتوبر ودقائقها انقطعت، ولا تضم المكتبات العربية والمصرية إلا مؤلفات نادرة عن الوقائع وتحليلها ودراستها وبحث تأثيراتها. ومن هنا فإن صدور تلك المذكرات التى أملاها نائب الرئيس محمد حسنى مبارك يسقى تربة ذاكرة قد جفت، ويرطب اهتماماً قد ذبل.
وليس بعيداً عن هذا الظلم المتراكم أن حرباً معنوية وتاريخية وعلمية قد تم شنها على قيمة حرب أكتوبر ومجدها، تشويهاً وتقليلاً وإضعافاً، بل وتحويلها -استسلاماً للرواية الإسرائيلية- إلى حرب متعادلة فى أفضل الأحوال.. وفى أحوال أخرى وفقاً لروايات غير عربية بدت كما لو أنها هزيمة ناقصة أو نصر غير مكتمل.
هذا أمر جلل وخطير وجدير بالانتباه بالنسبة لاهتمامنا بأجيال صار عليها أن تستسلم لحملات دعائية جعلت من الصمود الخاسر من قبل بعض التنظيمات فى معارك عابرة نوعاً من الانتصار، وأصبح عليها أن تقتنع بأن الجيش المصرى بلا مجد طالما أنه لم يخض حرباً منذ انتهت حرب أكتوبر 1973.
إن أهمية «المذكرات الأولى لحسنى مبارك» لا تكمن فحسب فى صاحبها، بقدر ما تكمن كذلك فيما ترويه عن المؤسسة العظيمة التى كان هو أحد أبطالها، وأبطال انتصارها فى أكتوبر 1973.. ويعزى ذلك إلى الطريقة التى روى بها مبارك تفاصيل عملية إعادة بناء القوات الجوية.. باعتبارها الخاسر الأهم والأكبر فى هزيمة يونيو 1967.. ومن ثم باعتبارها صاحبة ضربة النصر الأولى فى حرب أكتوبر 1973 المجيدة.
لا يمكن اعتبار هذا الكتاب «مذكرات شخصية»، وإن كان «مذكرات» بالتأكيد، ذلك أن نائب الرئيس محمد حسنى مبارك لم يجعل من نفسه محوراً لها، ولم يتطرق إلى ذاته إلا فى مرات نادرة. لقد جعل من الكتاب سجلاً لسنوات تطوير القوات الجوية، وانتقالها من الهزيمة إلى النصر.. وبدا خلال تلك الصفحات شاهداً غير معلن أكثر من تقديمه لنفسه على أنه فاعل رئيسى. من المدهش أنه لا يتوقف عند محطات تاريخية مهمة ليروى تفاصيل كيف أصبح مديراً للكلية الجوية ومن ثم كيف عُين رئيساً للأركان وكيف تم اختياره قائداً للقوات الجوية.
إن الرواية المؤكدة هى أن مبارك كان فى الأساس معلماً مرموقاً فى الكلية الجوية قبل أن يصلح قائداً لقاعدة بنى سويف، ومن ثم يعود بعد حرب 1967 إلى قيادة الكلية الجوية، وصولاً إلى اللحظة التى اقترب فيها من الفريق محمد فوزى وزير الحربية الراحل.. والذى كان أن رشحه للرئيس الراحل جمال عبدالناصر قائداً لأركان القوات الجوية.. فترقى مبارك من رتبة عميد إلى رتبة لواء فى وقت قياسى، وكان قرار عبدالناصر بتعيينه فى منصب رئيس الأركان مدوياً فى القوات المسلحة وله تأثيرات مختلفة.
مشهدان يركز عليهما حسنى مبارك بشأن نفسه فى تلك المذكرات، الأول وهو مهزوم.. يشعر بالظلم الفادح لأنه لم يقاتل.. عاكساً تلك الصورة على كافة الأفراد والقادة فى القوات الجوية خصوصاً والقوات المسلحة عموماً. والثانى وهو منتصر يثبت بروايته لا بالحديث عن عمله الشخصى كيف أثبت المقاتل المصرى جدارته وكيف تمكن من أخذ أسباب العلم والقوة لكى يثأر لنفسه ولأمته.
بدا مبارك حريصاً على عدم التفاخر فى هذه الوثيقة، ليس لأنه أصر على أن يكون ملتزماً إلى حد بعيد بالغرض الذى وجد أن الرئيس السادات قد استهدفه.. أى أن يروى قصة الضربة الجوية، ومن ثم تباعد عن أن يكتب سيرة صاحب الضربة الجوية.. ولكن أيضاً لأن تحليل المضمون يثبت أنه ابتعد عن منطق «التفاخر القومى».. وانتهج منذ الصفحات الأولى، وبإصرار، أسلوب التحليل العلمى والواقعى.. وصولاً إلى نتيجة محددة وهى أن ما تحقق من القوات الجوية لم يكن «معجزة» أو «أسطورة».
كان منطق مبارك المعلن لتبرير ذلك، هو أنها إذا كانت «معجزة» أو «أسطورة» فإنها تكون بذلك حدثاً استثنائياً، منحة عابرة، بينما أراد أن يثبت طوال صفحات ذلك الكتاب.. كما فعل توثيقاً.. أن العملية الجوية «صِدام» كانت نتاج تقييم وتخطيط ودراسات وتدريب وإصرار وإرادة.. يمكن أن يتكرر إذا تكرر ذات الجهد الذى تم بذله من أجل الوصول إلى هذا النصر.. وإذا تكررت المبررات الداعية لحدوثه.
لقد أخفى مبارك نفسه من مذكراته الأولى، من حيث أنه لم يكتبها بطريقة أنه فى يوم ما استدعى أو قابل أو وجّه بأمر معين، وفى يوم آخر اجتمع بهذا أو ذاك.. ومن حيث أنه لم يقل قابلت وسمعت وفكرت وقررت وقرأت.. وإنما دوّنها بطريقة «مسيرة فريق» من الأفراد والقادة، فى مختلف قواعد وألوية وأفرع القوات الجوية، وفى سياق منظومة القوات المسلحة برمتها.
فى هذه المذكرات لم يكتب مبارك عن مبارك، مباشرة، إلا ثلاث مرات تقريباً، الأولى حين تحدث عن مشهد معاناته من الهزيمة، والثانية حين روى واقعة لجنة التحقيق التى فوجئ بأن شاهدة أمامها قد ذكرت عنه رواية غير صحيحة دون أن تعرف أنه يرأس لجنة التحقيق التى تستمع إليها، تلك الشاهدة كانت فنانة جامعية حضرت حفلاً ساهراً فى القوات المسلحة قبل هزيمة يونيو 1967.. وروت لمبارك ما عرفته عن قائد قاعدة بنى سويف الجوية.. وكيف أنه لم يكن موجوداً وقت الحرب دون أن تدرى أن الذى يحقق معها هو نفسه الشخص الذى تروى عنه تلك الأكذوبة.. وكانت الواقعة الثالثة عندما روى مبارك كيف شارك فى خطة الخداع الاستراتيجى لمفاجأة الحرب.
عوضاً عن هذا، جعل مبارك من تلك المذكرات مبارزة منهجية متصاعدة بينه وبين القائد الإسرائيلى الجنرال موردخاى هود مخطط وقائد الضربة الجوية الإسرائيلية التى أوقعت الهزيمة بمصر فى صباح يوم 5 يونيو 1967. وقد كان هذا الأسلوب اللافت مهماً للغاية فى التعبير عن فكرة الكتاب من حيث أنه جعل هذه المواجهة تحقق ما يلى:
1- إكساب المذكرات بعداً درامياً صراعياً، يمزج ما بين الشخصى والعام، من حيث أن المواجهة كانت بين قائدين.. أحدهما كسب جولة والثانى يخطط للثأر، ومن حيث أنها كانت بين اثنتين من القوات الجوية المتحاربة، ومن حيث أنها كانت كذلك صراعاً بين بلدين وشعبين.. بين مصر وإسرائيل.
2- منحت هذه المواجهة التى صنعها مبارك لمؤلفه فرصة أن يحلل ما قام به خصمه، وأن يعطيه بداية الاعتراف بأنه قد حقق مكسباً، ثم يسحب هذا الاعتراف ويهدم هذا المنهج بتأكيد كونه لا يعبر عن ابتكار خاص، ولا يمثل إنجازاً، ويفتقد إلى الشرف، ويستند إلى عوامل مساعدة لو لم تكن متوافرة ما أمكن لموردخاى هود أن يحقق نصره.
3- أعطت المواجهة بهذا الشكل للقائد المصرى حسنى مبارك فرصة أن يأخذ قارئه خطوة تلو أخرى نحو إعلان انتصاره على القائد الإسرائيلى.. بقصد إبلاغ رسالته الأساسية وهى أن «الإسرائيلى» وما يمثله ليست لديه أية ميزات استثنائية.. وأن «المصرى» هُزم لأنه واجه عيوباً نتجت عن «تقصير» وليس لأنه مهزوم بالفطرة، أو لأنه يعانى من «قصور» مولود به كما أرادت هزيمة يونيو -من جانب إسرائيل- أن تقول وتروّج.
4- استخدم مبارك هذه المواجهة، بدهاء مبهر، لكى يؤكد على جِدة وحداثة الضربة الجوية التى خطط لها ونفذها، وكيف أنها كانت مبتكرة ومبدعة، ونتاج العقل المصرى، وتمثل إضافة حقيقية فى تاريخ القتال الجوى.. مقارناً بين أداء القوات المصرية فى 1973 والقوات الإسرائيلية فى يونيو 1976.
بمقاييس المقروئية العادية تبدو صفحات هذه المذكرات أقرب إلى أن تكون جافة، لأنها لا تتضمن مشهيات القراءة المتوقعة.. فهى لا تتضمن قصصاً وحكايات ومشاهد طريفة.. إلا حين تصل إلى فصلها الأخير.. عندما يحرص مبارك على ذكر عديد من أمثلة البطولات التى قدمها الطيارون والمقاتلون فى القوات الجوية.. وكلها احتوت على قيم ملهمة ومآثر خالدة.
فى النص الأصلى الذى حرره الأستاذ الشناوى كان أن ضم كل تلك القصص فى فصول تحت الباب السابع، ووزع قصص الأفراد بحسب كل فرع فى القوات الجوية.
تحريرياً كان يمكننى أن أوزع القصص الإنسانية والبطولات المميزة لأفراد وقادة القوات الجوية التى أوردها الفريق طيار محمد حسنى مبارك على مختلف فصول الكتاب.. كان هذا سيوفر فرصاً لمزيد من أساليب الإمتاع أثناء القراءة.. غير أن هذا كان سيخل بالترتيب الأصلى للنص المكتوب، والذى بُنى ترابطياً انتقالاً من محور إلى آخر، ومن مرحلة إلى غيرها، ثم توج فى النهاية بالفصل الأخير الذى يحكى قصص الأمجاد الشخصية.. وبمنتهى الحرص على أن يبدو ذلك فى سياق روح فريق واحد.
لقد نقل الفريق طيار حسنى مبارك الحرب إلى صفحات مذكراته، كما لو أنه كان فى غرفة عمليات القوات الجوية، يخطط، وينفذ، ويأمر بالتدريب، ويرقى مستوى التسليح، إلى أن حانت لحظة القتال.. فى كل صفحة أو للدقة كل فصل كان يسير بالتفاصيل عبر هذا المسار ونحو هذا الاتجاه.
رسالة ومنطق الكتاب هو أن: الهزيمة ليست قدراً، والنصر ليس صدفة.. وفى سبيل ذلك، ووفق التزامه بمعايير السرية التى كانت مفروضة وقتها حتى على نائب رئيس الجمهورية، فإن محمد حسنى مبارك يشرح فى فصول متتابعة كيف تحقق النصر.. وكيف تم التغلب على الهزيمة. وقبل ذلك فإنه بمنهج القوات المسلحة المصرية يقيم ما وقع وأسبابه والدروس المستفادة منه، وطرق علاج الأخطاء، وكيف أمكن امتلاك أدوات الانتصار.
- اقتباس :
محرر المذكرات فى نهاية السبعينات إذاعى كبير ومؤلف درامى.. استمع لمبارك ستة أشهر وسلمه نسخة راجعها ثم احتفظت عائلته بالوثيقة طوال 35 سنة
لم يكن الطريق إلى النصر سهلاً ويسيراً، كما لم تمر السنوات من 1967 إلى 1973 بسلاسة.. وبقدر ما تبدو مروية الأعوام المريرة عادية وبسيطة ونحن نقرأها الآن بعد أربعين عاماً من النصر، بقدر ما كمنت فيها عوامل قسوة المهمة وعبء الثأر وضخامة العمل وحجم التضحيات. وفى هذه الصفحات كان أن قدم حسنى مبارك ذلك العمل التاريخى، وهو جانب من بين جوانب العملية العسكرية كلها فى أكتوبر 1973 كما لو أنه يمكن لأى أحد أن يقوم به.. فى حين أنه لم يكن كذلك على الإطلاق.. ولعلنا نلاحظ بالاطلاع على هذه المذكرات ما يلى:
1- قبل بناء المقاتل بدناً وتسليحاً وتدريباً كانت المهمة الأصعب والأهم هى إعادة بنائه نفسياً ومعنوياً. فى مذكراته أعطى مبارك جهداً عميقاً ومثابراً لكى يشرح ذلك وأهميته ودوره فى تأصيل وترسيخ عقيدة القتال، واستنهاض المصرى من هزيمته، فى ضوء أن الهدف الذى رأى مبارك أنه كان مخططاً من قبل إسرائيل فى يونيو 1967 هو قهر المواطن المصرى خصوصاً والعربى عموماً نفسياً وتنكيس ذاته بحيث لا تقوم لها قائمة من جديد.
2- بخلاف البناء المعنوى، فإن المقاتل بُنى معرفياً، ومن اللافت أن القائد حسنى مبارك ركز على أن ردود أفعال المقاتلين وقراراتهم القتالية لا تكون متحصلة فقط من عمليات تدريبهم وتسليحهم وتجهيزهم معنوياً.. بل رأى أنها تعود فى الأصل إلى تراكم حضارى يتجمع فى لحظة المواجهة ويكون أن ينتج قرارات المقاتل التى تؤدى لانتصار.
3- لم يذهب المصريون إلى حرب أكتوبر فجأة، كما أنهم لم يكونوا قادرين عليها فى وقت قصير.. ولم تكن التدريبات وحدها كافية لاكتساب المهارات ونمو القدرات.. وكان المقاتلون بحاجة إلى أن يواجهوا الطيارين الإسرائيليين ليعرفوهم قبل أن يقاتلوهم فى معركة الثأر. ومن هنا تبدو فى المذكرات أهمية وفلسفة حرب الاستنزاف التى يشرح مبارك مبررها التكتيكى بطريقة لم تكتب من قبل، ويصفها بأنها «جامعة» كان لا بد من الالتحاق بها قبل التقدم إلى نصر أكتوبر.
4- إن مشاركة أكثر من مائتى طائرة فى أولى طلعات الضربة الجوية فى الساعة الثانية وخمس دقائق يوم 6 أكتوبر لم يكن سوى قمة جبل الجليد.. وحتى يسيطر المقاتل على عنان السماء وهو فى مواجهة خصمه فإن عشرات من التفاصيل المعقدة على الأرض، وبين السماء والأرض، لا بد أن تكون قد تمت.. بدءًا من إعادة بناء المطارات وتوزيعها وحمايتها وطريقة التجهيز الفنى للطائرات وإعادة تطويرها وتحديثها وتدريب الأطقم المعاونة.. ومن أهمية هذه المذكرات أنها تشرح ذلك تفصيلاً.
5- لأول مرة يذكر مبارك تفاصيل الدور الذى قام به علمياً فى مرحلة توليه إدارة الكلية الجوية.. ويوثق ما أنتجه الفكر العسكرى العلمى المصرى خلال الست سنوات ظهيراً للضربة الجوية وفى الطريق إليها. وعلى الرغم من أنه اهتم فى مواضع مختلفة من تلك المذكرات بانتقاد الفكر العسكرى القديم والبالى الذى أدى إلى هزيمة 1967 فإنه يدهش قارئه بذكر فائدة إعادة إحياء أفكار عسكرية قديمة وتوظيفها فى ضوء الإمكانات المحدودة لتحقيق أهداف جديدة. مثال ذلك استحياء الدفاع الجوى بأسلوب البالون ودراسة ذلك فى الكلية الجوية.
http://www.elwatannews.com/news/details/330021