شكري القوتلي
1891م- 1967م
يندر في زماننا أن نجد بين الناس من يقوى على التضحية بمال أو سلطة أو جاه، فما بالنا إن كان ذا عرش أو زعامة !؟ فقط يقوى عليها من سما هدفه ونقيت سريرته؛ فبذل ما لديه راغباً فرحاً فاستوي عنده ما يُنفق مع ما يغنم، ولا أظننا بحاجة إلا لأمثال هؤلاء الرجال فنقتفي أثرهم ونسير على دربهم، وما الرئيس السوري الراحل (شكري القوتلي) إلا واحداً من هؤلاء الرجال، فمن هو هذا الرجل؟
وُلد شكري محمود عبد الغني القوتلي بدمشق في 17/10/1891م، نشأ في بيت كرم وتقوى فشب ورعاً هادئ النفس نقي السريرة، أحب القوتلي العلم واللغة العربية ونبغ فيهما، وبعد أن أنهي دراسته الثانوية عام 1908م، انتقل إلى تركيا لاستكمال دراسته الجامعية، وفي عام 1913م عاد القوتلي إلى دمشق بعد أن انهي دراسته الجامعية، لينضم إلى جمعية (العربية الفتاة) السرية التي تبنت الدفاع عن مصالح العرب.
وفي عام 1918 أسس القوتلي وبعض رفاقه حزب (الاستقلال) العربي، وفي عام 1920م احتلت فرنسا سوريا بعد خروج الأتراك منها، فاستنفر القوتلي والحزب السوريين لمقاومة الاستعمار الفرنسي لبلادهم، فما كان من سلطات الاحتلال إلا أن اعتقلته وصادرت أمواله، وأصدرت في حقه حكماً بالإعدام؛ الأمر الذي دفعه للهرب إلى مصر.
وفي عام 1924م عاد القوتلي إلى سوريا لينضم إلى صفوف الثوار المُطالبين برحيل المستعمر الفرنسي، حتى نجحوا في تفجير الثورة ضد فرنسا عام 1925م، إلا أن السلطات بطشت بالثوار وقبضت على العديد من قادتهم، وحوكم القوتلي من جديد وحكم عليه بالإعدام، لكنه استطاع الفرار مرة أخري وظل يتنقل بين بعض العواصم العربية فاضحاً الجرائم والممارسات الفرنسية ضد السوريين، وفي عام 1930م عاد القوتلي إلى دمشق بعد أن سقط عنه حكم الإعدام، ليعمل على التعريف بقضية بلاده ويشارك في العديد من المؤتمرات بهذا الشأن، كان منه أهمها (المؤتمر العربي القومي) بالقدس عام 1931م، وفي عام 1932م شارك القوتلي في تأسيس (الكتلة الوطنية) المُطالبة باستقلال سوريا.
أعقب ذلك دخول سوريا في مفاوضات مع فرنسا من أجل الاستقلال، وعندما انتخب (مجلس النواب السوري) عام 1936م كان القوتلي أحد أعضائه، ومع تشكيل أول حكومة وطنية في سوريا تولى القوتلي وزارتي المالية والدفاع، لكن سرعان ما استقال من الوزارة متفرغاً لرئاسة الكتلة الوطنية خلفاً لرئيسها (إبراهيم هنانو)، وفي أغسطس 1943م انتخب القوتلي رئيساً لسوريا بالإجماع، ليواصل كفاحه من أجل رحيل الاستعمار الفرنسي عن بلاده، حتى تم له ذلك في إبريل 1946م؛ فشرع على الفور في إجراء العديد من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في سوريا، فازدهرت في عهده البلاد، وتحسنت أوضاعها.
في مارس 1949م قام رئيس الأركان السوري (حسني الزعيم) بانقلاب عسكري اُعتقل على إثره القوتلي وحددت إقامته، قبل أن يسمح له بالسفر إلى مصر، وتحت إلحاح عدة شخصيات سورية عاد القوتلي إلى سوريا، ليتولى رئاسة الجمهورية مرة أخرى في سبتمبر 1955م.
كان القوتلي من أشد المؤمنين بالوحدة العربية، ولعب دوراً بارزاً في المشاورات من أجل تأسيس جامعة الدول العربية، حتى أعلنت رسمياً عام 1945م، فعمل بكل قوة على توحيد العرب ونصرة فلسطين والحيلولة دون تحقيق الحلم الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود بها.
كانت علاقات القوتلي بالقادة والرؤساء العرب تزداد متانة يوماً بعد يوم، حتى تكللت بالنجاح في الاتفاق مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر على اندماج كل من مصر وسوريا في كيان واحد أعلن رسميا عام 1958م باسم (الجمهورية العربية المتحدة) وفي سابقة مثيرة، وبكل ما كان يُكنه القوتلي من حب لهذا الوطن تنازل طوعياً عن منصب الرئاسة لجمال عبد الناصر، واستقبل الشعبين المصري والسوري نبأ الوحدة بفرحة غامرة وتقدير وعرفان لهذا الرجل الكريم، منذ تلك اللحظة لقب القوتلي بالـ (المواطن العربي الأول).
كانت الظروف العالمية آنذاك إضافة إلي بعض الاختلافات في وجهات النظر حول إدارة وتنظيم أمور الجمهورية العربية المتحدة قد أدت إلى عدم استمرار الوحدة بين مصر وسوريا طويلاً، إذ أعلن عن انفصامها في سبتمبر 1961م؛ فكان وقع هذا الأمر شديد على القوتلي الذي بكي الوحدة مع مصر في خطابة إلى الشعب السوري بهذا الشأن، كما كان لفشل تجربة الوحدة أسوأ الأثر علي حياة القوتلي الذي كان مصاباً بالقرحة فبدأت صحته في التدهور، فسافر إلى جنيف ومنها إلى بيروت ومكث بها للعلاج إلى أن وافاه الأجل عام 1967م، فنقل إلى دمشق حيث دفن في مقبرة الباب الصغير، رحم الله الرجل وجازاه جزاء الصالحين.
http://hassanelbadawy.arabblogs.com/archive/2008/11/718206.html