هناك مصطلح عند أهلنا في الحجاز لفظه عامي، ولكنه يبلغ
الفكرة بوضوح، استذكرته وأنا أتابع الرسائل العسكرية والسياسية بين إيران
والولايات المتحدة. المثل يقول: (القوة مليحة).
وهنا أتحدث بصفتي أقدم قراءة موضوعية تحليلية، أما
الأمنيات والرجاء فتلك مواطنها في ضمائرنا، وفي مواضع أخرى، ولن تجدي
الأمنيات في تغيير الحقائق الضخمة على الأرض، ومن مسؤولية الكاتب عرض ما
تفرزه الوقائع والتغيرات لفهم الأبعاد الإستراتيجية للأحداث والتغيير الذي
سيتبع هذه التحوّلات على الأرض.
الإيرانيون يديرون المعركة بمهارة عالية، وبقدر ما تحاول
الولايات المتحدة فتح جبهات عدة ضدهم يحقق الإيرانيون انقلاباً عليها،
ولذا -وحسب القاعدة المعتبرة في المواجهات- فإن خير وسيلة للدفاع هي
الهجوم، ولقد تعزز ذلك بعد حرب لبنان.
خلال الفترة الماضية صعّد الإيرانيون من تحديهم وتهديدهم،
وما كان يطلق بالأمس على أنها نماذج خطرة من السياسات والنفوذ تهدّد بها
إيران المجتمع الدولي حسب المصطلح الوهمي والمصالح الأمريكية حسب الواقع
والحقيقة، أصبحت إيران تتبناه اليوم، وتقول بصوت مرتفع: نعم أنا أشكل
تهديداً حقيقياً وقوياً لمصالحكم، تقدّموا إن أردتم التأكد.
ولقد شاهدنا سابقاً ارتباك الأوروبيين من رد الفعل الإيراني الذي أطلق إعلامياً وعسكرياً أمام الصاروخ الذي أنتجته طهران قبل مدة.
فرسالته المعنوية وتوقيتها كان هو الهدف المركزي للنظام
الرسمي في الخليج، وكان تعبيراً قوياً وواضحاً بأن تسامح العراق مع دول
المنطقة حين كانت حيزاً للهجوم على إيران لن يتسامح معه الإيرانيون،
وستدفع هذه الدول ضريبة هذه المشاركة وهي في مرمى النيران.
التصعيد الأخير هو في الجانب الإعلامي وعكسته تعليقات عدد
من الباحثين الإيرانيين ذوي الصلة المباشرة بدوائر صنع القرار في طهران؛
إذ خرج صوتهم موحداً في تعبير واضح عن أذرعة إيران في الخليج خصوصاً، أو
باقي العالم كما نص عدد من الباحثين من طهران في مداخلتهم الإعلامية، لقد
تم تأكيد هذه الحقيقة بأن هذه الأذرعة سوف تتحرك للمشاركة في هذه الحرب لو
أقدمت الولايات المتحدة على فعلتها، وهو خلاف ما تواطأ عليه الساسة
والإعلاميون الإيرانيون من نفي أي استخدام مباشر لتلك الأذرعة في
المواجهات السياسية بين طهران ودول الخليج والمصالح المرتبطة بواشنطن.
المتتبع للشأن الإيراني يرصد بوضوح ثقة الإيرانيين
باستمرار تقدمهم في العراق ومبادرتهم لحصد نتائج حرب لبنان وصمود المقاومة
لتجييرها لصالح مشروعهم التوسعي القائم على تسعير الروح الطائفية.
وطريقة تعاطيهم عبر رؤيتهم الإستراتيجية لا تعير اهتماماً
لحجم النزف والصراع بين العراقيين، وهناك اطمئنان عام بأن أوراق اللعبة
تمسك بها طهران بقوة بعد تهالك المشروع الأمريكي، وحتى ما ذهب إليه بعض
الباحثين من أن آثار هذا الوضع ربما أثّر على وحدة إيران الجغرافية بحكم
تعدد أقاليمها وهويتهم المتعددة، وخاصة حركة الثورة العربية في إقليم
الأحواز تحديداً لقوة المقاومة ووحدة أهالي الأحواز بطائفتيهما في مناهضة
الحكم المركزي لطهران، إلاّ أن سباق تعاطي طهران لملف الخليج إجمالاً يشير
بوضوح على أن إيران ليست قلقة مطلقاً على وحدتها الجغرافية، وهويتها
الأيدلوجية والسياسية، وهذا موضوع طويل نبحثه في وقت لاحق.
ولذا يعدّ الإيرانيون أنفسهم منتصرين سواء أقدمت الولايات
المتحدة على عمل عسكري سيبدو مكلفاً جداً لدول المنطقة بل ومصيرها الذي
ربما ألغى الحدود وأعاد رسمها في المنطقة.
أو نجحت –وكالعادة- في استثمار هذا التهديد في مكاسب
لطهران أو زيادة النفوذ للحركة الصفوية في الخليج، وبالتالي تكريس هذه
القوة المتزايدة لهذه الحركة وإعطائها مزيداً من القوة ترفع أوراق إيران
التفاوضية مستقبلاً، ولو واجهت طهران عملاً عسكرياً مباشراً من واشنطن فإن
خط الصعود للحركة الصفوية في الخليج يعزز قدرة طهران أكثر فأكثر .
وقراءة الدعوة السابقة للقائد العسكري الإيراني الجنرال
يحيى صفوي قائد الحرس الثوري تعيد نفسها بعد حرب لبنان حين خاطب واشنطن
بأن تسلم بالنفوذ الإيراني، وكان نصاً صريحاً يشير بوضوح إلى برنامج
المفاوضات الذي تريده طهران من موقع قوة، وليس كما يظن البعض من ضعف
تطبيقه على الأرض.
يصاحب هذا التفاوض تمدد قوي للحركة الصفوية في الخليج في
مناطق عدة بموافقة أمريكية واضحة، ودعم مباشر في بعض المواقع، ومع هذا
الخط المتصاعد سبق أن استضافت قناة العالم الإيرانية عدداً من مناضلي هذه
الحركة طرح فيه بصورة جلية أكدت غير مرة على أن موقف الحركة الصفوية في
هذه المنطقة أصبح يطرح بوضوح تسلم الدولة (إحدى دول مجلس التعاون)، وليس
المشاركة في حكمها فحسب، ويبدو أن هذه من أبرز التنازلات التي تسعى إيران
إلى انتزاعها على جدول الأعمال، وهي تطوّر ضخم لاقتسام النفوذ الذي تحدث
عنه الجنرال يحيى صفوي.
هذان الطرفان هما طرفا الصراع الرئيسان ذوا التأثير
المباشر على الأحداث ومعادلة الصراع، لكن هناك طرف آخر لا يعرف طرفا
المعادلة كيف تنقلب الصورة والأوضاع في الخليج لصالحه حسب بنائه الأيدلوجي
وشراسته في المواجهة، إذا دخل إلى ساحة الصراع، وهو يرى بأن هذه المنطقة
أيضاً هي ساحة المعركة الكبرى في مواجهته للولايات المتحدة، وهو تنظيم
القاعدة، ولو دخل في معركة الخليج القادمة فإن الأوراق سوف تُخلط بشدة،
وسيفتقد الساسة الرئيسون قدرتهم على توجيه بوصلة مصالحهم.
.http://albainah.net/index.aspx?function=Item&id=12606&lang=