لقد زاد الاهتمام في السنوات الاخيرة بدور القوات الجوية في الحروب والصراعات الحديثة نظرا لاهمية السيطرة الجوية في حسم المعارك دون التورط بقوات برية تكلف الدولة خسائر في الارواح والمعدات اضافة الى ازدياد النفقات وطول الوقت مقارنة بتدخلات الجوية ، وبناء على هذه الاستراتيجية اصبحنا نرى ان العديد من الحروب و الصراعات التي حصلت في العالم في الاونة الاخيرة تما حسمها فقط بضربات الجوية و الامثلة على ذالك كثيرة ومتنوعة حيث كانت البداية مع حرب الخليج الثانية حين كان التفوق الجوي التقني والعددي لقوات الحلفاء عاملا حاسما في سحق الجيش البري العراقي وتقدم الحلفاء دون خسائر كبيرة تذكر ، كما انا الصراع الذي جرى في يوغسلافيا سنة -1999 قام الناتو بحسمه وانهاءه بضربات الجوية فقط دون ان تدوس اقدام اي جندي من الناتو الاراضي الصربية.......لكن في الحرب الجورجية -الروسية الماضية -اغسطس-2008- نلاحظ ان النجاح الروسي في الحملة بعد خمسة ايام من العمليات المتواصلة في اوسيتيا الجنوبية يعود الفضل فيه الى للاجراءت الحاسمة من القوات المحمولة جوا والقوات البرية ، في حين لم يكون دور القوات الجوية الروسية في هذه الحملة فعالا ،وعانت من خسائر باهضة بالنسبة لحملة قصيرة جدا ،هذه النتائج السلبية لسلاح الجوي الروسي تعود الى عوامل الضعف في سلاح الجو الروسي من جهة والى حقيقة ان جورجيا قد نشرت في هذه الحملة وسائل دفاع جوي كثيفة ومتطورة نسبيا..
الخطوط العريضة للخطة جورجيا في أوسيتيا الجنوبية كانت تقتضي بتدمير السريع للقوات المسلحة الاوسيتية و دخول العاصمة تسخينفالي في أعقاب الفوضى الناجمة عن الهجوم السريع قبل ان يكون للجيش الروسي الوقت الكافي للرد.
وكانت نوايا تبليسي ضمن هذه الخطة هي ضرب مواقع قوات حفظ السلام الروسية والجيش الاوسيتي الجنوبي لتاثير عليها وشل سلسلة القيادة العسكرية في ليلة 7 و8 من اغسطس ، اما الهدف الثاني كان اخذ العاصمة الاوسيتية الجنوبية تسخينفالي في 8 اغسطس حيث كانت نية تبليسي تنصيب حكومة عميلة برئاسة Dmitry Sanakoyev رئيس الوزراء السابق لاوسيتيا الجنوبية الذي رفعه الرئيس الجورجي الى رتبة رئيس الوحدة الادارية المؤقتة في اوسيتيا الجنوبية ماي 2007 ثم الشروع في مظاهرات تقوم بها الكتلة الموالية لجورجية مع سكان الجيوب الجورجية.
في الواقع كانت لتبليسي فرص جيدة وظروف مواتية لتحقيق اغراضها السياسية والعسكرية في اوسيتيا الجنوبية ،حتى لو كان رد فعل موسكو على وجه السرعة <<كما كان الحال>> ،الى ان تعبئة القوات الروسية وتحريكها الى منطقة النزاع لم تكون سريعة بسبب الطبيعة الجغرافية الجبلية الوعرة للمنطقة .حيث كان على القوافل العسكرية الروسية في الواقع ان تمر عبر نفق Roki الجبلي الوعر ، مما ادى الى زيادة تباطؤ القوات الروسية في جورجيا من حيث القوة البشرية والقوة النارية.وهنا كان جديرا بسلاح الجو الروسي ان يتدخل نظرا لقدرته على توجيه ضربات سريعة في العمق الجورجي وتقديم الدعم الفوري لقوات حفظ السلام الروسي المحاصرة مع الميليشيات الأوسيتية ضعيفة. ومن الناحية العسكرية المثالية يقول الخبراء والمنظرين العسكريين ،انه كان الاحرى بطيران الروسي في هذه الظروف ان يقوم بتنظيف مواقع المدفعية وقاذفات الصواريخ في جورجيا قبل 8 أغسطس التي كانت تستهدف القوات الروسية المحاصرة والقيام بتدمير لواء المشاة الرابع الجورجي الذي دخل فعليا الى العاصمة تسخينفالي ومن ثم فك الحصار على القوات الروسية المحاصرة و كسر التقدم الجورجي في الاراضي الاوسيتية.
في الواقع الطيران الروسي حاول الوصول و تحقيق هذه الأهداف ، ولكن سرعان ما فقد ثلاثة طائرات هجوم من نوع - سو 25 اسقطتها المدفعية المضادة للطائرات في جورجيا. بعد هذه الحادثة يقول شهود عيان انه لم تحلق أي طائرة روسية فوق سماء تسخينفالي في 8 أغسطس وفي اليوم التالي ، أي خلال الفترة الاكثر حرجا من صراع ، وفي هذه الاثناء كانت قيادة القوات الروسية مضطرة لارسال وحداتها الالية الى المعركة من دون ان تحقق التفوق الجوي في العدد والقوة .
اما بالنسبة للقوات الجورجية الغازية فقد تمكنت من المحافظة على المبادرة التكتيكية في ضواحي تسخينفالي في يوم 9 أغسطس وحتى 10 أغسطس رغم عجزها عن مواصلة التقدم لاحتلال كامل العاصمة ، ولا يعود الفضل في كسر التقدم الجورجي نحو تسخينفالي للقوات الجوية الروسية ، وانما يعود الفضل في ذالك الى قوات حفظ السلام الروسية وبعض الجماعات الصغيرة الاوسيتية السيئية التنظيم والتسليح و التي قررت البقاء في عاصمتها لايقاف التقدم الجورجي ، وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك بين القوات الجورجية وقوات السلام الروسية على اشدها في تسخينفالي كانت القوات الرئيسية لاوسيتيا الجنوبية تتمركز في مخيم Java شمال تسخينفالي ، اما القوات الروسية الرئيسية فكانت لا تزال تواصل عبور نفق Roki ، وهنا يقول الخبراء العسكريين ان سبب انهزام الجورجين في تسخينفالي يعود لعدم جهوزيتهم النفسية لخوض حرب شوارع طويلة الامد.
ان عدم قدرة سلاح الجو الروسي على تقديم دعم فعال لاطلاق النار ضد القوات البرية الجورجية لا يعود فقط لقوة وكثافات الدفاعات الجوية الجورجية الغير المتوقعة ، بل هو نتيجة حتمية لانعدام التنسيق بين القوات البرية والجوية الروسية و افتقار الطيران الروسي للمعدات التكنولوجية الحديثة التي تدخل في تحديد الاهداف البرية . هذان القيدان المذكوران اعتبر بعد انتهاء الحرب من بين الدروس الرئيسية للصراع .كما جاء في تصريحات الجنرال فلاديمير شامانوف ، الرئيس التنفيذي لمركز تدريب القوات المسلحة العاملة في الشيشان خلال و1995-96 1999-2000.
وقد جاء في تصريحاته كذالك وهو يقول :<<
ان التكنولوجيا الغير كافية للطيران الروسي ونقص الإعدادت التكتيكية لم تكن على الأرجح العوامل الوحيدة التي أدت إلى ضعف أداء القوات الجوية الروسية.خلال الحملة بقدر ما يعود السبب الرئيسي الى نقل قوات الطيران التكتيكي المساند من القيادة البرية الى القيادة الجوية للجيش في 2003-04 والتي بتاكيد لعبت دورا أساسيا في ظهور سلاح الجو الروسي بهذا المستوى السيء>>.
بالاضافة الى ذالك فان سلاح الجو الروسي لم يستطيع ايضا ان يحقق التفوق الجوي الكامل فوق ارض المعركة ،حيث كانت الارتال و القوافل العسكرية الروسية تسير على الطرق الجبلية المتعرجة والضيقة وهي في عرضة تامة للغارات الجوية الجورجية ، كما انه لا يوجد اي دليل او تقرير يدل على أن المقاتلات الروسية قد قامت بحماية القوات الروسية المتقدمة ، بل ان العديد من التقارير التي تقول ان القاذفات التكتيكية الجورجية - سو 25 قد هاجمت الارتال الروسية اكثر من مرة وقد اشتباكت مع البطاريات الذاتية الحركة الجوية والصواريخ مضادة للطائرات والمحمولة عل الكتف التي قامت باسقاط جميع الطائرات الجورجية المهاجمة ، ويعود سبب انخفاض كفاءة الغارات الجوية الجورجية على القوات الروسية الى سوء تدريب الطيارين ونقص خبرتهم ، والتي برغم من ذالك فقد استمرت في محاولة الهجوم على القوات الروسية حتى 11 آب / أغسطس ، اي اليوم الاخير من الحرب ، والامر الذي لا يصدق تماما أن القوات الجوية الروسية لم تتمكن من إثبات التفوق الجوي تقريبا حتى نهاية هذه الحرب لمدة خمسة أيام على الرغم من عدم وجود مقاتلات جورجية في الجو.
وخلال هذا النزاع ، كشفت القوات الجوية الروسية عدم قدرتها على إزالة او تحيد الدفاعات الجوية للعدو ، ولكي نكون منصفين اكثر ، فإن القوات الجوية الروسية لم تواجه مثل هذه التهديدات من قبل في اي نزاع دخلته سابقا ، حيث كان للقوات الجورجية كتيبة واحدة على الأقل (اثنان وفقا لبعض المصادر) من منظومة الدفاع الجوي المتنقلة Buk - M1 (س 11) والحديثة نسبيا ، وعلى الأقل كتيبتين من النظم المتنقلة 8 Osa-Ak-SA-8B و 6 إلى 10 أوسا - AKM مطورة في اوكرانيا ، وكان الجيش الجورجي قادرا على نشر دفاعات مضادة للطائرات كثيفة نسبيا في منطقة الصراع بين جورجيا وبالقرب من مدينتي غوري وتبليسي ، وقد الحقت هذه الدفاعات خسائر كبيرة بطيران الحربي الروسية منذ الأيام الأولى للقتال ، الى ما يصل الى أربع طائرات قد تم اسقاطها فعليا من قبل الجورجين : قاذفة استراتيجية من طراز تى يو 22M3 وثلاثة قاذفات تكتيكية سو 25 ، في نهاية الصراع فقدت روسيا ما لا يقل عن سبع طائرات ، وربما أكثر من 10 إذا عددنا الطائرات التي عادت الى قواعدها في حالة لا يمكن اصلاحها.
وفي نهاية المطاف قامت قوات المشاة والقوات البرية الروسية بتدمير الدفاعات الجوية الجورجية ، بعد هزيمة وانهيار الجيش الجورجي في 11-12 أغسطس ، وقد صادرت القوات الروسية ما لا يقل عن ستة بطاريات دفاع جوي Buk - M1 ، و حوالي خمسة Osa-AK/AKM في حالة سليمة ، وهنا نجد انا أحد التفسيرات المحتملة لعدم قدرة الطيران الروسي تحقيق السيادة الجوية الكاملة وعجزه عن تدمير الدفاعات الجوية الجورجية يعود على الأرجح أن الطيارين الروس لم يكون مدربين بصورة جيدة لخوض هذا النوع من المعارك حيث انه لم يكن من الضروري خلال الحملة العسكرية في الشيشان تدريبهم على مواجهة الدفاعات الجوية ، بالاضافة الى ذالك فان القوات الجوية الروسية وجدت نفسها في مواجهة منظومة دفاع جوي ، أكثر تطورا من تلك التي واجهها طيارو الناتو فى العراق ، ويوغوسلافيا والتي تمثلت في (بطاريات - SA-6 و -SA-3 - قد فات اوانها) عكس المنظومة التي امتلاكتها جورجيا والتي تم تطوير معظمها على ايدي خبراء اوكرانيين واسرائيليين ، ورغم أن البطاريات المضادة قد سقطت في ايدي القوات الروسية ، الى أن القوات الجوية الروسية هي من نجحت في تدمير رادارات الدفاع الجوي الجورجي في 11 اغسطس .
وفي الاخير فان العمليات الوحيدة الت يمكن اعتبارها نجاحا للقوات الجوية الروسية ، هي الضربات الناجحة ضد القواعد العسكرية والمراكز الادارية ، ورغم ان الاضرار الناتجة عن هذه الضربات كانت صغيرة الى ان تاثيرها المعنوي على العدو كان كبيرا ، وكذالك من الواضح أن الاعتبارات السياسية قد حدت من نطاق القصف والعمليات الجوية في العمق الجورجي ، فروسيا على سبيل المثال ، لم تقوم بالهجوم على المطار الدولي في تبيليسي الذي استخدمته جورجيا لاعادة لواء المشاة الاول من العراق وكذالك لم تقوم باستهداف المرافىء البحرية الجورجية والتي كانت اهدافا سهلة نسبيا بالنسبة للقوات الجوية بل اكتفت بمحصرتها عن طريق القوات البحرية .
بوجه عام ، فان النزاع في اوسيتيا الجنوبية قد سلط الضوء على الحاجة العميقة لتحديث سلاح الجو الروسي ، إلى جانب الحصول على مقاتلات جديدة (ولا سيما متعددة المهام) والعمل على تحديث الأسطول الحالي بطائرات حديثة ولسيما ان المصانع الروسية قد عادت لريادة العالمية في مجال الطيران العسكري ، بالاضافة الى التركيز بشكل خاص على تدريب ورفع كفاءة الطيارين القتالية خصوصا في ما يتعلق بمهام وعمليات ازالة الدفاعات الجوية للعدو.