يرى المؤرخ اريك هوبزباوم المعروف في العالم العربي
(ثلاثيته: عصر الثورات، عصر الامبراطوريات، عصر رأس المال – واخيراً: عصر
التطرفات الذي اضيف الى الثلاثية) ان القرن العشرين ابتدأ متأخراً عام
1917 (بثورة اكتوبر الروسية) وانتتهى مبكراً عام 1991 بتفكك الاتحاد
السوفياتي ونهاية «الكتلة الاشتراكية».
بناء
عليه، فان القرن العشرين قرن قصير على نحو فاجع. وان القرن الحادي
والعشرين بدأ مبكراً جداً، على نحو فاجع أيضاً، بدأ بشكل عنيف، ومفتت.
ولعل أبرز المحاولات للتنظير لهذا القرن الجديد، المبكر، محاولة صامويل
هانتنغتون صاحب «صدام الحضارات» المعرفة تعريفاً ثقافياً – دينياً، وهي
محاولة «حربية» لفهم العالم. اما مواطنه ومجايله، فوكويوما، فيرى، على
العكس، الى آفاق إتساق العالم على قاعدة الليبرالية، المعرّفة بوصفها
اقتصاد سوق زائداً ديموقراطية سياسية مستقرة، مدنية.
في المدى القصير يبدو الاثنان مخطئين. فلا ليبرالية الاسواق المتسقة تبدو
مستقرة، ولا حروب الحضارات الدينية تبدو في الافق. ثمة شيء آخر مغاير. ثمة
انتقالات محتدمة، دامية، الى ليبرالية السوق، وثمة احترابات موضعية،
داخلية ذات امتداد كوني بسبب هذا الانتقال. وأول من أمسك بتلابيب هذه
الظاهرة هو المنظّرة الانكليزية، ماري كالدر، صاحبة كتاب الحروب القديمة
والجديدة. ونظريتها جد بسيطة، وجد معقدة.
الحرب، كما نعرفها حتى الآن، هي عنف تنظمه الدول، وتنظيم هذا العنف
واحتكاره، تطلب قروناً كي يخرج الى الوجود في هيئة دول قومية وجيوش
نظامية. وخضع هذا العنف، تدريجياً، الى نواظم عالمية: حماية المدنيين،
حقوق الاسرى، الحق بردّ العدوان، او حق الدفاع عن النفس، الخ. أما العنف
الجديد، او الحروب الجديدة، فحروب تختلط فيها القوات النظامية المنشقة،
بالجماعات السياسية المسلحة، بالجريمة المنظمة. والحروب الجديدة، برأيها،
تختلف عن سابقاتها في التنظيم، والغايات والاساليب، وهي محلية وكونية، ما
يستدعي حلاً كونياً ومحلياً في آن. وترفض ماري كالدر فكرة ان الحروب
الجديدة هي نتاج ثورة في التكنولوجيا (وسائل الاتصال وثورة المعلومات) بل
ترى انها ثورة في العلاقات الاجتماعية للحرب، رغم ان هذه العلاقات تتأثر
بالثورة التكنولوجية وتستخدمها. ويُلاحظ هنا ان الحروب الجديدة نشأت في
فراغ السلطة المميز للفترة الإنتقالية التي ابتدأت بنهاية الحرب الباردة.
هناك انهيار الايديولوجيات المستقبلية، وهناك تفكك الوحدات السياسية
الكبرى (الاتحاد السوفياتي)، وهناك انتهاء العزلة والانغلاق، (يوغوسلافيا،
الاتحاد السوفياتي مثلاً).
هذه «العوامل» هي نتاج العولمة التي شددت من تكامل العالم، لجهة التفاعل
والمعلومات، والتجانس، ولكنها شددت من تفتته وتنوعه، شاطرة اياه الى مزيج
من الكوني والمحلي. هذا الوضع الكوني انتج تآكل احتكار الدولة الاستخدام
وسائل العنف الشرعي – وجاء هذا التآكل من اعلى ومن اسفل، أي من العالم ومن
المجتمع المحلي. فعلى صعيد العالم ضعفت قدرة اية دولة على استخدام قوتها
المسلحة افرادياً، وبات تنظيم القوات المسلحة متعدد القوميات. ومن اسفل
تنمو ظاهرة خصخصة قوى الامن (بنسبة 2 : 1 لصالح الامن الخاص – انظر مثال
شركة بلاك ووتر في العراق).وبتآكل شرعية الدولة في مرحلة ما بعد الحرب
الباردة اندلع العنف الجديد، الحرب الجديدة مزيلاً الفواق بين البربرية
والمدنية، بين المحارب النظامي والمقاتل غير النظامي، بين رجل البوليس،
ورجل العصابات. ولا تقتصر هذه الظاهرة على آسيا وافريقيا، بل تمتد الى
اوروبا الغربية واميركا، وان تكن بدرجة أخف.
ما هي سمات وخصائص الحروب الجديدة؟ تقدم ماري كالدر لائحة مثيرة للاهتمام
وللجدل أيضاً. اعتمادا على مقارنة عدة حروب محلية معاصرة، يبرز عدد من
الافتراقات:
فأولاً الحرب الجديدة تدور حول سياسة «الهوية»، وليس لاسباب جيو- سياسة او
ايديولوجية، او اقليمية. ثمة في الحروب الجديدة انشقاق سياسي بين الروح
الكوزموبوليتة، العالمية، القائمة على قيم التعدد الثقافي، والروح المحلية
الجزئية، العصبوية. الاولى منفتحة، تتوخى المشاركة الشاملة، والثانية
اقصائية، تجزيئية، وهي تدور على المطالبة بالسلطة اعتماداً على هوية
محددة، سواء كانت هذه الهوية وطنية، قبلية، دينية، او لغوية. وتقوم
الهويات الجديدة على تمثلات مثالية للماضي، بنوع من اختراع جديد للذاكرة
والتراث، تعويضاً عن فشل او تآكل مصادر الشرعية السياسية الاخرى (فشل
الاشتراكية او فشل خطاب بناء الامة الواحدة عند جيل زعماء مرحلة
الاستقلال).
وسياسة الهوية التجزيئية هذه محلية وكونية، بفعل مهاجري الشتات، ووسائل الاتصال الحديثة الفعالة لجهة التعبئة والاعلان.
وثانياً تمتاز الحروب الجديدة باختلافها عن الحروب النظامية القديمة: حرب
الجبهات والمناورات، وعن حروب العصابات التي تتوخى الكسب السياسي للسكان
عبر كسب «العقول والقلوب». فالحرب الجديدة تتوخى زعزعة الاستقرار، وزرع
«الخوف والحقد»، والسيطرة على السكان عبر إزالة كل هوية مختلفة. فهي حرب
ضد «الغريب» وهي حرب ضد «المخالف» من داخل الجماعة نفسها. من هنا طرد
السكان والقتل الجماعي، والتهجير القسري. هي جزء من تقنيات الترهيب
السياسي الجديد. وافظع ما في ذلك ان العنف يتركز على المدنيين. وكان تناسب
الضحايا المدنيين والعسكريين هو: واحد من كل ثمانية في الحروب النظامية.
أما اليوم، في الحروب الجديدة، فثمة ثمانية ضحايا مدنيين مقابل كل عسكري.
وبات ضرب المدنيين والحصار، والتعذيب، والقتل الكيفي، وتدمير المعالم
الحضارية التاريخية، من المباحات، بل من العناصر الجديدة في الحروب
الجديدة. ويلاحظ وجود ميزة تنظمية جديدة: الحروب القديمة اعتمدت تشكيلات
عسكرية ذات تنظيم عمودي، أما وحدات الحروب الجديدة فهي زمر شتى تحوي وحدات
منشقة عن الجيوش، وزعماء ميليشيات ومرتزقة، ومافيات اجرامية، وقوات شرطة.
وهي ذات تنظيم لا مركزي، تنشط بمزيج من المواجهة والتعاون في ما بينها
سواء كانت تنتمي لمعسكر واحد، او كانت تنتمي لمعسكرات متحاربة، وتطور
وسائل الاتصال يسمح لها بالتنسيق الفائق عند الحاجة.
هناك ميزة ثالثة، اقتصادية. فاقتصاد الحرب القديمة كان يقوم على التنظيم
المركزي الوطني للموارد. أما اقتصاد الحرب الجديدة فهو نقيض ذلك. انه لا
مركزي تماماً، يغتذي على الموارد الخارجية، وعلى التمويل الذاتي بالنهب
والسلب، واحياناً السوق السوداء. ويعتمد هذا «الاقتصاد» على شبكات «ضرائب»
تجبى من مهاجري الشتات، والمتاجرة بالسلاح، وتهريب النفط والماس. ويغدو
الحفاظ على هذه الموارد بقوة السلاح هدفاً بذاته بحيث ينبني منطق الحرب في
وظيفة سير الاقتصاد نفسه. وينتشر هذا النوع من الاقتصاد عابرا الحدود بفصل
شبكات الجريمة المنظمة والاقليات الاثنية.
أخيراً فان استراتيجية المتناحرين تلتقي في هدف موحد هو زرع «الخوف
والحقد»، ما يعني انهم يتعاونون في خلق مناخ انعدام الأمن، وهناك فعلاً
حالات تعاون بين المتحاربين تحقيقاً لمآرب عسكرية واقتصادية. ويمكن اعتبار
الحروب الجديدة حروباً يتعاون ويتحد فيها دعاة سياسة الهوية الخاصة،
التجزيئية، لقمع قيم المدنية، والتعدد الثقافي، وهي بمعنى معين حروب بين
الخصوصية المنغلقة والكوزموبوليتية المفتوحة. ويترتب على ذلك ان
الأستراتيجيات العالمية لحل النزاعات محكومة بالفشل لانها تنطلق من مفاهيم
الحروب القديمة التي لا تنطبق تماماً على هذه الحروب الجديدة .