في الذكرى التاسعة عشرة لتوقيع اتفاقية الصلح بين إسرائيل والأردن، في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1994، تزداد أصوات الأردنيين المطالبين بإلغائها لارتدادها سلباً على الوضع الأردني، وعدم تحقيق ما وُعِد به الشعب الأردني من ثمار السلام، وهناك أصوات فلسطينية أيضاً تدعو لمراجعة الاتفاقية، لاسيما ما يتعلق بالقدس الشرقية التي تسقط عن المدينة في طياتها صفة الأرض الفلسطينية المحتلة.
يشار في مراجعة مسيرة المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، التي انطلقت في مدريد واتخذت مساراً مختلفاً في أوسلو، إلى أن الإعلان عن نجاح الضغوط الأمريكية على الجانب الأردني في التوصل إلى وثيقة أولية لتوقيع معاهدة صلح منفرد بين الأردن وإسرائيل، 25 تموز/يوليو 1994 ووقعت رسمياً بعد شهرين، توصف فيها الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بالأراضي الخاضعة للإدارة العسكرية الإسرائيلية، أحاط العملية التفاوضية بعلامات استفهام حول مدى رغبة إسرائيل والولايات المتحدة في الوصول إلى تسوية شاملة ومتوازنة، والمصير الذي ينتظر المسار التفاوضي الفلسطيني- الإسرائيلي في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة حينها برئاسة بيل كلينتون.
وانتزعت إسرائيل نقطة ثمينة في اتفاقية الصلح "وادي عربة" مع المملكة الأردنية، التي وقعها رسمياً الملك الأردني الراحل حسين ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق رابين في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1994، بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. حيث ورد في الفقرة الرابعة من الاتفاق أن "إسرائيل تحترم الدور الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في القدس، وعندما تبدأ مفاوضات الحل النهائي، فإن إسرائيل سوف تعطي أولوية عالية للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن المقدسة"، وبالإضافة إلى ذلك، اتفق الطرفان على العمل معاً لـ"تعزيز العلاقات بين "الأديان التوحيدية الثلاثة". والمكسب الإسرائيلي في هذا النص أنه يعالج قضية القدس من زاوية الاعتبارات (التاريخية) والدينية، وتحديد مسؤولية الأردن عن الأماكن الإسلامية المقدسة، بما لا يمس استمرار "السيطرة السيادية الإسرائيلية" عليها.
وبنت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على النص الوارد في اتفاقية الصلح مع الأردن، وحاولت واشنطن أن تسوق حلاً لقضية القدس، يكون على حد وصف المنسق الأمريكي السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط دينيس روس "بالسعي للتوفيق بين الاحتياجات الرمزية للفلسطينيين والاحتياجات الإسرائيلية العملية.. وبما يلبي الاحتياجات الرمزية الفلسطينية، فيما يستجيب للمخاوف الإسرائيلية الحقيقية والمشروعة بشأن الأمن..".
وتبلور هذا الفهم والمسعى الأمريكي في الاقتراحات التي تقدم بها الرئيس بيل كلينتون في مفاوضات كامب ديفيد 2 (تموز/ يوليو 2000)، فقد اقترح كلينتون حل قضية القدس ضمن التصور التالي: "كل ما هو عربي (المقصود الأحياء السكنية) يجب أن يكون فلسطينياً، وكل ما هو يهودي يجب أن يكون إسرائيلياً (المقصود المناطق التي استولت عليها إسرائيل بالاستيطان)، وينطبق ذلك على المدينة القديمة أيضاً، ويحدد الأطراف في الخرائط التي تضمن استمرارية اتصال الأراضي لهم. وهناك صيغتان للإقرار بالسيطرة الفعلية للفلسطينيين على الحرم الشريف، ومع احترام معتقدات الشعب اليهودي، وفي كلتا الصيغتين تكون هناك رقابة دولية لبث الثقة بين الطرفين:
الصيغة الأولى: سيادة الفلسطينيين على الحرم الشريف وسيادة إسرائيل على الحائط الغربي للحرم.
والصيغة الثانية: سيادة فلسطينية على الحرم الشريف، وسيادة إسرائيلية على الحائط الغربي إلى جانب سيادة عملية على موضوع الحفر تحت الحرم، أو خلف الحائط، وإنما يتم ذلك بموافقة مشتركة قبل بدء أية حفريات.. مع ضمان أن يقوم الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي بتطوير خرائط لتأمين الحد الأقصى من التواصل الجغرافي بين شطري القدس.
وبتحليل ما ذهب إليه كلينتون في اقتراحه ومطابقته مع الخارطة الجغرافية والديمغرافية للقدس بعد التوسيع وعمليات الاستيطان الإسرائيلي المكثف فيها، فإن ذلك يعني سيطرة إسرائيل على 86% من القدس الشرقية وجوارها في الضفة الفلسطينية، الذي ضمته إسرائيل إليها.
وبدل أن تضطلع اللجنة الرباعية الدولية بدورها في تصويب الخلل في المواقف الأمريكية من ملف القدس والحلول المقترحة له، عالجت "خطة خارطة الطريق الدولية" هذا الملف بمجموعة إشارات ركزت على البعد الديني للقدس، وأغفلت موضوع السيادة عليها، ووضعت الحل التفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين في حدود "أن يأخذ الحل التفاوضي بعين الاعتبار الاهتمامات السياسية والدينية للجانبين، ويصون المصالح الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين على صعيد العالم"، ولم تتطرق الخطة الدولية لقضية القدس في الإطار التفاوضي باعتبارها جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967. وهو ما عمّق الخلل في العملية التفاوضية، وشجع إسرائيل على تكثيف عمليات الاستيطان في القدس وجوارها، حتى وصل إلى 38 ضعفاً خلال العام 2008 بالمقارنة مع الفترة ذاتها في العام 2007. كما كثفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من عمليات نزع هويات المواطنين الفلسطينيين في القدس وهدم منازلهم وطردهم من المدينة.
ولم تخرج مواقف إدارة الرئيس بوش الابن من القدس عن حدود ما انتهت إليه إدارة الرئيس كلينتون في كامب ديفيد 2، بل ضغطت لتكريسه في "خطة خارطة الطريق الدولية"، ليصبح موقفاً دولياً.
وتراوح مواقف إدارة أوباما بين مواقف إدارتي كلينتون وبوش الابن، محاولة الدفع بقضية القدس الشرقية لجعلها قضية تفاوضية لاحقة، يجب من أجل نجاح المفاوضات القائمة وضع قضية القدس جانباً، والعمل على حل القضايا الأسهل نسبياً حسبما تدعي واشنطن، متجاهلة أن لا حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي دون حل قضية القدس، وأن العملية التفاوضية يجب أن يكون هدف منها تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع الفلسطيني-ـ الإسرائيلي بما فيها القرارات المتعلقة بالقدس، التي ينطبق عليها القراران 242 و338 باعتبارها أرضاً عربية محتلة في حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967. ويجب أن يكون ملف القدس حاضراً في كل مراحل المفاوضات، بصفتها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ينطبق عليها ما ينطبق على باقي هذه الأراضي، في الترتيبات الانتقالية، وفي ترتيبات الحل النهائي.
وهنا لا يمكن إنكار أن "اتفاقية وادي عربة" فتحت الباب أمام إمكانية تنازلات كبيرة في قضية القدس، فرغم أن ما اتفق عليه الجانبان الرسميان الأردني والإسرائيلي غير ملزم للجانب الفلسطيني، إلا أن الموقع المحوري الذي يحتله الأردن في الملف الفلسطيني يؤثر إلى حد بعيد في مجرى العملية التفاوضية، وما ورد في "اتفاقية وادي عربة" بشأن القدس يعد كافياً، بقصد أو دون قصد، لتشجيع الإسرائيليين على تكثيف عمليات الاستيطان في القدس الشرقية وجوارها.
وكان دينيس روس دقيقاً عندما عبر عن الفهمين الأميركي والإسرائيلي لما ورد في "اتفاقية وادي عربةط بخصوص الحل الممكن للقدس: (احتياجات رمزية للفلسطينيين واحتياجات إسرائيلية عملية..)، وهذا الفهم يدل على أحدى السلبيات الخطيرة لـ "اتفاقية وادي عربة"، لابد أنه يبدو معها من المفهوم ارتفاع أصوات فلسطينية إلى جانب أصوات أردنية تدعو إلى مراجعة الموقف من الاتفاقية ومضمونها.
(المقالة تعبر عن كاتبها وليس ناقلها)
http://anbamoscow.com/opinions/20131026/386775049.html