تعليق
في هذا الموضع يمارس الشيخ رحمه الله موهبته في ضرب شبهات الروافض بشبهات النواصب لتسقط الشبهتان ويبقي منهج أهل السنة المعتدل .
فهو يحرج الرافضة بأن جميع ما يقولونه في عثمان أو معاوية هو لازم لعلي ، لا مناص من ذلك .
وكما سبق : ليس هذا من قبيل التنقص ، ولكن من قبيل إسقاط شبهات الطرفين ، ليبقى أهل الوسط وهم أهل السنة ظاهرين .
الموضع العاشر : قال شيخ الإسلام :
( ثم يقال لهؤلاء الرافضة : لو قالت لكم النواصب : علي قد استحل دماء المسلمين ، وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله لعى رياسته . وقد الـنبي صلى الله عـلـيه وسـلم : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفـر " وقـال : " لا تـرجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " فيكون علي كافراً لذلك – لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم ، لأن الأحاديث التي احتجوا بها صحيحة .
وأيضاً فيقولون : قتل النفوس فساد ، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريداً للعلو في الأرض والفساد . وهذا حال فرعون . والله تعالى يقول : ( تلك الدار الأخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعقبة للمتقين ) ، فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة . وليس هذا كقتال الصديق للمرتدين ولمانعي الزكاة ، فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله ، لا على طاعته . فإن الزكاة فرض عليهم ،
فقاتلهم على الإقرار بها ، وعلى أدائها ، بخلاف من قاتل ليطاع هو).
( وفي الجملة فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به ، فلهذا كانوا مرتدين ، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين كمعاوية وأهل الشام ، فإن هؤلاء كانوا مقرين بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم : يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وقالوا : نحن نقوم بالواجبات من غير دخول في طاعة علي رضي الله عنه ، لما علينا في ذلك من الضرر ، فأين هؤلاء من هؤلاء ؟ )
تعليق
هذا الموضع – أيضاً – هو من قبيل التضييق على الروافض وأنهم إن طعنوا في أبي بكر – رضي الله عنه – بشبهات لا غية فسيوجد غيرهم من النواصب ممن يطعن في علي – رضي الله عنه – بشبهات أخرى لا غية ، فمهما ألصقوا بأبي بكر تهمة من التهم فسيندرج ذلك على علي أيضاً ولن يستطيعوا أن يدفعوا ذلك عنه إلا بأن يدفعوا شبهاتهم عن أبي بكر ، فهم في حرج وضيق يرتدعون معه عن التعرض لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى تعرض .
الموضع الحادي عشر : قال شيخ الإسلام :
( اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل ، وأنتم وغيركم تقولون : إن علياً تخلف عنها مدة . فيلزم على قولكم أن يكون علي مستكبراً عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماماً ، فيلزم حينئذ كفر علي بمقتضى حجتكم ، أو بطلانها في نفسها . وكفر علي باطل ، فلزم بطلانها )
تعليق
الروافض يزعمون أن معاوية – رضي الله عنه – قد استكبر عن طاعة علي رضي الله عنه ، فلهذا هو شر من إبليس الذي استكبر على آدم فيجيبهم شيخ الإسلام دافعاً هذه الفرية عن معاوية بأن هذا يلزم علياً كما يلزم معاوية ، فإن علياً قد تأخر عن مبايعة أبي بكر بالخلافة عدة أشهر فيلزم من هذا على قولكم أنه قد استكبر عن طاعته فيلزم من ذلك اللوازم الشنيعة التي ألزمتم بها معاوية .
فإذا لم تلتزموا ذلك ، فالحجة من أصلها باطلة ، فإذا بطلت في حق علي فهي باطلة في حق معاوية سواء بسواء ؟
فهذا الموضع يبين موهبة شيخ الإسلام في إفحام الخصوم وإحراجهم بالحجة المنعكسة التي تجعلهم يقولون : اللهم سلم ، سلم ؟
الموضع الثاني عشر : قال شيخ الإسلام :
( إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعلي ، والأحاديث التي ذكره هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور ، وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم ، هو من أبين الكذب على علماء الجمهور ، فإن هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة علي ولا على فضيلته على أبي بكر وعمر ، بل وليست من خصائصه ، بل هي فضائل شاركه فيها غيره ، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر ، فإن كثير منها خصائص لهما ، لا سيما فضائل أبي بكر ، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره .
وأما ما ذكره من المطاعن ، فلا يمكن أن يوجه على الخلفاء الثلاثه من مطعن إلا وجه على علي ما هو مثله أو أعظم منه .
فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل ، ونحن نبين ذلك تفصيلاً .
وأما قوله : " إنهم جعلوه إماماً لهم حيث نزهه المخالف والموافق ، وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته "
فيقال : هذا كذب بين ، فإن علياً رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون ، بل القادحون في علي طوائف متعددة ، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان ، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه ، فإن الخوارج متفقون على كفره ، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته ، بل هم – والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين – خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الإثنى عشرية ، الذين اعتقدوه إماماً معصوماً .
وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة ، والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما ، والمروانية الذين ينسبون علياً إلى الظلم ، ويقولون : إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم ن فكيف يقال مع هذا : إن علياً نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ؟
ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل ، وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفة ، وهم أعلم من الرافضة وأدين ، والرافضة عاجزون معهم علماً ويداً ، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم .
والذين قدحوا في علي رضي الله عنه وجعلوه كافراً وظالماً ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام ، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة ، كالغالية الذين يدعون إلهيته من النصيرية وغيرهم ، وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية ،وكالغالية الذين يدعون نبوته ، فإن هؤلاء مرتدون كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام ، فمن اعتقد في بشر الإلهية ، أو اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ، أو أنه لم يكن نبياً بل كان علي هو النبي دونه وإنما غلط جبريل ، فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة .
بخلاف من يكفر علياً ويلعنه من الخوارج ، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم ، فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه : يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ،ويصومون رمضان ، ويحجون البيت العتيق ، ويحرمون ما حرم الله ورسوله ، وليس فيهم كفر ظاهر ، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم ، وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام ، فكيف يدعى مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة ؟
بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون علياً ، وجد هؤلاء خيراً من أولئك من وجوه متعددة ، فالمنزهون لعثمان القادحون في علي أعظم وأدين وأفضل من المنزهين لعلي القادحين في عثمان كالزيدية مثلاً .
فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذموه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان ، ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته ، لم يكن في المتولين لــه من يقدر أن يقاوم المبغضين لــه من الخوارج والأموية والمروانية ، فإن هؤلاء طوائف كثيرة )
تعليق
في هذا الموضع يرد شيخ الإسلام على مقولة الرافضي بأن علياً قد نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الراشدين الثلاثة ، فبين رحمه الله أن علياً قد خالفه أقوام وظعنوا فيه ولم يتفقوا عليه كما يزعم الرافضي .
ثم عقد مقارنة بين الذين غلوا فيه وبين الذين طعنوا فيه ووضح أن الأخرين أفضل من ألأولين فمتابعتهم وتصديق شبهاتهم أولى من متابعة وتصديق الروافض ، ولكن الله نزه أهل السنة وحماها من سلوك مسلك الطائفتين ، فحفظت لعلي حقه وعرفت فضله ، فلم تغل فيه أو تجف عنه .
وتأمل – أخي القارئ – ما خط بالأسود في نهاية الموضع تجد أن شيخ الإسلام – بذكائه الواسع – قد أخبرنا بأن أهل السنة هم المدافعون حقاً عن علي رضي الله عنه أمام أعدائه ، بخلاف الروافض الذين سيعجزون عن مقاومة النواصب الشانئين له ، لأنه ما من مطعن للروافض على الخلفاء الثلاثة إلا واللنواصب أشد مه وأعظم في علي . أما أهل السنة فإنهم يترضون عن الجميع ويتعاملون كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
الموضع الثالث عشر قال شيخ الإسلام :
عن علي رضي الله عنه
وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر : هذا بإبراهيم وعيسى ، وهذا بنوح وموسى ، فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون ، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد ، فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي ، مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابة .
وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه ، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ، ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص .
وكذلك قوله : " لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال : فتطاولنا ، فقال : ادعوا لي علياً ، فأتاه وبه رمد ، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ، ففتح الله على يديه" وهذا الحديث أصح ما روي لعلي من الفضائل ، أخرجاه في الصحيحين من غير وجه . وليس هذا الوصف مختصاً بالأئمة ولا بعلي ، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي ، وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله ، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ولا يحبونه ، بل قد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .
لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم ، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك ، لكن هذا باطل ، فإن الله ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافراً )
( وكذلك حديث المباهلة شركه فيه فاطمة وحسن وحسين ، كما شركوه في حديث الكساء ، فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة ، بل يشركه فيه المرأة والصبي ، فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة ، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة ستع أو عشر ، والنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يكمل الحسين سبع سنين ، والحسن أكبر منه بنحو سنة ، وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من الأقربين : والنساء والأنفس ،فيدعو الواحد من أولئك : أبناؤه ونساءه ، وأخص الرجال به نسباً .
وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً ، وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده ، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه ، لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخص الناس به ، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه ، ولهذا خصهم في حديث الكساء .
والدعاء لهم والمباهلة مبناها على العدل ، فأولئك أيضاً يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبهم ، وهم يخافون عليهم مالا يخافون على الأجانب ، ولهذا امتنعوا عن المباهلة ، لعلمهم بأنه على الحق ، وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بهلة الله وعلى الأقربين إليهم ، بل قد يحذر الإنسان على ولده مالا يحذره على نفسه .
فإن قيل : فإذا كان ما صح م فضائل علي رضي الله عنه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ، وقوله : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " ، وقوله : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " ليس من خصائصه ، بل له فيه شركاء ، فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون لـه ذلك ، كما روى عن سعد وعن عمر ؟
فالجواب : أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطناً وظاهراً ، وإثباتاً لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له . وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه ، كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم " وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله ، ولهذا قتله واحد منهم ، وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي ، مع كونه كان من أعبد الناس .
وأهل العلم والسنة يحتاجون إلى إثبات إيمان علي وعدله ودينه للرد على هؤلاء ، أعظم مما يحتاجون إلى مناظرة الشيعة ، فإن هؤلاء أصدق وأدين ، والشبه التي يحتجون بها أعظم من الشبه التي تحتج بها الشيعة ، كما أن المسلمين يحتاجون في أمر المسيح صلوات الله وسلامه عليه إلى مناظرة اليهود والنصارى ، فيحتاجون أن ينفوا عنه ما يرميه به اليهود من أنه كاذب ولد زنا ، وإلى ما تدعيه النصارى من الإلهية ، وجدل اليهود أشد من جدل النصارى ، ولهم شبه لا يقدر النصارى أن يجيبوهم عنها ، وإنما يجيبهم عنها المسلمون ، كما أن للنواصب شبهاً لا يمكن الشيعة أن يجيبوا عنها ، وإنما يجيبهم عنها أهل السنة .
فهذه الأحاديث الصحيحة المثبتة لإيمان علي باطناً وظاهراً رد على هؤلاء ، وإن لم يكن ذلك من خصائصه ، كالنصوص الدالة على إيمان أهل بدر وبيعة الرضوان باطناً وظاهراً ، فإن فيها ردا على من ينازع في ذلك من الروافض والخوارج ، وإن لم يكن ما يستدل به من خصائص واحد منهم ، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة ، أو دعا له بدعاء ، أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير ، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه ).