بارتباك شديد وبلاهة أشد وتضارب مثير للشفقة في المواقف بين البيت الأبيض والخارجية الأمريكية والبنتاجون والكونجرس, يتعامل الأمريكيون هذه الأيام مع رد الفعل المصري العنيف بالاتجاه شرقا صوب روسيا نكاية في الصلف والاستعلاء, بل والخديعة, التي لم ير المصريون غيرها من الجانب الأمريكي طوال السنوات الثلاث الماضية. هذا الارتباك الأمريكي واضح من التصريحات والمواقف الصادرة من مؤسسات واشنطن المختلفة في الفترة الأخيرة بعد أن تسببت تصرفات أعضاء الكونجرس طوال الفترة الماضية, سواء عن جهل, أو عن معلومات مغلوطة أو ساذجة نقلتها لهم وسائل إعلام عالمية ومنظمات مرموقة عما يجري في مصر بعد30 يونيو, في فيضان كل المصريون من حديث الصباح والمساء عن قطع المعونة, ثم تعليق جزء منها, فقد أدي ذلك في النهاية إلي تبني القاهرة موقفا حادا بالإعلان عن عدم الاحتياج لهذه المعونة, بل وقروض صندوق النقد الدولي أيضا, طالما أن هذه المعونات والقروض مرتبطة بتدخلات وفرض شروط وتهديدات غير مقبولة.
وفي واقع الأمر, لم يكن أحد في واشنطن يتوقع رد الفعل المصري, ولكنه بعد أن أصبح الابتعاد التدريجي عن أمريكا أمرا واقعا, وبدأ الأمريكيون يسمعون دبيب أقدام الدب الروسي العملاق عند أبواب المنطقة كلها, وليس أبواب مصر وحدها, بدأ التخبط الأمريكي يتخذ شكلا غريبا, بل ويستدعي السخرية والشفقة.
فبعد أن كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مترددا في مواقفه بعد30 يونيو, وتردده في تفسير ذلك بأنه ثورة أم انقلاب, وقيامه بترديد تفسيرات أشبه بتلك التي تصدر عن الموظفين الحكوميين بشأن ضرورة الالتزام بالقوانين الأمريكية فيما يتعلق بالمساعدات الخارجية, وكأن أمريكا تلتزم بالقوانين أصلا, جاء كيري أيضا إلي مصر ليعلنها صراحة أن واشنطن مع إرادة الشعب المصري ومع خريطة المستقبل, ووصل الأمر بالرجل لدرجة أنه كان حريصا بشكل كبير خلال جولته في المنطقة علي التأكيد علي أن' الولايات المتحدة ستعمل مع الإمارات والسعودية علي ضمان دعم مصر اقتصاديا'!!.. كيف؟ لا أحد يعرف! هذا بالنسبة للخارجية الأمريكية, أما بالنسبة للبيت الأبيض فتصريحات جين بساكي المتحدثة باسمه عن الشأن المصري دائما ما تكون مسالمة ومحايدة للغاية بصورة تدعو للاستفزاز, مثل قولها قبل أيام إن واشنطن ترحب برفع الطوارئ وحظر التجول في مصر, ولكنها تحث الحكومة المصرية علي ضمان الأمن مع احترام حقوق كل المصريين في التظاهر السلمي, وهي جملة غير مفهومة بالمرة, وتدل علي أن السيدة ساكي لا تعرف شيئا مما يجري علي أرض مصر إلا من مصدر واحد!
أما وزارة الدفاع البنتاجون فموقفها يبدو أفضل نسبيا وأكثر تفهما لأهمية العلاقات العسكرية بين القاهرة وواشنطن, وهو ما اتضح من خلال التواصل المستمر بين وزير الدفاع تشاك هيجل وقيادات الجيش المصري, والتي اتضح من خلالها حرص الجانب الأمريكي علي عدم الإضرار بهذه العلاقات مهما كان الثمن, ومهما كانت التصريحات السخيفة التي تخرج بين الحين والآخر من أعضاء الكونجرس أو غيرهم, ولكن لوحظ التزام البنتاجون الصمت بعد زيارة وزير الدفاع الروسي للقاهرة, وما صاحبها من تقارير عن صفقات عسكرية محتملة بين مصر وروسيا.
أما الكونجرس فقد أصابه الموقف المصري بصدمة حقيقية, خاصة الصقر الجمهوري جون ماكين الذي أراد تبرئة نفسه من تهمة التسبب في إفساد العلاقات المصرية الأمريكية, فلجأ إلي توجيه اللوم لوزير الخارجية كيري, فوصفه بأنه صاحب أداء مخيب للآمال, قائلا إن صورة أمريكا هي الأسوأ الآن, وأن سياستها تجاه مصر غير موجودة, وأنه أي كيري مسئول عن تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة! ونسي ماكين ما فعله في القاهرة عند زيارته بعد ثورة30 يونيو عندما وصف ما حدث صراحة بأنه انقلاب, ومع ذلك عاد ليحمل كيري المسئولية عن الابتعاد المصري!
وإزاء هذا التخبط الأمريكي, الذي تتحمل مسئوليته تماما وسائل الإعلام التي تنقل معلومات ذات اتجاه واحد ومحدد عن حقيقة الموقف في مصر, تشير التوقعات إلي أن الإدارة الأمريكية ستتبني أحد ثلاثة خيارات: فإما أن تتصرف بطريقة أعضاء الكونجرس, أي بمواصلة النهج العدائي تجاه القاهرة, بل والإصرار عليه, بخاصة بعد التقارب المصري الروسي, وبعد دور مصر أيضا في منع مخطط ضرب سوريا والإضرار بمصالح شركات السلاح الأمريكية, وربما وصل الأمر إلي محاولة الضغط بأشكال اقتصادية وإعلامية مختلفة, أو الضرب تحت الحزام' عبر وسائل متعددة, أو أن تتصرف بطريقة الخارجية الأمريكية والبنتاجون فتحاول رأب الصدع سريعا في العلاقات مع القاهرة وحلفائها الغاضبين في المنطقة, وربما التفاهم مع روسيا نفسها علي أسس للتعامل مع دول المنطقة تشمل عدم التعدي علي الاختصاصات, أما الخيار الثالث, وهو الأسهل, أي أن تتصرف مثل البيت الأبيض, أي بالإدلاء بمزيد من التصريحات الساذجة التي تهدف إلي إمساك العصا من المنتصف إلي أن يجد جديد علي أرض الواقع في مصر.
وأيا كان الخيار الذي ستلجأ إليه أمريكا, فإنها ستظل لفترة غير مدركة أنها خسرت كل شيء, وأن مصر وجيرانها والروس مستفيدون تماما من ابتعادها, أو بالأحري إبعادها, وعندما تكتشف الحقيقة المؤلمة, ستكون أوراق اللعبة كلها قد تغيرت تماما, وللأبد, ووقتها سيكون السبب في ذلك: خارجية مترددة, وكونجرس عدائي, وبيت أبيض!
مصدر
http://www.ahram.org.eg/News/1010/2/243738/%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B5%D9%81%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D9%85%D8%B9-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%E2%80%8F%E2%80%8F--%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85.aspx