تسعى الولايات المتحدة للخروج من احتلالها لأفغانستان بمكسب إستراتيجي، تنتزعه من خلال التوقيع على اتفاقية أمنية ثنائية مع الحكومة الأفغانية، تضمن بقاء جزء من قوات الاحتلال الأميركي لعشر سنوات قادمة قابلة للتجديد، مع إعطاء حق حصري لواشنطن في محاكمة الجنود الأميركيين الذين يرتكبون جرائم حرب على الأراضي الأفغانية، وهو ما رفضته الحكومة العراقية في اتفاقية مشابهة وقعت مع إدارة بوش الابن.
تمهيداً لانسحاب قوات الناتو من أفغانستان، نهاية العام القادم، تضغط الإدارة الأميركية على الرئيس حامد كرزاي للتوقيع على الاتفاقية الأمنية بين البلدين، التي أقرها مجلس "اللويا جيرغا" -مجلس زعماء القبائل والأقليات العرقية والدينية الأفغاني- وتقضي ببقاء عشرة آلاف جندي أميركي في أفغانستان، والعدد قابل للزيادة إلى خمسة عشر ألفاً، وسيمنح الجنود الأميركيون الذين سيبقون في قواعد عسكرية، حصانة قضائية تمنع محاكمتهم أمام محاكم أفغانية أو دولية في حال ارتكابهم لجرائم حرب، ويمكن محاكمتهم فقط أمام محاكم أميركية وفق القانون الأميركي.
ويعدُّ تصديق مجلس "اللويا جيرغا" الأفغاني على نص الاتفاقية المقترح من جانب واشنطن بمثابة بطاقة مرور لها، رغم مماطلة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في التوقيع عليها، ومطالبته بأن يتم ذلك بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في نيسان/أبريل القادم.
التبريرات التي استند إليها مجلس "اللويا جيرغا" في موافقته على الاتفاقية غير المتوازنة طغى عليها الخوف من عودة حركة "طالبان" إلى الحكم، في ظل ضعف مؤسسة الجيش وأجهزة الأمن الأفغانية، وحالة عدم الاستقرار والانفلات الأمني، والصراعات والمخاوف المتبادلة بين القوى السياسية والقبلية والعرقية الأفغانية، التي تخشى من تصاعد الصراعات فيما بينها على السلطة، بعد انسحاب قوات (الناتو) نهاية العام القادم.
وتفضح تلك المخاوف فشل الولايات المتحدة، وحلفائها في حلف (الناتو)، في أعادة الأمن والاستقرار لأفغانستان، من خلال إنجاز عملية سياسية تفضي إلى مصالحة وطنية تثبت أسس دولة قادرة وديمقراطية في هذا البلد. ومن هذه الزاوية يحاول الرئيس كرزاي أن يوظف تسويف التوقيع على الاتفاق لإلزام واشنطن وحلفائها بالمساعدة على إنجاح الانتخابات الرئاسية ربيع عام 2014، والتي لن يكون كرزاي نفسه مرشحاً فيها. كما أن كرزاي لا يريد على ما يبدو أن يسجل على نفسه التوقيع على اتفاقية غير متوازنة، رغم أنه سوّق لها وحث أعضاء مجلس "اللويا جيرغا" على المصادفة عليها، فكرزاي يدرك جيداً أن توقيعه على الاتفاقية سيكون أكبر علامة سوداء في سجله السياسي، وسيعدم حظوظه مستقبلاً في لعب أي دور سياسي متقدم.
ومما لاشك فيه، أن إعطاء حصانة قضائية للجنود الأميركيين يشكل لغماً سيفجر الاتفاقية الأمنية المشتركة مع الولايات المتحدة في وجه الرئيس الجديد والحكومة القادمة في أفغانستان، فالولايات المتحدة لم تلتزم بوقف تجاوزات جنودها التي وصل بعضها إلى جرائم حرب ضد المدنيين الأفغان، بل ونفت مستشارة أوباما للأمن القومي سوزان رايس أن تكون الولايات المتحدة في وارد تقديم اعتذار لأفغانستان عن "الأخطاء" التي ارتكبتها هناك، أو الآلام التي سببتها للمدنيين الأفغان، وهو ما نفاه أيضاً وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وذلك في رد على تصريح سابق للمتحدث باسم الرئيس كرزاي، قال فيه: إن الرئيس أوباما سيقدم رسالة اعتذار للشعب الأفغاني، بعد موافقة مجلس "اللويا جيرغا" على الاتفاقية.
وبهذا نجح الأميركيون في فرض شرط نصت عليه الاتفاقية الأمنية المشتركة مع أفغانستان، فشلوا سابقاً في فرض شرط مماثل له في الاتفاقية الأمنية مع العراق. وللتذكير واجهت الكتل السياسية والحزبية والمرجعيات العشائرية والطائفية والمذهبية في العراق حالة مشابهة للحالة الأفغانية في الموقف من انسحاب قوات الاحتلال الأميركي.
ففي أيار/مايو 2008 أثار قرار الكونغرس الأميركي غير الملزم بسحب القوات الأمريكية من العراق نهاية العام 2009، زوبعة تراوحت فيها ردود فعل الكتل والأحزاب السياسية العراقية ما بين ترحيب أو تحفظ أو وإبداء القلق من مفاعيل الانسحاب وعواقبه على العملية السياسية، كل حسب موقعها أو موقعه في الطيف البانورامي للخارطة الحزبية- السياسية وحجم النفوذ في مؤسسات نظام الحكم، والحسابات الخاصة. وقوبلت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي (حينذاك) في زيارتها المفاجئة للعراق بهذه المواقف المتناقضة.
الائتلاف العراقي الموحد (المجلس الأعلى وحزب الدعوة) رحب بالقرار الأميركي وأثنى عليه، واعتبره "خطوة في الاتجاه الصحيح"، في حين تحفظت عليه "جبهة التوافق" و"القائمة العراقية"، ورفضه الحزبان الكرديان الرئيسيان "الديمقراطي" والوطني"، اللذان اعتبرا أن قرار الكونغرس الأميركي وخاطئ من حيث المبدأ، ولا يجب أن يرى طريقه للنور في الموعد المحدد.
الرافضون والمتحفظون (حينها) على قرار الانسحاب رأوا في القرار تفريطاً بالمصالح الأميركية في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، وتسليم العراق لقوى طائفية وقومية متطرفة توجه من بعض دول الجوار. أما الأغلبية الشعبية المغيب صوتها في العراق فلم تأبه للقرار الأميركي، الذي نظرت إليه في ذلك الوقت باعتباره لا يغير شيئاً من الواقع في العراق، ولا يخفف من المجازر اليومية التي ترتكبها قوات الاحتلال الأميركي، ولا يشكل حافزاً للكتل الحزبية المهيمنة لتصويب أساليب عملها، والإقلاع عن ممارساتها الفئوية، التي شوهت عملية المصالحة الوطنية العراقية، وحرفتها عن مسارها المفترض. بإدارتها للأزمة في النظام السياسي العراقي من منظور أمني، في وقت كان يسير فيه العراق في خط بياني سريع نحو الكارثة. وباستثناء الحملات الأمنية لم تكن حينها الحكومة العراقية تمتلك أي سيناريو بديل، ولا حتى فريق عمل يدير الأزمة بما يمنع انتشارها، ويضع برامج للسيطرة عليها.
لكن الحكومة العراقية لم تستطع تمرير الاتفاقية الأمنية المشتركة مع الولايات المتحدة إلا بعد إجراء تعديلات على النص الذي اقترحته واشنطن، فرضها الحراك الشعبي الواسع ضد مسودة الاتفاقية، واضطرت الإدارة الأميركية لتقديم مسودة معدلة، قلصت في بنودها المعلنة من سقف مطالبها التي كانت تمنحها لها المسودة القديمة، من حيث حرية الحركة واستخدام الأراضي والأجواء والمياه الإقليمية العراقية، وصلاحيات تنفيذ اعتقالات بحق من تصنفهم قيادة القوات الأميركية بـ"مشبوهين أمنياً" أو "يمارسون أعمالاً إرهابية" تمس أمن العراق، أو أمن الولايات المتحدة. وتم فيها أيضاً التنازل عن طلب منح حصانة للشركات الأمنية الأجنبية الخاصة العاملة في العراق بعقود مع قوات الاحتلال ووزارتي الخارجية الأميركية والبريطانية. لكنها أبقت على حصانة القوات الأميركية وأفرادها وعدم خضوعهم للقوانين العراقية في أي جرائم ترتكب من قبلهم أثناء خدمتهم في العراق، وأدى فشلها في فرض البند الأخير إلى اتخاذ قرار بسحب كل القوات الأميركية.
لغم فجر الاتفاق على بقاء جزء من القوات الأميركية في العراق، بينما لم يتوقف عنده مجلس "اللويا جيرغا" الأفغاني مكرهاً، لكن الاتفاق سيصبح على موعد مع الانفجار أمام أول تجاوز ترتكبه القوات الأميركية، التي لم يعد قادتها بمراجعة التجاوزات السابقة ومنع تجاوزات مشابهة في المستقبل.
http://anbamoscow.com/opinions/20131202/387769383.html