قوله ( سيد الاستغفار )
قال الطيبي : لما كان هذا الدعاء جامعا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم
السيد , وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج , ويرجع إليه في الأمور .
قوله ( أن يقول )
أي العبد , وثبت في رواية أحمد والنسائي " إن سيد الاستغفار أن يقول العبد "
وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد " ألا أدلك على سيد الاستغفار "
وفي حديث جابر عند النسائي " تعلموا سيد الاستغفار " .
قوله
( لا إله إلا أنت خلقتني )
كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت , وسقطت الثانية من معظم الروايات , ووقع عند
الطبراني من حديث أبي أمامة " من قال حين يصبح : اللهم لك الحمد لا إله إلا
أنت " والباقي نحو حديث شداد وزاد فيه " آمنت لك مخلصا لك ديني " .
قوله
( وأنا عبدك )
قال الطيبي : يجوز أن تكون مؤكدة , ويجوز أن تكون مقدرة , أي أنا عابد لك ,
ويؤيده عطف قوله " وأنا على عهدك " .
قوله
( وأنا على عهدك )
سقطت الواو في رواية النسائي , قال الخطابي : يريد أنا على ما عهدتك عليه
وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك . ويحتمل أن يريد
أنا مقيم على ما عهدت إلي من أمرك ومتمسك به ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر .
واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من
حقه تعالى . وقال ابن بطال : قوله " وأنا على عهدك ووعدك " يريد العهد الذي
أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية . وبالوعد ما قال على لسان نبيه "
إن من مات لا يشرك بالله شيئا وأدى ما افترض عليه أن يدخله الجنة " . قلت :
وقوله وأدى ما افترض عليه زيادة ليست بشرط في هذا المقام لأنه جعل المراد
بالعهد الميثاق المأخوذ في عالم الذر وهو التوحيد خاصة , فالوعد هو إدخال من
مات على ذلك الجنة .
قال وفي قوله " ما استطعت "
إعلام لأمته أن أحدا لا يقدر على الإتيان بجميع ما يجب عليه لله . ولا
الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم , فرفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك
إلا وسعهم . وقال الطيبي : يحتمل أن يراد بالعهد والوعد ما في الآية المذكورة
, كذا قال : والتفريق بين العهد والوعد أوضح .
قوله ( أبوء لك بنعمتك علي )
سقط لفظ لك من رواية النسائي , وأبوء بالموحدة والهمز ممدود معناه أعترف .
ووقع في رواية عثمان بن ربيعة عن شداد " وأعترف بذنوبي " وأصله البواء ومعناه
اللزوم , ومنه بوأه الله منزلا إذا أسكنه فكأنه ألزمه به .
قوله ( وأبوء لك بذنبي )
أي أعترف أيضا , وقيل معناه أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عني . وقال الطيبي :
اعترف أولا بأنه أنعم عليه , ولم يقيده لأنه يشمل أنواع الإنعام , ثم اعترف
بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها , ثم بالغ فعده ذنبا مبالغة في التقصير
وهضم النفس . قلت : ويحتمل أن يكون قوله " أبوء لك بذنبي " أعترف بوقوع الذنب
مطلقا ليصح الاستغفار منه , لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبا.
قوله ( فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )
يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له , وقد وقع صريحا في حديث الإفك الطويل
وفيه " العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه " .
قوله ( من قالها موقنا بها )
أي مخلصا من قلبه مصدقا بثوابها , وقال الداودي يحتمل أن يكون هذا من قوله
إن الحسنات يذهبن السيئات ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء وغيره
; لأنه بشر بالثواب ثم بشر بأفضل منه فثبت الأول وما زيد عليه , وليس يبشر
بالشيء ثم يبشر بأقل منه مع ارتفاع الأول , ويحتمل أن يكون ذلك ناسخا وأن
يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما يغفر له به ذنوبه , أو يكون ما فعله
من الوضوء وغيره لم ينتقل منه بوجه ما , والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء .
كذا حكاه ابن التين عنه , وبعضه يحتاج إلى تأمل .
قوله ( ومن قالها من النهار )
في رواية النسائي " فإن قالها حين يصبح " وفي رواية عثمان بن ربيعة " لا
يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح , أو حين يصبح فيأتي عليه
قدر قبل أن يمسي " .
قوله ( فهو من أهل الجنة )
في رواية النسائي " دخل الجنة " وفي رواية عثمان بن ربيعة " إلا وجبت له
الجنة " قال ابن أبي جمرة : جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من بديع
المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أنه يسمى سيد الاستغفار , ففيه الإقرار لله
وحده بالإلهية والعبودية , والاعتراف بأنه الخالق , والإقرار بالعهد الذي
أخذه عليه , والرجاء بما وعده به , والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه ,
وإضافة النعماء إلى موجدها , وإضافة الذنب إلى نفسه , ورغبته في المغفرة ,
واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو , وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع
بين الشريعة والحقيقة , فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون
من الله تعالى . وهذا القدر الذي يكنى عنه بالحقيقة . فلو اتفق أن العبد خالف
حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة لم يبق إلا أحد
أمرين : إما العقوبة بمقتضى العدل أو العفو بمقتضى الفضل , انتهى ملخصا .
أيضا : من شروط الاستغفار صحة النية , والتوجه والأدب , فلو أن أحدا حصل
الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل
بالشروط هل يستويان ؟ فالجواب أن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد
الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة , والله أعلم .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - :في قوله عليه السلام :
سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت".
قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيّد
الاستغفار ، فإنه صدره باعتراف العبد بربوبية الله ، ثم ثناها بتوحيد الإلهية
بقوله : (( لا إله إلا أنت )). ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وأوجده
ولم يكن شيئا ، فهو حقيق بأن يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة ذنوبه ، كما
ابتدأ الإحسان إليه بخلقه .
ثم قال : " وأنا عبدك " اعترف له بالعبودية.
فإن الله تعالى خلق ابن آدم لنفسه ولعبادته ، كما جاء في بعض الآثار :
(( يقول الله تعالى : ابن آدم ! خلقتك لنفسي ، وخلقت كل شيء لأجلك ، فبحقي عليك لا تشتغل
بما خلقته لك عما خلقتك له )) وفي أثر آخر :
(( ابن آدم ! خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب. ابن آدم ! اطلبني تجدني ،
فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء )).
فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته والإنابة إليه
والتوكل عليه ، فقد أبق من سيده ، فإذا تاب إليه ورجع إليه فقد راجع ما يحبه
الله منه ، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يخبر عن
الله :(( لله أشد فرحا بتوبة عبده من واجد راحلته عليها طعامه وشرابه بعد يأسه منها في الأرض المهلكة
، وهو سبحانه هو الذي وفقه لها ، وهو الذي ردها إليه )).
وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان ، وحقيق بمن هذا شأنه أن لا يكون شيء
أحب إلى العبد منه.
ثم قال : وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"
فالله سبحانه وتعالى عهد إلى عباده عهدا أمرهم فيه ونهاهم ، ووعدهم على
وفائهم بعهده أن يثيبهم بأعلى المثوبات ، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله
إليه وتصديقه بوعده. أي أنا مقيم على عهدك مصدق بوعدك. وهذا المعنى قد ذكره
النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله : (( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له
ما تقدم من ذنبه )). والفعل إيمانا هو العهد الذي عهده إلى عباده ، والاحتساب
هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك ، وهذا لا يليق إلا مع التصديق بوعده. وقوله
(( إيمانا واحتسابا )) منصوب على المفعول له ، إنما يحمله على ذلك إيمانه بأن
الله شرع ذلك وأوجبه ورضيه وأمر به ، واحتسابه ثوابه عند الله ، أي يفعله
خالصا يرجو ثوابه.
وقوله :" ما استطعت "
أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي ، لا بحسب ما ينبغي لك وتستحقه علي. وفيه
دليل على إثبات قوة العبد واستطاعته ، وأنه غير مجبور على ذلك ، بل له
استطاعة هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب. ففيه رد على القدرية المجبرة
الذين يقولون : إن العبد لا قدرة له ولا استطاعة ، ولا فعل له البتة ، وإنما
يعاقبه الله على فعله هو ، لا على فعل العبد. وفيه رد على طوائف المجوسية
وغيرهم. ثم قال :
" أعوذ بك من شر ما صنعت "
فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن به والهروب إليه من المستعاذ منه ،
كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد
وكسبه ، وأن الشر مضاف إلى فعله هو ، لا إلى ربه ، فقال : (( أعوذ بك من شر
ما صنعت )). فالشر إنما هو من العبد ، وأما الرب فله الأسماء الحسنى ، وكل
أوصافه صفات كمال ، وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد هذا قوله عليه السلام : ((
والشر ليس إليك )) في الحديث الذي رواه مسلم في دعاء الاستفتاح.
ثم قال :" أبوء لك بنعمتك علي "
أي أعترف بأمر كذا ، أي أقر به ، أي فأنا معترف لك بإنعامك علي ، وإني أنا
المذنب ، فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك على نعمتك ، وأنت أهل لأن
تحمد وأستغفرك لذنوبي. ولذا قال بعض العارفين : ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه
كلها نفسين : نفسا يحمد فيه ربه ، ونفسا يستغفره من ذنبه. ومن هذا حكاية
الحسن مع الشاب الذي كان يجلس في المسجد وحده ولا يجلس إليه ، فمر به يوما
فقال : ما بالك لا تجالسنا ؟ فقال : إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي
حمدا ، وبين ذنب مني يستوجب استغفارا ، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن
مجالستك. فقال : أنت أفقه عندي من الحسن. ومتى شهد العبد هذين الأمرين
استقامت له العبودية ، وترقى في درجات المعرفة والإيمان ، وتصاغرت إليه نفسه
، وتواضع لربه ، وهذا هو كمال العبودية ، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة
العمل. والله الموفق الهادي ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم ، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين ، وحسبنا الله
ونعم الوكيل.