الاقتصاد
الزّراعةلم يهمل الفينيقيّون أيًا من مواردهم الاقتصاديّة، فقد أنبتوا في أرضهم كلّ ما كان بإمكانها أن تعطيهم. ونوّعوا من الصّناعات حتّى لا يشتروا من الخارج. لكنّهم اهتمّوا بالتّجارة لأنّها المورد الأساسي.
معطيات الطّبيعةلم يكفِ سكّان فينيقيا ما كانت تُنتجه أرضهم من غلال. لا لأنّهم أهملوا الزّراعة، بل لآنّ مساحات البلاد ضيّقة. ففينيقيا ساحل مستطيل، تتعاقب على شواطئه السّهول الرّسوبيّة والرّؤوس الصّخريّة.
وتغطّي الغابات جباله فلا تترك للزّراعة إلاّ قدرًا ضئيلاً من السّفوح المطلّة على المتوسّط. وتتوزّع
المزروعات في منطقتين: سهليّة تغلب فيها الخضار والحبوب والنّخيل، وجبليّة تغلب فيها الكرمة
والزّيتون. ولم يوفّر الفينيقيّون أيّ مساحة، من أيّ سعةٍ كانت، دون زراعة. لذا جدّوا في تمهيد الجلول منعًا لانجراف الأتربة مع الأمطار والسّيول.
طرق الإنتاجواعتمدوا في الحراثة على سكّة خشبيّة مجوّفة، تتّسع للبذار. تجرّها الثّيران أو الحمير أو الإنسان إذا لزم الأمر. وحصدوا السّنابل بمنجل بدائيّة مربوطة إلى حجر. ودرسوا الحنطة على البيادر تحت النّورج. وذرّوها على طبقٍ أو بالمذراة. وجمعوها في أكوارٍ لفصل الشّتاء.
الإنتاجواشتهرت خمور فينيقيا في الخارج. وقرطاجة بنت صور باعت خمورها اللّذيذة من روما. واستبدل الفينيقيّون أغراس الزّيتون البرّي أغراسًا جديدة من الخارج. فاستعاضوا بإنتاجهم عن الاستيراد. وافتنّوا في زراعة الرّمّان، ونقلوها إلى قرطاجة. وذاع صيت بعض الكتب الزّراعيّة في قرطاجة فنقلت إلى اللاّتينيّة.
الغاباتوكانت سببًا في إثارة أطماع جيران فينيقيا بها. وقد غطّت كلّ الجبل حتّى بدت معينًا لا يشحّ. فأسرف الفينيقيّون في قطعها. ومصر كانت أوّل من اتّجر مع جبيل من أجل أخشابها، حتّى إذا
تضاءلت إمكانات تصدير الأخشاب من جبيل أفل نجمها. ولمّا دانت فينيقيا لسلطة الآشوريّين والكلدانيّين والفرس، باهى هؤلاء ببناء قصورهم من خشب الأرز في لبنان. وكثيرًا ما فرضت الضّريبة على فينيقيا خشباً.
الصّناعة الصّباغ الأرجوانياحتكرت صناعته صور وصيدون. وهو كناية عن صدف طبيعي، منشأه صدف "الموريكس". تكاثر على شواطئ فينيقيا. فجمعوا منه كميّات ضخمة حتّى غدا نادرًا اليوم. والصّدف بعد انتزاعه عن
الشّاطئ، يَنْضح منه سائلٌ أصفر تُلوّن به الأنسجة. حتّى إذا جفّ النّسيج المصبوغ استحال لونه بنفسجيًّا. وازداد رونقًا كلّما تعرّض للنّور. وافتنّ الفينيقيّون في جعله قاتمًا أو زاهيًا. ويتّضح من ذلك
أنّ الصّباغ لم يكن أرجوانيًّا بل بنفسجيًّا إنّما الدّعاية صوّرته أحمر قرمزيًّا. وقد تشهد مصانع الأرجوان بالقرب من مدينتي صيدون وصور. وتشهد على ذلك تلول صدف الموريكس الباقية حتّى
الآن جنوبي صيدا. ولمّا كانت الرّائحة المنبعثة منه كريهة، اهتمّ الفينيقيّون بإقامة المصانع خارج نطاق المدينة. وطوّروا صناعته حتّى قضوا على المضاربة الإيجيّة، بعد أن كانت متفوّقة في أواخر الألف الثّاني قبل الميلاد.
المصنوعات المعدنيّةمن بين المواد الأوّليّة المعدنيّة نذكر القصدير والنّحاس والحديد والذّهب. والقصدير استقدموه في البدء من آسيا، من بلاد عيلام، ومن آسيا الصّغرى. ولمّا برعوا في الملاحة أتوا به من "أتْرَوْرِيَا"
في إيطاليا اليوم، ومن أسبانيا، وانتهى بهم المطاف إلى جنوبي إنكلترا (بلاد الكورنواي). والنّحاس استوردوه من جبال أمانوس، والحديد استخرجوه محليًّا. وكفاهم من هذه المعادن كميّات ضئيلة
نظرًا للاستعمال المحدود، لتأمين حاجاتهم من السّلاح والأواني والتّماثيل والكؤوس والنّقود، الّتي تحمل سكّتها رسم مركب فينيقي، أمّا الذّهب فقد خصّوا به الحليّ وما شابهها من الكماليّات.
الزّجاج والعاجلم يبتكر الفينيقيّون طريقة صناعة الزّجاج، بل أخذوه عن المصريّين. ولكنّهم جعلوه شفّافًا، ونوّعوا من أصنافه. فصنعوا منه الكؤوس والقناني وقوارير الطّيب. وافتنّت كلٌّ من صور وصيدون في
تلوينه. فأخرجتا منه الأبيض والأصفر والأحمر والأزرق. وجعلتا من صناعته فنًّا حتّى وصل الاعتداد لديهم إلى توقيع أسمائهم على منتجاتهم الزّجاجيّة (من أمثال جَاسُون وأرْتَاس) وقد غدت
الأقراط والأساور والخواتم والعقود مرصّعة بأحجار زجاجيّة، شديدة الشّبه بالحجارة الكريمة. والكؤوس الزّجاجيّة الفينيقيّة كان غالبًا جوائز للفائزين في المباريات الرّياضيّة والجسمانيّة لدى الإغريق. والإلياذة غنيّة بالشّواهد على ذلك. أمّا العاج، وهو مادّة غريبة عن فينيقيا، فقد استُقدِم من
الهند عن طريق ما بين النّهرين، أو من أفريقيا عن طريق مصر. صنع منه الفينيقيّون صناديق
صغيرة، وتماثيل وزخرفوها. ووجدت أعداد ضخمة من مصنوعات العاج في النّواويس والمقابر، لأنّها كانت تودع مع الميّت. ومعظمها موجودٌ اليوم في المتحف البريطاني.
صناعة الخزفبرع الفينيقيّون في صناعة الخزف. وصنعوا منه كميّات ضخمة من الآنية والتّماثيل الصّغيرة. ولمّا كان اهتمامهم بالنّاحية التّجاريّة قبل كلّ شيء، لم يسهروا على إخراج تحفٍ فنّيّة، بل على إخراج
آنيةٍ رخيصة، وتماثيل مرغوبة في الأسواق. وتطوّرت صناعته حتّى جبلوا منه النّواويس. وأكثر الآنية الخزفيّة وجدت في المقابر، إذ حوت العطور أو لوازم معينة تُدْفن مع الميّت. وبعض الآنية
الّتي وجدت في "كفر جرَّه" (بالقرب من صيدا) تدلّ على أنّهم توصّلوا إلى جعل الخزف رقيقًا متماسكًا لا بل رنّانًا وفي ذلك الكمال.
صناعة السّفنإنّ العامل الأساسيّ لازدهار صناعة السّفن، هو توفّر المادّة الأوّليّة، ألا وهي الخشب. واعتماد
الفينيقيّين على البحر في تنقّلاتهم وتجارتهم اضطرّهم إلى تطوير هذه الصّناعة، فانتهوا إلى المراكب الكبيرة. وهذه تنقسم إلى فئتين: مراكب تجاريّة ومراكب حربيّة. والمركب التّجاري طويل، يجلس في كلِّ جانبٍ منه صفٌّ أو اثنان من المقذّفين حسب حجم السّفينة. مقدّمته مرتفعة تنتهي برأس
حيوان. وفي وسطه سارٍ يحمل شراعًا. أمّا المركب الحربي فمقدّمته حادّة معدّة للصّدام. وتحمل المراكب في مؤخّرتها عارضتين طويلتين تقومان مقام الدّفّة. وذاع صيت الأساطيل الفينيقيّة. حتّى
غدت فينيقيا قوّة بحريّة تطمع بها جميع الإمبراطوريّات المجاورة في مصر وما بين النّهرين وفارس. وعن مراكب قرطاجة نقلت روما نماذج مراكبها فيما بعد.
ميزة الصّناعة الفينيقيّةإذا استثنينا صناعة السّفن، نجد أنّ مُجمل المصنوعات الفينيقيّة تمتّ بصلةٍ وثيقةٍ إلى الكماليّات. شأن الزّجاج، والصّباغ الأرجواني، والخزف والعاج. احتكروا بعضها (كالأرجوان) وضخّموا أسعاره.
وحين قصّروا حيال براعة غيرهم في المصنوعات، عمدوا إلى إخراج نماذج تجاريّة غير متقنة ولكنّها سهلة التّصريف كالمصنوعات الخزفيّة مثلاً. ومعظم النّماذج المعتمدة لديهم كانت صغيرة الحجم، سهلة الحمل، لا خوف من عطبها في المراكب. وهذا ما يفسّر توزّع المنتجات الفينيقيّة في
كلّ أنحاء المتوسّط، أو في البلاد الدّاخليّة التي اتّجرت معهم. وما اعتماد هذه الصّناعات وإتقانها إلاّ في سبيل تحاشي شرائها من الخارج، لئلا يحدّ شراؤها من أرباحهم. فلم يكن الفينيقيّون صلة وصلٍ
فقط، بل غدوا المنتجين لهذه المصنوعات الكماليّة. والطّبيعة بدورها لم تكن لتهيئ فينيقيا لأيّ دورٍ صناعيّ، وبالرّغم من ذلك استطاع الفينيقيّون أن يأتوا الكثير من المنتجات الصّناعيّة. وحتّى في تقليد صناعات غيرهم، أضفوا على إنتاجهم مسحة من الإتقان البارع، ممّا يدلّ عليه صفاء زجاجهم
وتلوينه واستعماله مكان الحجارة الكريمة. وصناعة السّفن كانت المدى الأرحب لإبراز براعة
الفينيقيّين الصّناعيّة، إذ تضافرت لإتقانها جميع العوامل البشريّة والطّبيعيّة؛ من خشب وخبرة ملاحيّة ومعلومات جغرافيّة وفلكيّة وملاءمة السّاحل للصّيد والسّفر.