أسرار العلاقة الثنائية بين القاهرة وجوبا
أشرف أبوالهول
من المؤكد ان الحرب الأهلية الطاحنة التي تشهدها دولة جنوب السودان الوليدة منذ منتصف الشهر الماضي والتي أسفرت عن سقوط آلاف القتلي والمصابين من الجانبين تؤثر سلبا علي مصر رغم بعد المسافة بين القاهرة وجوبا وعدم وجود حدود مشتركة بين الدولتين ولكن الحقيقة التي لايعرفها الكثيرون هي أن دولة جنوب السودان تعد واحدة من أهم دول حوض النيل لمصر ويمكن من خلالها زيادة حصة مصر من المياه كما أنها لم توقع حتي هذه اللحظة علي أتفاقية عنتيبي التي تعتدي علي الحقوق التاريخية والطبيعية للمصريين في النهر العظيم وهو مايفسر التحرك المصري السريع لإرسال مساعدات إنسانية لشعب جنوب السودان.
وطبقا لأرقام الخبراء فإن دولة جنوب السودان بها أهم تجمع لمياه النيل في منطقة بحر الغزال حيث يسقط عليها540 مليار متر مكعب من المياه سنويا, كما يسيطر الجنوب علي كامل الإيراد المائي من الهضبة الاستوائية والمقدر بـ29 مليار متر مكعب سنويا منها15.5 مليار متر مكعب من روافد النيل الأبيض و18.5 من روافد السوباط وتمتاز الأرض في الجنوب السوداني بانها مستوية تسمح بمعدلات عالية لتدفق المياه وبالتالي فلابد من الحفاظ بعلاقات وثيقة مع جوبا لقطع الطريق علي أي طرف خارجي يحاول إقناعها باقامة سدود تؤثر علي حصة مصر من المياه.
وتتعاظم أهمية جنوب السودان بالنسبة لمصر لأنها تتمتع بوفرة مائية تجعلها في الظروف العادية لاتسعي إلي الحاق الضرر بحصة القاهرة من مياه النيل المارة عبر أراضيها حيث تهطل الأمطار بغزارة عليها لفترة تستمر180 يوما في السنة وبالتالي فهي تسجل أعلي معدلات لتساقط الأمطار في المنطقة وتقوم عليها الزراعات المطرية وأنشطة الرعي, ويري البعض أنها تزيد كثيرا عن احتياجات جنوب السودان وهو ما يفتح المجال للتعاون بينها وبين مصر التي تستطيع تقديم المساعدات الفنية لها في مجالي الزراعة والري وحفر الآبار
وتأكيدا علي اهمية جنوب السودان لمصر وتأثيره علي الأمن المائي لمصر فان علينا أن نتذكر مشروع قناة جونجلي, الذي سعت مصر والسودان لحفرها منذ عام1975 بهدف توفير قرابة7 مليارات متر مكعب من مياه النيل الأبيض تقسم مناصفة بين القاهرة والخرطوم بدلا من ضياعها في أحراش ومستنقعات جنوب السودان بالاضاقة إلي تجفيف مليون ونصف فدان من المستنقعات الصالحة للزراعة ولكن المشروع تعطل بعد تفجر التمرد في جنوب السودان بقيادة الزعيم الجنوبي الراحل جون جارانج ضد نظام الرئيس السابق جعفر نميري بعد أن حاول فرض الشريعة الإسلامية علي الجنوبيين بالرغم أن معظمهم لايدين بالإسلام ويعيشون في ظل اوضاع أقتصادية مزرية تكشف تمييزا واضحا للشماليين ذوي الأصول العربية ضد الجنوبيين ومعظمهم من قبيلتي الدينكا التي كان ينتمي إليها جارانج وخلفه سلفا كير ميارديت وقبيلة النوير التي ينتمي اليها الجنرال رياك مشار قائد التمرد الحالي علي نظام سلفا كير وقد توقف المشروع الطموح بعد ان قام الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان بمهاجمة موقع القناة وطرد المهندسين المصريين وإحراق حفار المشروع بالرغم من أنه كان قد تم تنفيذ نحو70% من قناة جونجلي بطول265 كيلومترا من إجمالي طول القناة البالغ360 كيلومترا, وكان الزعيم السابق للحركة الشعبية لتحرير السودان جون جارانج من أبرز المعترضين علي المشروع.
ومنذ ماقبل الإعلان عن ميلاد دولة جنوب السودان رسميا في منتصف عام2011 أكد سلفا كير رئيس حكومة الجنوب حرصه علي طمأنة القاهرة ففي خلال زيارة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عصام شرف إلي جوبا في أبريل2011( قبيل إعلان الانفصال رسميا) صرح سلفا كير أنه لا تأثير أو مساس بحصة مصر من النيل وأن توفير احتياجات الجنوب من المياه سيتم في إطار حصة السودان الموحد و التي تقدر بـ18.5 مليار متر مكعب طبقا لاتفاقية1959 وأنه لا مساس بحصة مصر إطلاقا من مياه النيل.
وبعد ثورة الثلاثين من يونيو في مصر أختارت القاهرة السودان بشطريه الشمالي والجنوبي لتكون ضمن أول جولة خارجية يقوم بها وزير خارجيتها الدبلوماسي المخضرم الدكتور نبيل فهمي, وأكدت الزيارة الأهمية القصوي التي توليها القاهرة لعلاقاتها مع جوبا حيث جاءت وسط أنباء عن قرب قيام النظام زيارة جنوب السودان بتوقيع أتفاقية عنتيبي وبعد الزيارة تراجعت جنوب السودان عن التوقيع رغم علاقاتها الوثيقة باثيوبيا وكينيا واللتين تعدان المحورين الرئيسيين في محيطها الأفريقي.
والحقيقة التي يجب التأكيد عليها هي ان أهتمام مصر بجنوب السودان بدأ مبكرا وبعد تأكد القاهرة من أن الحفاظ علي السودان موحدا اصبح مستحيلا خاصة بعد اتفاقية نيفاشا2005 ولذلك قام الرئيس المخلوع حسني مبارك بزيارة جوبا لأول مرة في نوفمبر2008 وقد مثلت الزيارة حدثا بارزا واعتبره المحللون دعما مصريا لجنوب السودان ولم ينس مبارك ان يعرض علي جنوب السودان مشروعات تنموية املا منه في ان يغض جنوب السودان الطرف عن الانفصال, وعندما تعذر ذلك لم يكن امام القيادة المصرية إلا ان تؤكد في26 أكتوبر2009 التزامها بما يقرره غالبية الشعب السوداني في الجنوب, ولكنها بدأت تلوح بتخويف جنوب السودان من سلبية النتائج التي تترتب علي قيام دولة لا تملك البنية الأساسية والمؤسسات الضرورية لقيام دولة مستقلة قابلة للاستمرار, كما انها لم تنس التحذير من مخاطر الاقتتال القبلي علي مصير الدولة الوليدة اذا أصبح خيار الانفصال أمرا لا مفر منه و شاركت مصر منذ ذلك الحين بطريقة عملية في دفع عجلة التنمية والمشروعات الخدمية ومشروعات البنية التحتية, فأقامت عيادة طبية مصرية بجوبا ووضعت حجر الأساس لجامعة الإسكندرية بالجنوب, وأقامت محطات للكهرباء في عدة مدن بالجنوب, ومنحت أبناء الجنوب300 منحة سنويا للدراسة بالجامعات المصرية, إضافة إلي العمل علي تطهير النيل من أجل الملاحة والمشاريع المشتركة في مجال المياه والتعليم والتدريب وتبادل الخبرات والتعاون المشترك في جميع المجالات. بعد الانفصال والذي تزامن مع تولي حكومة الدكتور عصام شرف بعد ثورة25 يناير كثفت الحكومة المصرية تحركاتها جنوبا وقامت أولا بترفيع تمثيلها من قنصلية الي سفارة.
وبايعاز من القوات المسلحة والخارحية بمصر اعلنت القاهرة في بداية عام2013 عن تقديم500 منحة دراسية
حيث استوعبت الجامعات المصرية طلابا جنوبيين كانوا يدرسون في جامعة الخرطوم ونتيجة للخلافات بين شمال وجنوب السودان اضطر هؤلاء للعودة لبلادهم فكان البديل لهم اكمال دراستهم في دولة تتحدث بالعربية فأبدت مصر استعدادها لاستضافتهم, ويبلغ عددهم حوالي2400 طالب.
ووقعت الحكومة المصرية عددا من اتفاقيات التعاون مع الجانب الجنوبي وكان آخر ثمار هذا التعاون هو تقديم مركز القاهرة الإقليمي للتدريب علي تسوية المنازعات وحفظ السلام في إفريقيا برنامج رفع الكفاءة والتدريب للحكومة الجنوبية. ويتضمن البرنامج1350 فرصة تدريبية علي مدار3 سنوات في مجالات حل النزاعات وبناء السلام والتفاوض وإدارة الأزمات.
كما وقعت مصر مع جنوب السودان في نهاية شهر مايو الماضي عقد تنفيذ مشروع مزرعة سمكية نموذجية هي الأولي من نوعها في جنوب السودان وتعد البداية لمشروعات أخري بمجالي الثروة السمكية والحيوانية لا سيما أن مصر تعتزم إنشاء مجزر آلي لتميكن جنوب السودان من الاستفادة من ثروتها الحيوانية.
كما شجعت مصر رجال الأعمال المصريين للدخول بأموالها الي جنوب السودان فدخلت شركة للكهرباء إلي سوق جنوب السودان التمويل مشروعات للكهرباء تقدر بنحو200 مليون دولار بالتعاون مع وزارة الكهرباء الجنوبية..
الي جانب مشروع إنشاء منتجع سياحي وسوق تجارية تنفذه مجموعة أستثمارية ومشروع لشركة لصناعة مواسير الصرف الصحي لبناء محطة لتنقية المياه بطاقة250 ألف متر مكعب وتطوير شبكتي المياه والصرف الصحي في جوبا وهناك مشروعات لتصدير المنتجات المصرية لمستثمرين صغار في اطار ما يعرف بتجارة الحاويات أو كبار مثل شركة دولي التي تقوم بتصدير المكرونة والصلصة لجنوب السودان وتستحوذ علي حصة سوقية تتراوح ما بين60 إلي70%. وفي مجال الزراعة دخلت إحدي الشركات المصرية الكبري حيث استأجرت مساحة220 ألف فدان في ولاية الوحدة لإقامة مشروعات زراعية..
ولايخفي علي أحد ان وجود علاقات طيبة بين القاهرة وجوبا يمكن أن يخفف أي توتر بين مصر واثيوبيا حيث تربط إثيوبيا بجنوب السودان علاقة متميزة, نتيجة السنوات الطوال التي أمضاها قادة حركات التمرد الجنوبية, وخصوصا الشعبية لتحرير السودان في أديس أبابا, التي اتخذوها منطلقا لتمردهم علي الحكومة المركزية في الشمال. ويصل طول الحدود بين الجنوب السوداني واثيوبيا إلي1606 كيلومترات, وتعد الحدود بين جنوب السودان وإثيوبيا الأكثر غني بالتداخل القبلي ليصل عدد القبائل السودانية والإثيوبية علي جانبي الحدود إلي65, أبرزها قبيلتا الأنواك والنوير.
وأخيرا فأنه من المؤكد ان معظم الطبقة المتعلمة والمثقفة في جنوب السودان تشعر بالتعاطف مع مصر التي احتضنتهم سواء خلال سنوات الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب او قبلها حيث تلقوا التعليم في مدارس وجامعات مصر ومارسوا شعائرهم الدينية بحرية علي أراضيها وعملوا واقاموا بين اهلها بلا تمييز أو خوف وهو ماسينعكس علي العلاقات المستقبلية بين البلدين خاصة رد الفعل المصري السريع ازاء الاقتتال الداخلي بين قبيلتي الدينكا والنوير نتيجة النزاع السياسي بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار.)
http://www.ahram.org.eg/News/1060/88/252483/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%A8%D8%A7.aspx